نحن نعلم أن بليغ حمدي كان سيغرق في الضحك لو كان قد سمع عن إيقاف أحد الفنانين لمجرد التلاعب بكلمات أغنية لحنها العبقري الراحل، لو لم يضحك فورا لضحك بالتأكيد حين يقرأ الحيثيات التي تتهم الفنان الموقوف بأنه «تناول في إحدي حفلاته ابتهالا دينيا ثابتا ويحمل معاني روحانية وقيم سامية لدى المصريين واستهان بهذا الدعاء بابتذال وأفرغه من محتواه الأخلاقي وجعله كأنه عن ذات المؤدي”.

وفي هذه الواقعة الكثير  مما يستدعي ضحك – كالبكا-  حتى بعيدا عن مضمون الأغنية نفسها «ابتهال مولاي إنني ببابك»، فمجرد فكرة “إيقاف فنان” هي أمر مضحك في ذاته، وكون الفنان نفسه «مغني الراب مروان بابلو” لم يرتكب ذلك الفعل الذي يشير إليه “الاتهام”، بل “ارتكبه” فنان عربي كان ضيفا بالحفل، هو أمر أكثر إضحاكا لأنه يعاقب شخصا بأمر ارتكبه غيره مخالفا أبسط آليات القوانين.

https://www.youtube.com/watch?v=7jUUsKAMSRc

لكن ما لا يضحك أبدا هو أن نقابة الموسيقيين، تحولت فيما يبدو  إلى عصا ثقيلة تطارد الفنانين الشباب – بل وجمهورهم وضيوفهم أحيانا – لأسباب لا يمكن توقعها، ربما يكون السبب أن أحد الحضور رفع علما للمثلية كما حدث في حفل “مشروع ليلى” الذي انتهى آخر الأمر إلى مأساة، وكما وقع في استبعاد عرض الأغنية الكوميدية “تمادي كرشي” للفنان أكرم حسني لأنها قُدّمت على وزن أشعار المديح النبوي.

كما لا ننسى حبس فنان “ستاند اب كوميدي” قبل عام لأنه قام بتقليد أصوات مذيعي الراديو وكان منهم بعض مذيعي إذاعة القرآن الكريم، وبالطبع ليست نقابة الموسيقيين هي السبب في كل تلك الحوادث، لكنها لا تبدو – كما هو مفترض منها – في موقع المدافع عن الموسيقيين تجاه مجتمع يطارد الفنانين، بل تبدو في كثير من الأحيان هي السباقة، ورأس الحربة في ذلك الهجوم المجتمعي، وهي حتى لو تكن تتصرف دائما عن قناعة، فإنها على الأقل تبدو كمن “يربي أولاده قبل أن يربيهم الآخرون”، أو كما تقول الدعاية الكوميدية الشهيرة “اضرب صاحبك لو هما كتير”.

لكن النقابة الفنية، والمحامون رافعو الدعاوى، والرأي العام نفسه، هم جميعا نتاج سنوات طويلة من عملية “توثين الدين”. والوثن، أو الصنم، هو صناعة تمثال، أو صورة، أو رمز، يعبده الإنسان، أو يتقرب منه ليقربه إلى الله، كما يعتقد. وهكذا تنتقل القداسة من المعتقد الديني نفسه، إلى ما يحيط به أو يتقاطع معه، صدقا أو كذبا، طبيعيا أو افتعالا، هكذا تحيط القداسة بمفردات بشرية تماما، على غرار صورة للشيخ الشعراوي، شريط لعمرو خالد، موشح مديح لياسين التهامي، وأخيرا ابتهال ديني للشيخ النقشبندي من ألحان بليغ حمدي.

لا ينبغي أن ننسى أن المؤسسة الدينية لعبت دورا في ذلك مع دخول مصر عصر الصناعة الحديثة، على غرار تحريم تجسيد الشخصيات الدينية في الأفلام والمسلسلات منذ أيام يوسف وهبي، فضلا عن سبغ القداسة على سلسلة لا تكاد تنتهي من الشخصيات التاريخية، لمجرد ارتباط أدوارها الدينية والسياسية بالتاريخ الإسلامي، وبالطبع، لإننا مجتمع واحد، فقد حرصت المؤسسة المسيحية أيضا على ما تتصور أنه حماية مشاعر  المسيحيين، فبذلت جهدها لمطاردة الكتب والروايات والأفلام التي تعتقد أنها تسيء إلى العقيدة المسيحية، من رواية دان براون “شفرة دافنشي” إلى فيلم “بحب السيما” لأسامة فوزي.

تصب عملية التوثين تلك في اتجاهين لا يقلان خطورة عن بعضهما، الأول هو مطاردة الفن والتفكير في مساحة واسعة بقدر اتساع مساحة الدين في حياة الناس، أما الاتجاه الثاني فهو أن الحماية التي تسبغها على كل ما يتقاطع مع الدين تمتد لتحمي كل من يلتحف بالدين وعلى رأسه جماعات الدين السياسي، التي استطاعت تحت تلك الحماية المقدسة أن تغير وجه المجتمع المصري، حتى أصبح المجتمع نفسه هو  حائط الصد ضد محاولات التعبير – أو حتى المزاح – الفردية، وليس من قبيل المصادفة، أن آخر  مشكلتين وقعتا في حضور لفنانين من خارج ذلك المجتمع، فرقة لبنانية هي “مشروع ليلى” وفنان فلسطيني هو “شب جديد”.

كيف يمكن تغيير ذلك الواقع؟ هذا أمر يطول، لكن الأكيد أن نقابة الموسيقيين ينبغي أن تتذكر أنها “نقابة”، وأنها كأي نقابة في العالم، يفترض أن تكون أول المدافعين عن أعضائها، لا عن “المجتمع”.