وحيدة تمشي في شوارع القاهرة بصحبة كلبها الأليف بعد منتصف الليل. بعد أن رفضها والدها. بحجة أن عمرها تخطى الثلاثين عاما. وأن أسرته الجديدة بعد وفاة والدتها، أولى بالرعاية.

لكن فضلا عن قسوة الحياة فالأنسة “د” بطلة قصتنا. تعاني فصاما عقليا. تعيش عبره أفكارا مشوشة، وهلاوس. يزيدها بؤسا غياب المأوى، والشعور بالرفض.

والأنسة “د” أيضا ضحية عنف. فبادرت بالاتصال بالخط الساخن وطلب المساعدة بمركز النديم لمساعدة ضحايا التعذيب. ومن النديم تم التعاون مع مبادرة سند للدعم القانوني للنساء، ومؤسساتها المحامية نسمة الخطيب. التي استضافت الحالة في منزلها، بينما يجري البحث عن مأوى.

تقول نسمة الخطيب :”كانت حالة “د” النفسية شديدة الاضطراب. تجد صعوبة في التواصل، وتتلعثم في الكلام. إلى درجة أنني لم أستطيع الذهاب إلى النوم. فالفتاة بحاجة إلى مأوى ومساعدة صحية على الفور،

وفي النديم قام الممثل القانوني بكل جهده للتواصل مع وزارة التضامن. والعثور على مأوى ولكن لم يكن هناك أي رد”.

وزارة التضامن الاجتماعي
وزارة التضامن الاجتماعي

حاولت نسمة التواصل مع الأهل فما كان من والد الفتاة إلا أن حظر رقم هاتفها عندما علم بأنها من طرف ابنته. أما الأخت فقالت بوضوح أن والدها طردها أيضا من المنزل. ولا تستطيع رعاية شقيقتها المريضة.

بيوت ليست آمنة

وعليه اضطروا لوضعها بدار ضيافة مؤقتة. تدفع فيها عن اليوم 75 جنيها. وبعد التواصل مع وزارة التضامن، وتحديدا مسؤولة المنازل الآمنة. كان الرد هو الرفض بشكل قاطع لاستقبال الحالة.

عللت المسؤولة ذلك بالقول: نستقبل حالات عنف. ولكن لا نستقبل حالات بلا مأوى. حتى يضمنوا رجوع الحالة لأهلها.

وبعد شد وجذب اقترحت المسؤولة على نسمة التواصل مع “أطفال وكبار بلا مأوى”. الذي سارع مسؤولها في إرسال فريق طبي متطوع لتقييم حالة الفتاة.

العنف الأسري
العنف الأسري

وجاء تقييم حالتها بشديدة السوء. وأنها في حالة لعناية طبية عاجلة، فضلا عن مأوى مستقر، وآمن.

عندها حذر المسؤول من ارسال الفتاة حيث أماكن الإيواء الحكومية، قائلا: تضم هذه الأماكن مجموعة من كبار السن، وعليه سيتم استغلال الفتاة لخدمتهم، ما سيزيد من حالتها سوءا. وتابع: حرام ندخلها أماكن زي كده هتتبهدل.

أما المصحة فاحتمالية التواجد فيها قد يكون شديد السوء. وسوف يؤخر حالتها، فيما يبدو أن الفتاة بحاجة مساعدة عاجلة. حيث أن المصحة يتم الاعتماد فيها فقط على الأدوية الكيميائية. ولا يتم الاهتمام بالحالات على المستوى السلوكي لمتابعة التقدم في حالتهم.

وعليه قرر المسؤول الذي يستعين بالمتطوعين لمساعدة حالات العنف، والمرض العقلي أو النفسي. مساعدة الفتاة طبيا عبر المتطوعين. والتكفل بدفع ايجار إقامتها عبر مساعدات مادية قدمتها بعض الجمعيات الأهلية.

اشتراطات مستحيلة ومصير مجهول

 

المكان الذي تتواجد فيه الفتاة. وأي مكان مشابه يشترط وجود ضامن في حالة عدم وجود بطاقة هوية. ما تجده نسمة أمر بالغ الصعوبة في حالات العنف. أو حتى الهروب منه. فتترك الفتيات في الشوارع تواجه مصيرا مجهولا.

أما البيوت الأمنة التي تتبع للدولة فهم 8 بيوت، جميعها لا تستقبل الحالات التي بلا مأوى، أو بلا هوية، وحول هذا تقول نسمة ” رغم اختلاف الوضع من 2013 إلى 2021 من حيث الشكل في مسألة العنف، والبلاغات الخاصة بالمرأة. إلا أن التغيير ليس جذريا. موضحة أن التغيير يتم على الورق من حيث القوانين. أو حتى إنشاء الخطوط الساخنة التي لا يتم الرد عليها إلا بعد أيام من محاولة التواصل قائلة: “المسالة سد خانة وتقارير دولية شكلها حلو وخلاص”.

اشتراطات مستحلية تفرضها البيوت الأمنة
اشتراطات مستحلية تفرضها البيوت الأمنة

وتابعت: التعامل مع ملف المرأة يتم بطريقة “اللقطة”. حيث يهرع المسؤولين لمساعدة الحالات التي تصبح رأي عام. مثل حالة الفتاة التي أعلنت التضامن عن التكفل بها منذ أيام. بعدما تم تداول صورتها وهي بلا مأوى”. مضيفة: “ولا أعلم كيف يشترطون على النساء المعنفات ضرورة وجود مأوى للانتساب للدور الآمنة، وكيف يتفق ذلك مع كونها معنفة بالأساس”.

كما أن بعض محاولات الجمعيات الأهلية لمساعدة النساء يتم الوقوف ضدها من جانب الأهالي المعنفين. و بتواطؤ السلطة التنفيذية. وعن هذا تقول نسمة: “كثيرا ما تم توريطنا في اتهامات مزيفة بالاتجار في النساء والتحريض والدعارة وغيره” على سبيل المكايدة.

وفي بلد أعلن فيها المجلس القومي للمرأة عن وجود نحو 1.5 مليون إمرأة مصرية تتعرض للعنف الأسري سنويًا. يوجد حوالي 8 بيوت آمنة، تجعل شروطها المتشددة الإقامة فيها شبه مستحيلة على النساء. كما أن قدرتها الاستيعابية لكل بيت آمن تتراوح بين 12 و20 سريرا .

 طبقا لتقرير صادر في 2009، كان مجمل القدرة الاستيعابية لجميع البيوت الآمنة هو 214 سريرا.

وطبقا لدراسة مركز نظرة النسوي. فإن الحالات الموجودة في البيوت الآمنة هي حالات عنف جنسي أو جسدي سواء من قبل الأهل أو الزوج. ولكن تعاني هذه الملاجئ من قلة خبرة العاملين بها. وغياب فكرة “التمكين”. حيث تتعامل أغلب البيوت الآمنة على أنها أماكن للإقامة فقط ولا يوجد برنامج للتمكين الاقتصادي أو برنامج منتظم للدعم النفسي للنساء المعنفات ولا يقدم أيضا الدعم القانوني اللازم للناجيات إذا احتجن إليه. ويغيب جلسات الدعم النفسي لا تتم بشكل منتظم”، حسب ما ورد بدراسة “نظرة”.

البيوت الآمنة.. ضمانة النساء من العنف

الطبيبة ومديرة مركز النديم ماجدة عدلي تعتبر أن البيوت الآمنة ضمانة مهمة خاصة في البلاد التي تتعرض فيها النساء للتمييز، والعنف، مثل مصر. التي يصل فيها نسب النساء اللائي يتعرضن للضرب فقط 45%.

تفترض عدلي أن أي قانون يحمي النساء من العنف يجب أن يحتوي على مواد تمنع المعنف من الوصول إلى ضحيته. ولكن هذا لا يحدث، وعليه تكون البيوت الآمنة حلا لمثل هذه الحالات.

والبيوت الآمنة في رأي ماجدة لها العديد من الملامح التي يجب أن تتضمنها منها الحماية بشكل عاجل من الضرر الواقع عليهن. والدعم، فضلا عن التأهيل النفسي، والخدمة الطبية العضوية، وأخيرا الخدمة القانونية.

وعليه تؤكد عدلي أن جميع هذا الخدمات يمكن بسهولة توفيرها إذا ما تم عبر التنسيق بين المنظمات المدنية. والجهات الحكومية، ويكون ذلك عبر خط ساخن يسهل الوصول إليه.

ولكن على أرض الواقع وعبر عملها ترى ماجدة أن الطريق لتأمين وحماية النساء غير معبد على الإطلاق. فالاستجابة للحالات الطارئة. وكذلك تأهيلها ضعيف جدا. مؤكدة أن الأمر يجب أن يذهب للحكومة، والبرلمان، وعبر المؤسسات المتخصصة مثل المجلس القومي للمرأة، وكذلك الطفولة للمعنفات دون السن.

كما ترفض هذه الدور القليلة جدا بالأساس أغلب الحالات. أو تلجأ إلى إجبارها على الصلح مع ذويها، والعودة إليهم. ما يفاقم المشكلة، ويزيدها سوءا، فضلا عن غياب الرعاية النفسية، والإمكانيات المحدودة لتلك الدور.

البيوت الآمنة.. معايير

وتوضح ماجدة أن الأمر يجب أن يتجاوز الشكليات.  فوجود هذه الدور مسالة ضرورية. يجب أن تضع لها وزارة التضامن. وهي المسؤول عنها ميزانيات كافية، كذلك ضرورة وجود بيوت آمنة خاصة بالمعنفات جنسيا، بعيدا عن أشكال العنف الأخرى.

تضرب عدلي على مثال على ذلك. بنموذج الدنمارك التي توفر للمعنفات جنسيا مباني خاصة لهن تتضمن طبيبا شرعيا. وممثل للنيابة العامة. فضلا عن فريق الرعاية الصحية. الذي يقدم حتى الرعاية في حالة الحمل. بهدف حماية المجني عليها من الأثر السلبي لتكرار الواقعة. وكذلك حتى تصل الناجية بسرعة أكبر لإثبات الواقعة عبر الطب الشرعي. وكذلك حقها القانوني.

أما معايير تلك البيوت. فترى عدلي أن تلك البيوت يجب أن تكون آمنة بشكل حقيقي. وعلى قدر من الخصوصية. وكذلك معيار يخص الأطفال. حيث لا يسمح للنساء باصطحاب أطفالهم الذكور بعد سن 12 سنة. ووضعهم بدور رعاية.

وتقترح عدلي وجود ملحقات بالدور أو أدوار مستقلة. فيكون الأطفال على مقربة من والدتهم. حتى لا تسوء حالتهما النفسية سواء الطفل أم الام. إضافة إلى وجوب أن تغطي تلك الدور محافظات الجمهورية كافة.

وقالت عدلي :”لابد أن يتم وضع قضية العنف ضد المرأة على أجندة البرلمان التي طالما تجنب مناقشتها. حيث يجب أن يكون هناك قانون واضح. يحمي المرأة من العنف داخل المنزل. على مختلف علاقات القرابة، كما يجب أن تحتوي تلك القوانين على المادة التي تعرف العنف كما جاءت بالاتفاقيات الدولية. مثل اتفاقية السيداو وتوصياتها التوضيحية مثل التوصية 19 التي تضع تعريف واضح للعنف في الفضاء العام، والخاص”.

تؤكد عدلي أن هناك الكثير من القوانين المقترحة من قبل المجتمع المدني. منذ ثورة 25 يناير 2011 ولم يتم العمل بها. كما أن هناك تجاهل متعمد لتصاعد العنف بالبلاد ليس ضد النساء فقط ولكن حتى الأطفال والقصر. في ظل غياب الإرادة السياسية لحل المشكلة، وكذلك محاولات القضاء على القيم التي تميز ذلك الجيل.

بيوت ليست آمنة.. ضبابية القوانين

على الجانب القانوني يشير المحامي الحقوقي مايكل رؤوف إلى عدم وجود قانون مستقل بها. قائلا: هذا ما دعانا لاقتراح قانون موحد للعنف ضد النساء. الذي ورد فيه كل ما يخص البيوت الآمنة، ومعاييرها، بالتعاون مع العديد من منظمات المجتمع المدني.

يشير مايكل إلى أن القانون المصري لا يحتوي على مواد تخص حماية النساء البالغات في دور آمنة. ويقتصر الأمر على دور رعاية حكومية أو أهلية للأطفال، والمعاقين. كما أن محاولات بعض المؤسسات الحصول على ترخيص لبيوت تخص النساء لا يتم الرد عليها. مثل حالة المحامية عزة سليمان التي منذ سنوات تبت مشروع إنشاء دار آمنة. ولكن الوزارة لم تمنحها القبول، يساعد في ذلك القوانين غير المستقلة، والمبهمة.

يؤكد مايكل على ضرورة وجود. وانتشار تلك البيوت على مستوى محافظات الجمهورية للعمل على مساعدة النساء. ويقول مايكل:  كثيرا ما نتعرض خلال كمؤسسات مجتمع مدني لحالات نساء بلا مأوى. تطلب المساعدة، أحيانا في أوقات متأخرة من الليل. بينما دور الرعاية ذات المقابل المادي حتى غير مؤهلة تماما لاستقبال هؤلاء النساء. خاصة أن أغلبهن يحتاج إلى رعاية نفسية وصحية وقانونية فورية”.

فضلا عن أن قلة تلك البيوت، وتوزيعها الجغرافي غير المتوازن. وكذلك صعوبة وصول الوزارة إلى الحالة، يزيد الوضع سوءا. التي يمكن معالجته بسهولة عبر إنشاء بيوت على مقربة من كل محافظة، أو مدينة كبيرة، وكذلك الاستجابة السريعة للخط الساخن.

مايكل أيضا أشار إلى البطء الشديد من قبل الجهات الرسمية في حل المشكلة. قائلا: لا تتحرك تلك الجهات إلا في حالة وصلت القضية إلى مواقع التواصل الاجتماعي. وأصبحت قضية رأي عام. ليصبح الأمر مجرد حالة فردية، دون محاولة الوصول لحلول جذرية تحمي الجميع.