في الثامن من أكتوبر ١٩٥١م، أعلنت حكومة الوفد بزعامة مصطفي النحاس، أمام مجلس النواب وكانت أغلبيته وفدية، إلغاء ثلاث اتفاقيات كانت تضفي الشرعية على الاحتلال الإنجليزي لمصر والسودان، اتفافية ١٩٣٦ م التي سمحت للإنجليز بقاعدة عسكرية في منطقة قناة السويس في وقت السلم، كما كانت تسمح بوضع كل إمكانات مصر تحت تصرف الإنجليز في وقت الحرب، ثم اتفاقيتان كان قد تم عقدهما بين مصر والإنجليز بشأن الحكم المشترك (المصري – البريطاني) للسودان، وكان في حقيقته حكما واستعمارا بريطانيا محضا، وكان كل دور مصر هو إسباغ رداء الشرعية عليه، وكان كل نصيب مصر منه هو سداد فواتيره التاريخية وتحمل نفقاته المالية.
إلغاء الإتفافيات الثلاث من طرف واحد كان بكل المعايير ثورة ثالثة، ثورة تُضاف إلى الثورتين السابقتين عليها؛ الثورة العرابية ١٨٨١ م، ثم ثورة ١٩١٩، لكنها مثلهما كانت ثورة ناقصة.
لماذا كان ما حدث في ٨ أكتوبر ١٩٥١ م ثورة؟.. ثم لماذا كانت ثورة ناقصة؟
كان إلغاء الاتفافيات الثلاث ثورة لسببين كبيرين؛ أولهما؛ نزع الشرعية عن الوجود الإنجليزي في مصر والسودان، لتعود قواته المتمركزة في منطقة قناة السويس قوة احتلال عسكري محض منزوع عنها أي غطاء سياسي ومحرومة من أي تبرير أخلاقي، بما يضع هذه القوات هدفا مشروعا لأي عمل عسكري يقوم به المصريون ضدها تحريرا لبلدهم من احتلال محض واستعمار صرف.
ثانيهما؛ حرمان الملك، والقصر الملكي، وسلالة محمد علي بكاملها من حماية الإنجليز لهم، وهي حماية بدأت واستمرت واستقرت قريبا من ثلاثة أرباع قرن بدأت بعزل الخديو اسماعيل ١٩٧٩ م وانتهت بعزل الملك فاروق ١٩٥٢ م.
لهذين السببين، تيسر ثم تيسر ثم تيسر: عزل الملك فاروق بعد أقل من تسعة أشهر، ثم الاتفاق مع الإنجليز على الجلاء بعد أقل من عامين، وهذا وذاك تم على أيدي ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م التي جاءت لتكمل النقص في ثورة الوفد ومصطفى النحاس في أكتوبر ١٩٥١ م.
فما هي جوانب النقص في ثورة الثامن من أكتوبر ١٩٥١ م؟
جوانب النقص باختصار شديد:
أولا: أنها لم تقرر عزل الملك فاروق وكانت كل المؤشرات تقول إن الشعب جاهز لذلك.
ثانيا: أنها لم تقرر وضع نهاية حاسمة للنظام الملكي ولسلالة محمد علي بكاملها.
ثالثا: أنها لم تفكر في إعلان الجمهورية.
السؤال: لماذا لم تفعل ذلك؟
الجواب: كان حزب الوفد حتى تلك اللحظة هو القوة الوطنية الرئيسية التي تحظى بثقة الشعب في النضال على جبهتين، أولهما جبهة الاستقلال عن الاحتلال، وثانيهما جبهة الاستبداد والفساد الملكي التي تعيش في كنف الاحتلال وحمايته ورعايته.
لكن الوفد، رغم إخلاصه لقضيتي الاستقلال والديمقراطية كان سجين ماضيه، وكان ماضيه سجين منهجه السياسي، وكان منهجه السياسي سجين فكرتين أساسيتين:
الأولى؛ مكافحة استبداد الملك وفساده وفساد حاشيته من داخل النظام الملكي وليس من خارجه، بالاعتراف بشرعية سلالة محمد علي وليس بإنكارها والخروج عليها.
الثانية؛ مكافحة الاحتلال بالتفاوض والتحكيم وليس بالسلاح سواء كان سلاح الدولة أو سلاح المتطوعين من الشعب.
باختصار شديد؛ ثورة الثامن من أكتوبر ألقت بجثامين الاحتلال والملك والقصر وسلالة محمد علي والنظام الملكي ومن يتهادن ويتعاون مع الاحتلال والاستبداد ألقت بكل تلك الجثامين عارية على نواصي التاريخ، لكنها اكتفت بذلك وتوقفت عند ذلك وعجزت عن أن تقدم أكثر من ذلك.
عجزت عن إدراك أن الهدفين العظيمين، الذين كافح من أجلهما المصريون ثلاثة أرباع قرن، قد أصبحا على مرمى حجر، وربما تحت الأقدام، وكانت المؤشرات واضحة للعيان:
١ – أنطلاق حركة الكفاح المسلح ضد قوات الإنجليز في منطقة قناة السويس.
٢ – اندلاع الحراك الثوري الشعبي بصورة متواصلة وفي كافة أنحاء مصر تهتف بسقوط الملك والاحتلال معا.
بين الكفاح المسلح والثورة الشعبية، كان الاستقلال الكامل، وكانت الديمقراطية معه، ثمرات ناضجة تنتظر القطاف. فقد وهنت العوائق التي تحول بين المصريين وبين ما ينشدونه من استقلال وديمقراطية:
– عندما تدخل الإنجليز للقضاء على الثورة العرابية وفرض واقع الاحتلال بإخماد الثورة وإلغاء دستورها وبرلمانها بزعم حماية عرش الخديو توفيق، في ذلك الوقت من الربع الأخير من القرن التاسع كانت بريطانيا أعتى وأقوى إمبراطوريات التاريخ، وكانت مصر هدفا لا غنى عنه في هيكل الإمبراطورية سواء كممر وطريق مواصلات إلى الهند وقلب إفريقيا أو كمزرعة للقطن والقصب والكتان أو كسوق لتصريف المنتجات. لكن عند منتصف القرن العشرين كانت قد انكمشت ثم تقلصت من إمبراطورية عظمى إلى دولة، وكان قد انسحبت من شبه القارة الهندية ومن اليونان ومن إيران، كانت تنسحب بعد تفاهمات وترتيبات تضمن لها خروجا آمنا بأقل خسائر وأكبر فوائد، وفي الغالب كانت تسعي ليكون وارثوها في الداخل من صنائعها، وكانت تفضل أن يكون وارثوها من القوى الدولية ابنتها الكبرى أمريكا وليس خصمها الصاعد وخصم الغرب كله الاتحاد السوفيتي.
باختصار شديد؛ كان الإنجليز في مصر وغير مصر يبحثون عن أفضل سبل الخروج التي تحمي ما بقي لهم من مصالح وليس في البقاء ولا في دوام السيطرة ولا في استمرار الاستعمار. وباختصار أشد؛ كان غيرنا من شعوب المستعمرات قد نال استقلاله ولم نكن استنثاء من ذلك التحول التاريخي.
_ ثم كان الملك، والقصر، والمنظومة كلها، قد باتت ورما في جسد الأمة، وقد تبلور وعي المصريين بأنهم أمة، وقد أدت مائة وخمسون عاما من التحديث (التعليم والتمليك والتجنيد) إلى خلق شعب مصري مختلف بالكلية عن ذاك الذي حكمه محمد علي عند مطلع القرن التاسع عشر ثم ورثه لسلالته عند منتصفه، أما بعد قرن من ذاك التوريث، وبعد ثلاثة أرباع قرن من كفاح المصريين، فإن فكرة استمرار أسرة محمد علي في توريث ملك وحكم مصر أصبحت فكرة تفتقد لأي أساس سياسي أو وطني أو تبرير أخلاقي.
بلغت ثورة الثامن من أكتوبر ١٩٥١م ذروتها الأعلى في الكفاح المسلح ضد القوات الإنجليزية في منطقة القناة، ثم في الحراك الثوري الذي دخل كل مدينة وقرية وبيت في مصر كلها من أقصاها إلى أدناها.
وتم تتويج ذلك كله، في ميدان الإسماعيلية وما حوله من لشوارع وميادين، وهو ميدان التحرير حاليا، في أكبر مظاهرة عرفها تاريخ مصر في السبعة الآف عام التي عاشها المصريون على ضفاف النهر، كانت مثل ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ م اجتماعا حاشدا للجمعية العمومية لاتحاد ملاك مصر، كانت بلورة عملية لمفهوم المواطن الحر السيد المالك لوطنه والمقرر لمصيره، كذلك كانت مثل ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ م في أنها دارت وارتكزت علي السؤالين الأضخمين في الماضي والحاضر والمستقبل وهما؛ ملكية مصر لمن؟ ثم حكم مصر لمن؟.
حسب الأرقام الرسمية لوزارة الداخلية بلغ المشاركون رقم المليون، بينما ذهبت التقديرات الصحفية والحزبية إلى مليونين من المصريين، وقد تصدر المظاهرة زعيم الوفد ورئيس الحكومة مصطفى النحاس وقيادات الأحزاب والتنظيمات والمهن والطوائف.
ولو أدرك مصطفى النحاس في هذه اللحظة أن هذه المظاهرة هي تتويج لكفاح المصريين، في ثلاثة أرباع قرن، من أجل الحرية، الحرية من الاحتلال، والحرية من سلالة محمد علي، ربما لو أدرك ذلك لخرج عن صمته، ولكسر صمت المليون من المتظاهرين، حيث كان الصمت شرطا للمظاهرة حسبما اتفق على ذلك منظموها ووافقهم على ذلك المشاركون، كانت الفرصة سانحة أمام مصطفي النحاس ليكسر حواجز الصمت مرتين، وليهز الأذان مرتين، أذان المتظاهرين ومعهم جموع المصريين، ثم أذان التاريخ ومعه تباشير المستقبل، وذلك بأن يعلن في وسط هذ الحشد غير المسبوق في التاريخ في الرابع عشر من نوفمبر ١٩٥١ م:
_ عزل الملك فاروق.
– إلغاء الملكية.
– إعلان الجمهورية.
وذلك تتمة وتكملة لازمة لزوما وجوبيا، لما كان قد أعلنه قبل ذلك بخمسة أسابيع حين ألغى من طرف واحد كل اتفافيات مصر مع الإنجليز والتي تضفي على قوات الاحتلال الصبغة الشرعية وذلك في الثامن من أكتوبر من العام ذاته ١٩٥١ م.
لكن كان مصطفى النحاس يحتاج إلى مصطفى نحاس جديد، وكان الوفد يحتاج إلى وفد جديد، ولما لم يحدث ذلك، انفتحت الأبواب أمام الثورة المضادة حيث؛ احترقت القاهرة في ٢٦ يناير ١٩٥٢ م، ثم تم إقالة حكومة الوفد ولم تعد بعد ذلك التاريخ أبدا، ثم تم حل برلمان الوفد ولم يعد بعد ذلك التاريخ أبدا، ثم وقع فراغ سلطة توالت عليه في خمسة أشهر أربع حكومات عجزت عن ملء مكانة حكومة الوفد وبرلمانه، واستمر الفراغ في الاتساع، واستمرت السلطة في الانكماش، واستمرت الشرعية تتساقط حجرا وراء حجر، والحالة الثورية تزداد اشتعالا، والظروف تنضج لإنجاز المطلبين الضخمين: الحرية والاستقلال، حتى انتصف العام، وبلغت حرارة الصيف ذروتها، ليتحرك الضباط الأحرار عند منتصف ليل ٢٣ يوليو ١٩٥٢ م، وفي ثلاث ساعات وضعوا قيادات الجيش الذي يحمي الملك رهن الاعتقال، ثم في ثلاثة أيام:
– طلبوا من الملك تعيين اللواء محمد نجيب قائدا عاما للجيش فأذعن واستجاب دون أدنى اعتراض.
– ثم طلبوا من الملك عزل وزارة نجيب الهلالي وكانت قد حلفت اليمين الدستورية قبل ذلك بيوم واحد فأذعن واستجاب.
– ثم طلبوا من الملك تعيين علي ماهر لتشكيل وزارة جديدة فأذعن واستجاب.
– ثم طلبوا من الملك التوقيع على وثيقة عزله وتنازله عن العرش لنجله الرضيع فأذعن واستجاب.
_ وقد لعبوا بمهارة على تحييد الإنجليز وتفاهم الأمريكان فانقضت أخطر أربعة أيام في تاريخ مصر المعاصر كأنها نزهة أو فسحة في مرابع التاريخ.
في تلك الأيام الأربعة من ٢٣ إلي ٢٦ يوليو بدأ المصريون يلامسون سطح القمر، يلامسون الحرية من الاستبداد ومن الاستعمار معا.
وكانت ثورة الثامن من أكتوبر ١٩٥١ م اللحظة الثورية الوطنية المخلصة الصادقة الأمينة التي وقفت بمصر علي هذه الربوة العالية من روابي التاريخ ليلة الـ ٢٣ من يوليو ١٩٥٢ م.
…………………………………………………………………………
كيف أدارت ثورة ٢٣ يوليو مسألتي الحرية والاستقلال؟
هذا هو موضوع المقال في الأسبوع المقبل بإذن الله.