مصادفة اطلعت على حكم صادر من محكمة النقض، دائرة الأربعاء، إيجارات “ب”، الصادر بجلسة الأربعاء الموافق 19 من مايو لسنة 2021، والذي قضى في منطوقه “نقضت المحكمة الحكم المطعون فيه، وأحالت القضية إلى محكمة استئناف القاهرة، وألزمت المطعون ضده المصروفات ومبلغ مائتي جنيه مقابل أتعاب المحاماة”. وهو الحكم الذي يعني أن القضية لم تنته بعد بحكم نهائي يعيد الحق لأصاحبه، ولم يكن ذلك السبب لتطرقي لهذا الموضوع، ولكن السبب يكمن فيما ورد بأوراق القضية، والتي يدور ملخصها أن أساس النزاع قد بدأ سنة 1993 وما يؤكد ذلك أن الدعوى الأصلية تحمل رقم 13749 لسنة 1993 إيجارات جنوب القاهرة الابتدائية، وذلك بطلب فسخ عقد إيجار مؤرخ في 1 / 4 / 1963، وتم استئناف الحكم الصادر في هذه القضية برفض الدعوى، وذلك بموجب الاستئناف رقم 21244 لسنة 111 قضائية أمام محكمة الاستئناف العالي بالقاهرة، وقد قضت المحكمة الاستئنافية بتأييد الحكم المستأنف بتاريخ 16 / 5 / 1995، وبالتالي تم الطعن بالنقض سالف الذكر على ذلك الحكم.

محكمة استئناف القاهرة
محكمة استئناف القاهرة

وملخص الأمر أن سنوات هذا النزاع الذي لم ينته بعد حتى بعد حكم النقض قد استمرت ستة وعشرين عاما ولم يتم الفصل بحكم منهي للنزاع، بل ما زال هناك تقاض من جديد قد يمتد لبضع سنوات ربما تكون فاصلة في أمر المنازعة حول فسخ عقد الإيجار من عدمه.

وإذ إن موضوع إطالة زمن التقاضي لا يمثل حالة فردية على الرغم من كونه لا يكون متعمدا من أي جهة من جهات التقاضي، إلا أنه يمثل مشكلة عامة وآفة سلبية تقابل أصحاب الحقوق وذوي المصالح، ولابد وأن نقرر أنها مشكلة اجتماعية تخص الدولة بمؤسساتها، بحسب كون القضاء أحد أهم مرافق الدولة، وبالتالي وجب على الدولة السعي نحو حلها، ولا يتحقق هدف الحل أو الإصلاح إلا بأن يكون هناك فصل سريع ومنجز في القضايا لا يؤدي إلى إهدار قيمة الحق المتنازع عليه.

أما إذا حاولنا التفحص في أسباب تلك المشكلة، فيجب أن ننظر بعين الاعتبار إلى أطرافها وهم المتقاضون ويمثلهم المحامون ومرفق القضاء باعتباره هو المسؤول عن الفصل في القضايا، وثالثهم القانون الذي يتم تطبيقه على القضية محل النزاع، ولا يمكن بحال من الأحوال تحميل طرف بمفرده عبء هذه المشكلة بمفرده، إذ إن العناصر الثلاثة تعتبر مشتركة في إحداث الإطالة غير المرغوب فيها للنزاع، إذ إن القوانين ذاتها لم تضع في الغالب وقت محدد للفصل في الدعاوى وخاصة المدنية منها، وهو الأمر الذي لا يجعل هناك التزاما على عاتق السلطة القضائية بحتمية الفصل في النزاع خلال مدى زمني محدد، كما أن هناك بعض أنواع المنازعات قد تكون بحاجة للاستعانة بعناصر فنية من ذوي الخبرات، ولا يتم وضع سقف زمني لأهل الخبرة لوضع تقاريرهم الفنية خلالها، وهو الأمر الذي قد يطيل النزاع لسنوات، كما أن نظام الإعلان عن طريق المحضرين وما يتم به من فشل إداري يجعل من مسألة اتصال المحكمة بموضوع الدعوى بمرهون بعمل فئة المحضرين، وقد يمتد الأمر لأشهر، هذا بخلاف تذرع بعض المحامين بسبل لتأجيل الفصل في الدعوى تحت حجج معينة، وهو ما يؤدي إلى ترهل مرحلة التقاضي، هذا بخلاف طرق الطعن على الأحكام، والتي قد تؤدي إلى إعادة نفس الدوائر والمحطات السابقة مرة جديدة.

ولا يقف الموضوع عند حدود التقاضي المدني فقط، ولكنه يمتد إلى القضاء الجنائي، ويكفي أن نورد مثالا لذلك إطالة وقت الحبس الاحتياطي دون إحالة القضايا إلى المحاكم المختصة، كما أن في إطالة الفصل في الطعون بالنقض في الأحكام الصادرة خصوصا بالعقوبات السالبة للحرية، ما يجعل من الطعن سبيلا غير محقق لهدفه، لاستنزاف المدد المحكوم بها قبل الفصل في الطعن، خصوصا في المدد التي لا تجاوز ثلاث سنوات.

الحبس الاحتياطي
الحبس الاحتياطي

وإذ إن الأصل في التقاضي أنه حق مكفول للكافة، قد أقرته كافة دساتير العالم، وأقرته الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، والتي زادت بعضها على أن يكون الفصل في الدعاوى خلال وقت مقبول، ويكفي لذلك مثالا ما جاء بنص المادة التاسعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية في فقرتها الثالثة، من وجوب تقديم المتهمين المحتجزين على المحاكمة على وجهة السرعة، وأن تتم محاكمته خلال مدة معقولة، وقد جاء الدستور المصري في نسخته الأخيرة بمعنى مقارب للمعنى السابق في نص المادة 97 منه، وذلك بالتزام الدولة بتقريب جهات التقاضي والعمل على سرعة الفل في القضايا، حتى ولو كانت ألفاظ نص المادة الدستورية لم توقع التزاما محددا على الدولة، إلا أن مفهوم النص يدفع إلى ذات المعاني، وبالتالي يجب أن يتم تعديل النصوص القانونية بما يضمن تفعيل النص الدستوري بشكل نافذ ومحقق للغرض منه.

وأعلم أن أمر تطوير التقاضي بما يضمن سرعة الفصل في القضايا وتحقيق العدالة الناجزة أمر ليس بالهين، وأنه يحتاج على مجهودات متتابعة لا تقف عند حد من كافة الأجهزة، حيث يجب مواجهتها بتبسيط الإجراءات وإدخال تشريعات من شأنها أن تسهل سرعة تحقيق العدالة الناجزة، كذلك فإن الحكومة عليها مسئولية كبيرة في أن تضرب المثل والقدوة في إنفاذ القانون وتحقيق العدالة فيجب إقامة دورات تدريبية للمسئولين لحسن فهم وتطبيق القانون، وأن تسارع في تطبيق أحكام القضاء، ليس فقط في القضايا المتداولة التي تصدر فيها الأحكام بل أن تطبق المبدأ نفسه الذى استقر بمبادئ قضائية على كل المنازعات المثارة وبذلك يقل عدد القضايا أمام المحاكم ويشعر المواطن بسيادة القانون وإنفاذه وتحقيق العدالة في ضوء مبادئ الدستور الذى ينص على تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين، إذ أن غياب الفصل السريع في القضايا على نحو منجز ومحقق لأهداف التقاضي بما فيها الترضية القضائية، يخل مفهوم أساسي وهو الأمن أو الأمان القضائي، وهو الذي يبعث ويزيد من الثقة بين المتقاضين والسلطة القضائية، وبالتالي السلطة العامة للبلاد.

وإذا كانت الدولة تسعى إلى مواكبة العصر في ميكنة إجراءات التقاضي واستخدام التقاضي عن بعد كأحد الأساليب الحديثة في منظومة تطوير العمل القضائي، إلا أن الأهم والأجدر بالسعي الدؤوب هو العمل على إيجاد الحلول لمشكلة التكدس في القضايا، وعدم الفصل السريع فيها، سواء كان ذلك بتطوير القوانين بما يتناسب مع ذلك الأمر بشكل لزومي، وتحديث السبل الإجرائية التي تعرقل سبل التقاضي، وكذلك مشاكل المعاونين الفنيين، أو المساعدين القضائيين وأصحاب الخبرات الذين يتم الاستعانة بهم، كذلك العمل على زيادة أعداد القضاة ودوائر المحاكم وإعدادها بما يضمن حسن نفاذ القضاء وسرعة الفصل في القضايا العالقة.