تبدو كتابات نجيب محفوظ وكأنها عابرة للزمن. قد تمتد يدك إلى أي من أعماله، فتتشابه في ذهنك إحدى شخصياته مع بعض من صادفتهم، أو تعرفهم حق المعرفة. في بعض الأحيان تجد من يقومون بتصنيف البشر وفق الشخصيات التي قرأوا عنها أو عرفوها في العديد من الأعمال الأدبية. هؤلاء تُناسبهم روايات محفوظ وقصصه التي لم تتناول عالم الفتوات الأسطوري.

مؤخرًا، صدر عن العربي للنشر والتوزيع، كتابًا نوعيًا جديدًا عن أعمال نجيب محفوظ بعنوان “الصحفي في أدب نجيب محفوظ“. من تأليف الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، أستاذ الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة.

الكتاب يُعّد دراسة جريئة في علم اجتماع الأدب. حيث يُعالج صورة الصحفي في جميع أعمال أديب نوبل الراحل، من روايات وقصص قصيرة. بدءا من رواية “القاهرة الجديدة” التي صدرت عام 1945. وحتى آخر الكلمات التي صدرت منه وتم جمعها في كتاب “أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة” الذي صدر عام 2015، بعد مرور تسع سنوات على وفاته.

 

الصحفي “انتهازي” في نظر محفوظ

ليست دراسة إسماعيل الأولى. بالطبع سبقتها عدة أعمال تناولت شخصيات محفوظ الروائية بالنسبة للصحفيين. صدرت أبرز هذه الدراسات وأعمقها للناقد مصطفى بيومي بعنوان “معجم شخصيات نجيب محفوظ”. نشرتها دار الشروق عام 2015. ورصد في 4 أجزاء كل شخصيات محفوظ في قصصه ورواياته.

لكن بينما غاص بيومي في بحر الأدب، يأتي كتاب إسماعيل ليُقدم تحليلًا اجتماعيًا.

من بين الـ 1742 شخصية أبدعها محفوظ، نجد نحو 60 صحفيًا. جاء معظمهم انتهازيون ووصوليون ونفعيون. رغم أنه احتك طوال حياته بصحفيين. وشهد الكثير من أصدقاء الأستاذ -مثل يوسف القعيد- أنه كان من أكثر الكتاب تعاونًا مع الصحفيين، واتخذ منهم الأصدقاء المقربين. وكذلك لم يرد صحفيًا أبدًا.

في مقدمة الكتاب، الذي صدر في 239 صفحة من القطع المتوسط مُقسّمة على أربعة فصول. فسّر أستاذ الصحافة بكلية الإعلام اتجاهه لدراسة اجتماعية، كتب اسماعيل: “هو عشقي للأدب”. إضافة إلى تأثره بأدب نجيب محفوظ. ويرى أن دراسته تقدم صورة أقرب إلى الواقعية وأعمق كثيراً مما تقدمه معظم الدراسات الأكاديمية الإعلامية.

وأضاف: “الأدب نوع كتابي، عنده من الحرية أكبر مما تتيحه تلك الدراسات بما لا يُقَارَن”.

في بداية الكتاب، يطرح المؤلف في تمهيد سؤالًا هو “لماذا ندرس صورة الصحفي في الأدب؟”. واستفاد من تقسيم محدث للدكتور خالد عاشور، الذي تأثر فيه بالناقد فاروق عبد القادر. فقسّم روايات نجيب محفوظ إلى ثلاث مراحل. “الواقعية”، هي الممتدة من “عبث الأقدار” حتى “الثلاثية. و”الفلسفية”، وهي الممتدة من “اللص والكلاب” إلى “ميرامار”. ثم المرحلة “متعددة التجارب الإبداعية”، وهي الممتدة من “المرايا” وحتى “قشتمر”.

وتناول إسماعيل في فصله الأخير صورة الصحفي في قصصه القصيرة. أمّا كتاب “أحلام فترة النقاهة”، فيرى إسماعيل أنها “أحلام نوم حقيقية” أملاها الأستاذ على من رافقوا مرضه. برر ذلك من خلال تحليل بنيتها التي تعتمد على المصادفات والانتقالات السريعة غير المنطقية.

 

رؤية زائلة

“مفهوم الصحفي كما قدمه نجيب محفوظ في رواياته، وفي معْلم رئيس من معالمه، شارف على الانتهاء بانتهاء الصحافة الورقية”. هكذا يقول الدكتور محمد حسام الدين إسماعيل، مؤلف الكتاب. يرى أن الغلبة للإنتاج الإلكتروني متعدد الوسائط على الإنتاج الإعلامي في المستقبل.

يُضيف: “تم إحلال الذكاء الاصطناعي محل البشر في الإنتاج الصحفي. فضلًا عن الضغوط المتعلقة بالملكية والإنتاج، وعلى رأسها التخلي عن الهرم المقلوب والأسئلة الخمسة. صارت الكتابة أكثر جمالًا وعمقًا، وذات طابع شخصي أو ذاتي”.

يعد المؤلف أحد المتخصصين في الدراسات الثقافية الإعلامية. له عدة كتب، من أهمها “الصورة والجسد”، و”ساخرون وثوار”، و”النجومية الإعلامية في مصر”. يرى أن علم اجتماع الأدب يقدم الصورة الحقيقية للصحفيين. وأنه “مع صعود الشعبوية، والسيطرة الحكومية على الأخبار، وعلى وسائل الإعلام. بدأت الأسئلة حول ما هو حقيقي وموضوعي تعود مرة أخرى”.

 

استبصار الأدب

يطرح إسماعيل، خلال حديثه إلى “مصر 360”. سؤالًا يتردد دومًا في عالم متعدد التقنيات التي يُمكنها تزييف الحقائق: أين نجد الصحيفة أو وسيلة الإعلام التي من الممكن أن نثق بها؟ وإذا أردنا صورة واقعية للصحفيين والإعلاميين فأين نجدها؟

في رأي المؤلف، كانت الإجابة عند علم اجتماع الأدب. الذي قدّم خدمات جليلة للنقد الأدبي سواء عن طريق بحوثه المختلفة في ثقافات الشعوب، قديمها وحديثها “فالنشاط الأدبي لون من ألوان الممارسة الاجتماعية للإنسان”. أو عن طريق إسهامات علماء الاجتماع، الذين اهتموا بدراسة الظواهر الثقافية “كونها مرآة لمعرفة أحوال الشعوب والأمم”.

يلفت أستاذ الصحافة إلى أنه رغم اعترافنا بتطور الثقافة وتغيرها، فإن للأدب قدرة على الاستبصار بالعناصر المركزية في كل ثقافة. أو كما يقول “تلك التي لها القدرة على الثبات النسبي أو الديمومة عبر الزمن”. على اعتبار أن تعريف الثقافة لدى أعلام الدراسات الثقافية، مثل رايموند ويليامز، هي تلك العناصر السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، المستمرة عبر الزمن.

 

البحث عن الجوهر

المؤلف أشار  إلى أنه لا يمكن فصل صورة الصحفي عن الخطاب الأدبي، وطبيعته التي تبحث عن الجوهر، ولا عن طبيعة المجتمع الذي أنتج هذا الصحفي “ولذا، فهذه الدراسة تحقق لذة الاكتشاف لجوهر هذه الصورة. لا سيما اكتشاف الجديد”. وشبّه الصحافة في جانب منها كالمرأة القوية القادرة، التي تنبذ عاشقها القديم في سبيل الجديد.

إسماعيل لفت إلى أن النماذج الصحفية في أدب محفوظ تتجاوز سمات الزمن بالنسبة للأشخاص والمهنة. وأنها عبرت وقت كتابة العمل الأدبي إلى الثابت عبر الزمن. وهي الثقافة، بالمعنى الذي تقصده دراسات التحليل الثقافي. ما جعل نقاد وباحثي أدب نجيب محفوظ يرون مثلا أن بعض نماذج رواية “المرايا” 1971 لتعبر عن شخصيات شغلت حيزًا كبيرًا من القرن العشرين.

يُضيف: “رحل من كتب عنهم محفوظ، ثم رحل هو نفسه. وبقيت هذه العناصر الثقافية شبه الثابتة التي رصدها نجيب محفوظ بعبقريته وموهبته، وهذه هي خصوصية الخطاب الأدبي الراقي”.

وأشار إلى أنه سوف يتكرر في حياة مصر الاجتماعية “صنف من الصحفيين مثله مثل المجرمين الذين يفلتون بجرائمهم، كشخصية الصحفي رؤوف علوان في الرواية الرائعة (اللص والكلاب)”.