بعد سلسلتين من الحروب في أوائل القرن التاسع العشر، قُسمت أذربيجان بين مملكة القاجار الإيرانية وروسيا القيصرية، عقب التوقيع على معاهدة “تركمانجاي“. والتي أصبح بموجبها نهر آراس حدًا فاصلاً قسّم الشعب الأذربيجاني إلى شعبين: واحد يتبع إيران والآخر روسيا.
تغيرت الأنظمة السياسية في البلدين عبر التاريخ، ولكن حلم الاستقلال وإعادة التوحيد من جديد ظل يراود الآذريين على ضفتي النهر، مسببًا قلاقل وتحركات انفصالية. وبعد أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان، وفي الشمال سقط الاتحاد السوفييتي، وتحقق الحلم أخيرًا.. ظهرت جمهورية أذربيجان للعلن.
ولكنّ أشقائهم في الجنوب كانوا يرضخون تحت حكم نظام الملالي الذي رأى فيهم مغرسة في خاصرته. إذ يمكن أن تهدد ميولهم الانفصالية أركان دولته، ناهيك عن أن التقارب مع جيرانهم في “أذربيجان الشمالية” يتعارض مع أهداف إيران السياسية، التي ترى في الأخيرة تهديدًا؛ لتحالفها مع الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا، التي تلعب على كون الآذريين إحدى العرقيات التركية.
والآن، يبدو أن خيوط العلاقات السياسية والطموحات الجيوستراتيجية والتداخلات العرقية، قد تعقدت أكثر فأكثر تحت وطأة البرنامج النووي الإيراني، والتحركات الإسرائيلية، بتفاهمات أمريكية، لوأده؛ نظرًا لتعثر ورقة المفاوضات.
تشير التقارير إلى أن إيران تقترب كثيرًا من الوصول إلى سلاح نووي، وهو ما استدعى تحركًا إسرائيليًا من خلال حليفته أذربيجان، وفق ما تدعيه طهران، التي ردت بتحركات عسكرية على الحدود بين البلدين، جابهها لهجة حادة من الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ثم خطوات تصعيدية سياسية من كلا البلدين، تُنذر بإمكانية اشتعال الأوضاع في جنوب القوقاز.
فما الذي حدث؟
في مطلع شهر أكتوبر الجاري، تحركت قوات إيرانية تجاه الحدود الأذربيجانية لإجراء مناورات “فاتحو خيبر” لأول مرة منذ 30 عامًا، فيما وصف بأنه أكبر تدريبات منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
الوحدات الإيرانية شملت لواء جويًا وقوات مدرعة وقوات مدفعية ووحدات هندسية، الأمر الذي قوبل بنشر قوات أذربيجانية وتركية على الحدود مع إيران، ما دفع بعض المحللين إلى عدم استبعاد تطور الأحداث لصدام عسكري.
إلهام علييف علق على المناورات الإيرانية قرب حدود بلاده قائلاً: “يمكن لكل دولة إجراء أي مناورات عسكرية على أراضيها. هذا هو حقها السيادي. لكن لماذا الآن ولماذا على حدودنا؟ لماذا يتم ذلك بعد أن حررنا هذه الأراضي بعد 30 عاما من الاحتلال؟”، في إشارة إلى إقليم “ناجورنو كاراباخ” الذي استعادت أذربيجان سيطرتها عليه من أرمينيا.
تبدو طهران غاضبة من علاقات أذربيجان الوثيقة مع إسرائيل، كما أن التحالف التركي القوي مع أذربيجان يشكل تهديدا أيضا لطهران
على الجانب الآخر تبدو طهران غاضبة من علاقات أذربيجان الوثيقة مع إسرائيل، وتزويد تل أبيب لباكو بأسلحة حديثة بما في ذلك الطائرات المسيرة، فقد أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده إلى هذا بوضوح، بقوله إن بلاده نقلت إلى باكو “قلقنا من التحركات والتصريحات الإسرائيلية التي تنطلق من أذربيجان. نحن باستطاعتنا الدفاع عن أمننا بصورة مناسبة لكن نطلب من باكو العمل بالتزاماتها”.
ولكن هذا ليس الجانب الوحيد. التحالف التركي القوي مع أذربيجان يشكل تهديدا أيضا لطهران، بعدما ساهم دعم أنقرة العسكري في ترجيح كفة باكو على أرمينيا (تدعمها إيران لحسابات براجماتية متعلقة بمنع واشنطن وتل أبيب من تطويقها بجانب مصالح طاقاوية في مواجهة تركيا) خلال حرب “ناجورنو كاراباخ”، ما أسهم في إحياء الروح القومية للملايين من ذوي الأصول التركية.
وقد اندلعت أزمة دبلوماسية بين الطرفين في ديسمبر الماضي بسبب ترديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قصيدة تضمنت دلالات على الوحدة والترابط بين الأذريين في إيران ودولة أذربيجان المجاورة، بعد الانتصار في حرب العام الماضي.
ما وراء التوتر
التوتر المكتوم لحسابات عرقية، ظهر للعلن، خلال شهر سبتمبر الماضي، بعدما بدأت أذربيجان في تقييد مرور شاحنات النفط الإيرانية المتجهة إلى كاراباخ وأرمينيا، واستدعت السفير الإيراني في باكو وسلمته مذكرة احتجاج على دخول الشاحنات دون إذن رسمي.
ورد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية أن بلاده احتجت على احتجاز سائقي شاحنات إيرانية وأنها تتابع القضية عبر القنوات الدبلوماسية. بالإضافة إلى بدء بناء طريق “تاتو” الذي سيوصل إيران مباشرة بأرمينيا دون الحاجة إلى عبور الأراضي الآذرية.
حادثة الشاحنات وتوقيت المناورات والانتقادات المتبادلة بين باكو و طهران، توضح أن الأزمة متعلقة بشكل مباشر باتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته روسيا بين أذربيجان وأرمينيا بتنسيق مع تركيا العام الماضي.
ويعتقد باسل الحاج جاسم، الباحث في شؤون آسيا الوسطى و القوقاز، أن حادثة الشاحنات وتوقيت المناورات والانتقادات المتبادلة بين باكو و طهران، توضح أن الأزمة متعلقة بشكل مباشر باتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته روسيا بين أذربيجان وأرمينيا بتنسيق مع تركيا العام الماضي.
ويضيف: “ليس من المبالغة القول إن إيران قبل أرمينيا خاسرة من الاتفاق الذي رعته روسيا بين باكو ويريفان، بتنسيق مع تركيا، وعلى الرغم من الترحيب الرسمي به، واعتباره ذا أهمية لإحلال السلام في جنوب القوقاز، فإن تصريحات وتحليلات جهات مقربة من صناع القرار في طهران تشير إلى أن الترحيب تشوبه مخاوف وقلق مما يمكن أن تصل إليه ترتيبات الأوضاع في مراحل مقبلة”.
الخطوات التصعيدية بين البلدين تواصلت، فعلييف هدد بإشراك قوى دولية وإقليمية في حال تمادت إيران، ثم أغلقت السلطات الأذربيجانية مسجدًا تابعًا لمكتب ممثل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي خامنئي، الذي بدوره تفاعل سريعا مع الأزمة.
خامنئي يهدد بصفع خصوم إيران
وقال خامنئي بلهجة مشددة “الأحداث الأخيرة في شمال غرب البلاد يجب أن تحل بين شعوب المنطقة بدون تدخل خارجي وحضور الجيوش الأجنبية. القوات المسلحة الإيرانية من الجيش والحرس الثوري وقوى الأمن الداخلي والباسيج (التعبئة الشعبية) هي الدرع الدفاعي للبلاد أمام التهديدات العسكرية للأعداء في الخارج والداخل”.
وهدد المرشد الإيراني بتوجيه صفعات لخصوم إيران “ليعلم الذين يظنون بأنهم قادرون على ضمان أمنهم عبر الاعتماد على الآخرين، بأنهم سيتلقون صفعات جراء سلوكهم قريبا (..) تواجد الجيوش الأجنبية في منطقتنا، يبعث على الدمار ويؤجج الحروب فيها”.
فيما اعتبر البرلمان الإيراني أن “أي تغييرات جيوسياسية في المنطقة هي خط أحمر لإيران”، وسط مخاوف من مخطط تركي أذربيجاني للسيطرة على الحدود الإيرانية الأرمينية ما يعني قطع طريق إيران الوحيد إلى أوروبا.
صحيح أن إيران تمتعت بعلاقات قوية مع أرمينيا، لكنها في المقابل، لم تتمكن من جعل أذربيجان ضمن حلقة نفوذها الإقليمي، بحسب باسل الحاج، على الرغم من خلفيتها الدينية المشتركة معها، كما تربطهما علاقات تاريخية وثقافية عميقة، فالقومية الأذرية في إيران تعد القومية الثانية في التركيبة الاجتماعية بعد القومية الفارسية.
الاتفاق النووي في خلفية المشهد
الكاتب الروسي ألكسندر سيتنيكوف يرى أن هناك صلة مباشرة بين نقل القوات الإيرانية إلى الضفة الغربية لنهر آراس والمحادثات المتوقفة في فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الدولية بقيادة الولايات المتحدة.
ويقول: “في الحقيقة، تستعد الولايات المتحدة وإسرائيل لتدمير منشآت في إيران قد تكون مرتبطة بتطوير قنبلة ذرية. وقد أعلنت تل أبيب وواشنطن رسميا أنهما لن تسمحا بظهور أسلحة دمار شامل في أوساط رجال الدين الشيعة المتشددين، ولا صواريخ قادرة على إيصالها”.
لذلك تعد أراضي أذربيجان منصة مثالية لتوجيه مثل هذه الضربة، في حين أن “إغارة القوات الجوية الإسرائيلية من الدولة اليهودية تبدو صعبة بسبب المسافة الطويلة. كما أن للهجوم من حاملات الطائرات الأمريكية في الخليج سلبيات كبيرة”.
بدأ العد التنازلي لإعلان وضع إيران النووي. الحديث يدور عن أسابيع، وربما أيام. كل شيء واضح جدا: نظام آيات الله لا يريد مفاجآت ويستعرض تهديدا حقيقيا لأذربيجان
بدأ العد التنازلي لإعلان وضع إيران النووي. الحديث يدور عن أسابيع، وربما أيام. كل شيء واضح جدا: نظام آيات الله لا يريد مفاجآت ويستعرض تهديدا حقيقيا لأذربيجان، “وعلى ما يبدو وقع علييف في مطب بدخوله في تحالف مع تل أبيب”، بحسب سيتنيكوف.
ووفق قراءة معهد الشرق الأوسط، ومقره واشنطن، فإن السياسة الإسرائيلية في الاقتراب من إيران هي صورة معكوسة لجهود إيران في ترسيخ موطئ قدمها على أعتاب إسرائيل في سوريا ولبنان وغزة. سواء الإمارات أو البحرين، اللتان قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في عام 2020 كجزء من اتفاقيات إبراهيم، أو العلاقات الوثيقة بين الحكومة الإقليمية الكردية في شمال العراق، فمن الواضح أن طهران تشعر بالضغط مما تعتبره استراتيجية تطويق إسرائيلية.
وقد نقلت صحيفة “الشرق الأوسط”، عن أحد المصادر الدبلوماسية قوله إن “إسرائيل قدمت دعما عسكريا نوعيا لباكو، وهي تريد ثمنا لذلك عبر تعزيز وجودها في أذربيجان، مما يعني أن إسرائيل باتت لأول مرة قرب حدود إيران. المعركة انتقلت من الشرق الأوسط إلى هذه المنطقة. جبهة جديدة”.
إيران تشعر بالتهميش
وفي مقابل تعزيز مواقف تركيا وإسرائيل، تجد إيران نفسها “مهمشة في الترتيبات الإقليمية الجديدة، لذلك أرادت عبر المناورات العسكرية إيصال رسالة عدم رضا عن هذا الوضع وأنها قادرة على الضغط عسكريا”، حسب المصدر، الذي أضاف: “روسيا التي تضبط الإيقاع بين الأطراف المختلفة، لن تسمح بانزلاق الأمور إلى مواجهة مباشرة شاملة”.
ويعتبر نيل كويليام، الباحث في تشاتام هاوس، أن أذربيجان طورت علاقات عسكرية قوية مع إسرائيل، وسوف تسمح لجيش الدفاع الإسرائيلي بمباشرة المهام الاستطلاعية والتخريبية في إيران. وقد زعم مسؤولون عسكريون إيرانيون على التلفزيون الإيراني أنه تم اعتراض طائرات مسيرة إسرائيلية في طريقها من أذربيجان إلى منشآت إيرانية في مفاعل “نطنز”.
ومن المرجح لهذا الجانب من حرب إسرائيل السرية ضد إيران أن يتصاعد مع استمرار جمود محادثات فيينا، فوفقا لكويليام، فإن أحد الجوانب السلبية الرئيسية لفشل خطة العمل الشاملة المشتركة هو أن إسرائيل “لن تتمتع فقط بقدر أكبر من الحرية العملانية لمباشرة العمل بشكل حاسم ضد إيران، وإنما سوف تعمل أيضا على تطوير وتعميق شراكات جديدة للحد من برنامج طهران النووي وأنشطتها الإقليمية”، بما فيها الشراكة مع أذربيجان.
تبدو طهران مستاءة من هذا التطور، لكنها لم تحدد بعد سياسة لتحييد تقدم إسرائيل بخلاف مناشدة جيرانها لإبقاء إسرائيل في مأزق، ويشير معهد الشرق الأوسط “هذا النداء، على أقل تقدير، لم يلق الكثير من التعاطف. في الواقع، يتطلع عدد من جيران إيران -أذربيجان والبحرين والإمارات والسعودية والحكومة الكردية في العراق على الأرجح- إلى إسرائيل للتعاون ضد الأجندة الإقليمية الإيرانية”.
حرب على الأبواب؟
برغم محاولات طهران استعراض القوة التي تميل لصالحها بمواجهة باكو إلا إن مخاطر التصعيد أو انزلاق الأمور إلى مناوشات حدودية قد تؤدي إلى مواجهة ولو محدودة، يرجح أن تنعكس مباشرة على الداخل الإيراني.
وقد يواجه النظام أزمة في العلاقة مع مكوناته، بسبب سوء علاقة المركز بالأطراف، لكنها في حالة الأذر الإيرانيين (28%) من السكان، لا يمكن التعامل معها كأزمة أطراف أو مطالب أقليات، نظرا لحجم الدور الذي يلعبوه في إيران، خصوصا في إدارات الدولة ومفاصلها الحساسة.
الخبير العسكري يوري ليامين يرى أن الفارق الكبير في الإمكانات العسكرية بين إيران وأذربيجان قد يتم تعويضه من خلال الدعم التركي، مشيرا على أن القوات الإيرانية التي شاركت في المناورات الأخيرة تقدر بنحو فرقة واحدة.
وأوضح الخبير العسكري أنه على الرغم من اختلاف فئات الوزن “بوضوح” بين جيشي إيران وأذربيجان، فإن الأخيرة تتمتع بالدعم العسكري والسياسي الكامل من تركيا ما يسمح لها بعدم التخوف من مواجهة محتملة مع دولة لديها تفوق كامل في السكان والاقتصاد.
ولفت في هذا السياق أيضا إلى الدعم الذي تحصل عليه باكو من قبل المتخصصين الإسرائيليين الذين يواصلون العمل في البلاد. ويشير ليامين إلى أن نقاط القوة لدى إيران تتمثل في آلاف من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز بعيدة المدى، مقابل عدم وجود دفاع جوي كافٍ وقوات جوية في أذربيجان، إضافة إلى تفوق إيران في بحر قزوين في عدد السفن وقوارب الصواريخ.
ولكن معهد الشرق الأوسط، يرجح أن يتنحى الطرفان قريبا، إذ “لا يمكن لطهران ولا باكو تحمل السماح للأحداث الأخيرة أن تؤدي إلى أزمة كاملة أو مواجهة عسكرية بين البلدين ذي الأغلبية الشيعية المسلمة”.