الاقتصاد الأخضر والمساحات الخضراء والمشروعات الاستثمارية أصبحت في صندوق واحد. فلا تخلو خطة تنموية سواء طويلة المدى أو حتى قصيرة من فرص استغلال الحدائق والمتنزهات والأماكن الخضراء. هنا يبدأ الجدل حول كيفية الحفاظ على تلك المساحات كما هي وفي الوقت نفسه إحداث تطوير وتنمية المنطقة لجذب الرواد.

هذا الشجار الافتراضي نزل إلى أرض الواقع في عدة مواقع، آخرها حديقة الأسماك، وهي واحدة من أشهر وأقدم منتزهات القاهرة. فعندما وضعتها الحكومة ضمن خطة التنمية المستدامة “مصر 2030″، وقعت في مأزق: كيف توفِّر خدمات راقية في منطقة مكتظة بالسكان.

هنا لم تجد الحكومة غير استقطاع مساحة نصف فدان من الحديقة البالغة مساحتها تسعة أفدنة ونصف الفدان وتحويله إلى منطقة انتظار للسيارات، تخص زوار الحديقة. في الخطة الاستثمارية يعتبر إنشاء مناطق خدمات متطورة أمرًا مهمًا، وفي مشروع “اتحضر للأخضر” فإن اجتزاء مساحة خضراء “جريمة”.

في الاستراتيجية القومية للتنمية المستدامة تستهدف الحكومة تغيير السلوكيات ونشر الوعي البيئي. وحث المواطنين على المشاركة في الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية لضمان استدامتها؛ حفاظًا على حقوق الأجيال القادمة.

الدكتور مصطفى وزيري الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، قال في تصريحات تلفزيونية إن حديقة الأسماك ليست الوحيدة. وإنما سبقتها حديقة الميرلاند، وحدائق المنتزة. لذلك تقدمت النائبة سميرة الجزار، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بسؤال برلماني إلى رئيس مجلس الوزراء، ووزير التنمية المحلية، ووزيرة البيئة، بشأن وجود أعمال إنشائية ونصب تذكاري بحديقة المريلاند. كما رصد المواطنين على مواقع التواصل الاجتماعي ما قالوا إنها علمية إزالة أشجار حدائق المنتزه وتحويلها لكافيهات.

خطة التطوير وحتمية الهدم        

وزيري قال إن المخطط لحديقة الأسماك هو عملية تطوير شاملة لكافة عناصرها. وإعادة الجبلاية مرة أخرى لوظيفتها الأساسية وهي عرض نوادر الأسماك كما كانت. وأشار إلى أن اللجنة الدائمة وافقت على استغلال مساحة نصف فدان من مساحة الحديقة كي يتم استخدامها كمنطقة انتظار سيارات. وذلك لأن أحد المستثمرين سيقوم بعملية تطوير كاملة للحديقة، وعمل كافيتريات ومطاعم، وهو ما سيجعل الزيارة لها في تزايد.

مصطفى وزيري: المخطط لحديقة الأسماك هو عملية تطوير شاملة لكافة عناصرها. وإعادة الجبلاية مرة أخرى لوظيفتها الأساسية وهي عرض نوادر الأسماك

وتحدث وزيري عن عملية تطوير شاملة تضمن توافر مكان لانتظار سيارات الزوار، وأتوبيسات الرحلات، وغيرها من وسائل النقل. والتي ستكون ضرورة للحديقة بعد التطوير. ويقول المسؤول إن المكان الذي جرى تخصيصه خالٍ من الأشجار، وكل ما يخص الأثر على حد قوله. ولكن تلك التصريحات لم تحتوي حالة الغضب التي تصف مشروع الحكومة التطويري بأنه عملية هدم للأخضر.

وبعد الحديث عن “الجراج” ترددت أنباء أيضًا عن شطب الحديقة من التراث والمناطق الأثرية. ليرد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار على هذا الأمر بأن الحديقة مسجلة منذ عام 2010 ولن يتم إخراجها. لكنه أشار إلى أن حديقة الأسماك جرى تسجيل مساحتها بالكامل كتراث، هو خطأ وقعت فيه اللجنة، بضم حدائق خارجية.

الحديقة يرجع تاريخ يرجع إنشائها لعام 1867

حالة الغضب تتناسب مع قيمة الحديقة التي يرجع تاريخ يرجع إنشائها لعام 1867، حين طلب الخديوي إسماعيل من مدير متنزهات باريس إحضار أحد الخبراء لتصميم الحديقة. وتبلغ مساحة الحديقة مضافاً إليها مجموعة الحدائق النباتية المجاورة لها نحو تسعة أفدنة ونصف الفدان. وصممت على هيئة جبلاية وتم استخدام مادة الطين الأسوانلي والرمل الأحمر والمواد الداعمة على هيئة خياشيم السمك.

“أمُّ الأزمات”.. كُلفة الزحام كفيلة ببناء مدن صديقة للبيئة

المدافعون عن هذا التوجه الحكومي يستندون إلى أرقام خيالية باعتبارها خسائر الزحام المروري، وهو السبب الرئيس وراء مشروعات الطرق والكباري. لذلك فإنّ مشروعات التطوير للحد من الازدحام تفرض نفسها على المناطق السياحية والمنتزهات، باعتبارها كثيقة الجذب والتكدس.

البنك الدولي قدر تكلفة الازدحام المروري في القاهرة الكبرى بأكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2014. وهي نسبة مرتفعة،باعتبار أن تكلفة الازدحام المروري في نيويورك شكلت 0.07% من الناتج المحلي الإجمالي

هذا ما أكده إبراهيم الدميرى وزير النقل الأسبق ورئيس لجنة النقل بالمركز القومي للبحوث سابقا. حين قدر خسائر الازدحام المروري بـ175 مليار جنيه، من بينها 84 مليارًا تمثل قيمة الوقت الضائع في الرحلة اليومية. وأن خسائر الدولة جراء التكدس المروري بالقاهرة الكبرى وحدها 47 مليار جنيه.

البنك الدولي قدر تكلفة الازدحام المروري في القاهرة الكبرى بأكثر من 3% من الناتج المحلي الإجمالي في 2014. وهي نسبة مرتفعة،باعتبار أن تكلفة الازدحام المروري في نيويورك شكلت 0.07% من الناتج المحلي الإجمالي. وأظهرت الأرقام أن الشخص الواحد في القاهرة الكبرى يتحمل 2400 جنيه في المتوسط، جراء الازدحام المروري.

هذه التكاليف التي تتضمن أرقامًا افتراضية أيضًا، تكفي لبناء مدن ذكية وصديفة للبيئة، وفق ما يقول المؤيدون لتوجهات حل الاختناق المروري تحت أي ظروف باعتبارها “أم الأزمات”.

في المقابل.. المساحات الخضراء تنقذ حياة البشر

لكن رغم ذلك، يدافع المعارضون لمس أي مساحة خضراء، حتى لو بهدف التطوير، بأنّ مدناً عالمية مزدحمة تواجه أزمات مرورية مماثلة لم تلجأ للتجريف لحل تلك الأزمة. ومنها نيويورك التي تتوسطها جزيرة مانهاتن، وبها عدد من ناطحات السحاب والعمارات المرتفعة، وتضم أيضًا حديقة السنترال بارك الضخمة. وأيضًا المدن القديمة فى أوروبا، لندن وباريس وأمستردام وروما، بها المساحات الخضراء التي لم يقترب منها أحد.

وتشير دراسة طبية إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في أحياء تحتوي على مساحات خضراء أكبر ربما يقل توترهم وخطر إصابتهم بأزمات قلبية وجلطات دماغية. بالمقارنة مع سكان الأحياء التي لا تتوافر فيها مناطق خضراء كثيرة.

وربط باحثون في دورية جمعية القلب الأمريكية بين المساحات الخضراء في المناطق السكنية وتراجع خطر الوفاة نتيجة مرض في القلب. بالإضافة إلى مشكلات في الجهاز التنفسي وتراجع خطر دخول المستشفى؛ بسبب حالات مثل الأزمات القلبية والجلطات الدماغية.

وقوع أكثر من 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً مرتبطة بتلوث الهواء، كما ربط باحثون بين المساحات الخضراء في المناطق السكنية وتراجع خطر الوفاة نتيجة مرض في القلب

وتقول منظمة الأمم المتحدة إن الحدائق والمساحات الخضراء والمجاري المائية أماكن عامة مهمة في معظم المدن. فهي توفر حلولاً لما تنتجه الحضرنة السريعة المفتقرة لمقومات الاستدامة من آثار في الصحة والسلامة. والفوائد الاجتماعية والاقتصادية التي تحققها المساحات الخضراء الحضرية هي على نفس القدر من الأهمية. وينبغي أن ينظر إليها في سياق القضايا العالمية مثل تغير المناخ، والأولويات الأخرى المنصوص عليها في أهداف التنمية المستدامة. بما في ذلك المدن المستدامة والصحة العامة والمحافظة على الطبيعة.

ويمكن أن تتيح زيادة عدد المساحات الخضراء وتحسين نوعيتها تخفيف التلوث التي تؤدي إلى آثار شديدة عالميا. وتساهم في وقوع أكثر من 7 ملايين حالة وفاة مبكرة سنوياً مرتبطة بتلوث الهواء.

هنا تبقى المعادلة صعبة، كيف يحدث التطوير والتنمية وتقليل الازدحام المروري. وفي الوقت نفسه الحفاظ على المساحات الخضراء، التي تساعد صحة البشر وتقلل الوفيات.

هل يكون الحل في الحوار المجتمعي؟

لذلك، وجد الدكتور محمد أبو الغار الرئيس السابق للحزب المصري الديمقراطي، أن غياب الحوار المجتمعي هو العقبة الرئيسية. ولفت إلى أن “قطع الأشجار يتنافى مع الحملة التي أطلقتها الحكومة. كما أن مصلحات التطوير يتم ترجمتها بحملات لإزالة الحدائق لتحل محلها مشاريع استثمارية، هو ما يفسر حالة الغضب”.

ويشير أبو الغار إلى أن الأمر لم يعد قطع الأشجار لتوسعة الطريق أو إنشاء الكباري فقط. بل امتد للأشجار المسورة داخل الحدائق، ومنها أشجار حديقة الحيوان فى الجيزة، والقضاء على حديقة الميريلاند، وإزالة حديقة الطفل بالمنصورة.

ويشير أبو الغار إلى أن إزالة الأشجار يتزامن مع مخاطر بيئية محتملة خاصة مع أزمة المناخ. ونوه بأن الشجرة متوسطة النضج تستطيع استهلاك 13 رطلاً من الكربون الضار كل عام. وبالتالى الأشجار تساهم فى منع ارتفاع درجة حرارة الأرض والحفاظ على البيئة وحياة الإنسان. كما أن زيادة التلوث تمنع السياحة، فمقياس التلوث أصبح الآن يذاع مع درجات الحرارة المتوقعة.

سميرة الجزار: من المهم إجراء حوار فى حالة إصدار أوامر من شأنها إثارة غضب المواطنين خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحدائق يرتبط بها السكان ارتباطا تاريخيا

البرلمانية سميرة الجزار تتفق مع أبو الغار في غياب الحوار المجتمعي حول عمليات التطوير. وقالت: “من المهم إجراء حوار فى حالة إصدار أوامر من شأنها إثارة غضب المواطنين خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحدائق يرتبط بها السكان ارتباطا تاريخيا”. وضربت مثالاً على ذلك بحدائق: الميرلاند، والحيوان والأسماك والأندلس والزهرية.

وأضافت: “لدى عدة أسئلة: من أصدر القرار بالتعديلات والتطوير بحديقة الميريلاند؟. وما أهمية شخصية النصب التذكاري لدرجة هدم ساحة التزلج (الباتيناج) فى حديقة الميريلاند؟. وهل تم إخطار وزارتي البيئة والتنمية المحلية بهذا التطوير”.

عمرو السنباطي، عضو مجلس النواب بمصر الجديدة، علق باقتضاب على ما ورد حول حديقة الميرلاند بأن ما يتم سيكون ضمن عمليات تطوير الحديقة، وليس إغلاقها. وتعود تلك الحديقة لعام 1945 في عهد الملك فاروق، وكانت تسمى في هذا الوقت “نادي الخيل”.

وتبلغ مساحة حديقة الميرلاند 50 فدانا، وجرى تطوير نحو 22 فدانا منها. بحسب بيان سابق لمحافظة القاهرة، فتم إنشاء بحيرة ونافورة راقصة، شهدت تشغيل تجريبي في مايو الماضي، إضافة لمجمع سينمات ومطاعم.

محاولات سابقة

هذا الجدل ليس حديث العهد، ففي عام 2007، شهد شارع فرج صدقى بحي المعصرة بالقاهرة نزاعًا بين الأهالي ومسؤولى الحي. وذلك بعد إصدار رخصة لأحد الأشخاص للبناء فى حديقة موجودة وسط الكتلة السكنية بالشارع. وحينها تجمهر الأهالى بالحديقة ورفضوا تسليمها للشخص الذى يدّعى ملكيتها. وذلك بحضور عدد من مسئولى حى المعصرة واثنين من أفراد الشرطة.

الجهة المنفذة أكدت أنها تمتلك معدات متطورة تقوم بإزالة أي شجرة في محاور التطوير من جذورها، ثم يعاد زراعتها مرة أخرى

وعام 2019، علّقت ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة، على صور نُشرت عن قطع بعض الأشجار، خلال أعمال تطوير منطقة مصر الجديدة. وقالت حينها إنها تواصلت مع الجهة المنفذة لأعمال التطوير. والتي أكدت أنها تمتلك معدات متطورة تقوم بإزالة أي شجرة في محاور التطوير من جذورها، ثم يعاد زراعتها مرة أخرى، حفاظاً على هذه الأشجار المهمة والمظهر الحضاري.

أين يقف القانون؟

وبالرغم من أن القانون المصري يعاقب من يقوم بقطع الأشجار. لكن الأمر أصبح بمثابة ظاهرة متكررة يوميًا، تعج صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، بمنشورات عن منطقة أو حديقة في طريقها للاختفاء. كما أنّ الأمر لم يعد مقتصرًا على الجهات الحكومية التي ترغب في تنفيذ مشروعات استثمارية لكنها طال مواطنون يقتلعون الأشجار دون الاكتراث لفوائدها.

وينص القانون المصرى على معاقبة كل من يقوم بقطع الأشجار، وذلك ضمن قانون العقوبات بالمادة 162: “كل من قطع أو أتلف أشجاراً مغروسة فى الأماكن المعدة للعبادة أو في الشوارع أو فى المتنزهات أو فى الأسواق أو فى الميادين العامة بالعقاب بالحبس، وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه، ولا تزيد على خمسمائة جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين”.