تضيء الشاشة، تتحرك الكاميرا ببطء، علب سجائر فارغة متناثرة على منضدة خشبية قديمة، وأخرى ملقاة على أرضية متسخة. ينطلق شعاع من ضوء الشمس يمر من أسفل شيش “بلكونة” موارب، مستقرًا على وجه شاب نائم فوق سرير يرتفع قليلا عن الأرض.
يفتح الشاب عينيه محاولًا أن يستيقظ ليستقر بصره على لوحة تشكيلية معلقة على الحائط لشخصين يمسكا بعقارب الساعة، كأنهما يحاولان زحزحة رتابة الوقت.
يجلس فوق السرير يتفقد هاتفه المحمول سريعًا، ثم يشعل سيجارته، مع أول أنفاسها ينطلق صوت الفرنسية (كارلا بروني). في أغنية (Quelqu’un m’a dit) يقف الشاب مزيحًا شيش “البلكونة” لتغمر الشمس المكان.
يرتفع صوت الأغنية ويتراقص الشاب بشكل استعراضي محركًا يده في الهواء صانعًا من دخان سيجارته فرشاة كأنه يحاول رسم لوحة هو بطلها.
بهذه الصورة، أراد المخرج عمر القاضي، الطالب بالمعهد العالي للسينما بالإسكندرية، أن يدخلنا إلى فيلمه الروائي القصير “يمكن نسي” بطولة أحمد الموجي ورنا محمد عباس. والذي حصل منذ أيام قليلة على جائزة أفضل فيلم ضمن فئة “جوائز الطلاب” بمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط.
يدور الفيلم حول علاقة عمل بين رسام وفتاة تريده أن يرسم لها بورتريهًا. وفي أول لقاء لهما داخل مرسمه يديرا حوارًا حول المدارس الفنية للرسم.
يتخذ الحوار منذ البداية إطارًا حادًا خاصة من جانب البطل المتغطرس، يقودهما الحوار لاستكشاف المشتركات بينهما، فتنشأ بينهما علاقة إنسانية تتخذ شكلًا رومانسيًا.
رشاقة الكاميرا
يبدأ الفيلم بصورة تقليدية نستطيع مشاهدتها في مئات الأفلام ونقرأ تفاصيلها في آلاف القصص. لكنها صُنعت بكاميرا رشيقة ستكون حركتها التي لم تهدأ طوال إحدى عشر دقيقة ـ مدة عرض الفيلم، هي البطل الأول للعرض.
يقاطع صوت طرقات الباب، رقصة الشاب، يفتح ليجد أمامه فتاة يبدو أنه لا يعرفها، تحاول تعريفه بنفسها: “أنا كلمتك من ساعة.. بخصوص البورتريه”. بعد ثوان من الصمت يتذكرها: “آه، آلاء بورتريه.. قصدي آلاء اللي عايزة تترسم بورتريه.. اتفضلي”.
تدخل آلاء، فتفتح لنا حركة الكاميرا عبر عينيها مساحة أوسع للتعرف على المكان، لوحات تشكيلية معلقة على الحوائط. حامل لوحات، أمامه كرسي خشبي صغير يجلس عليه خلال عمله، وخلفه “استنسل” لصلاح جاهين مكتوبًا أعلاه إحدى رباعياته.
حوار واستكشاف
بينما يُعد “الرسام” القهوة، تدير الفتاة ظهرها، مواصلة استكشافها لشقته الصغيرة/ مرسمه، ولوحاته التي تملأ حوائطها. تشعل الفتاة سيجارة ثم تدندن مقطع من أغنية “فايا يونا”، التي شغلتها للتو عبر الـ”هيدفون”: “يمكن نسي.. انو نسي.. واتذكر”.
يناولها الرسام فنجان قهوة، ليبدأ بينهما حوارًا حادًا من جانبه عن “البوهيمية” ومدارس الفن التشكيلي. يستعرض الرسام ثقافته “الرثة” على الفتاة، والتي انطلقت تتحدث عن فان جوخ وبيكاسو وميليه ومدارس الرسم المختلفة. ملفتة انتباهه أنها تعرفت على هذه المدارس بعد الثانوية العامة عندما كانت تريد الالتحاق بكلية الفنون الجميلة قبل أن يستقر بها الحال في كلية الآداب قسم الفلسفة.
كلام الفتاة كان محاولة للرد على لغة الرسام الاستعراضية/المتعالية. وتغيير الصورة التي يبدو أنه رسمها لها كفتاة سطحية تريده أن يرسم لها “بورتريه”. ربما لتتباهى به بين أصدقائها، هذا الإحساس الذي انتباهها منذ أن حاول تجهيلها عندما وصفته بـ”البوهيمي”. لقد كان حوارهما نفسه محاولة من كلاهما لاستكشاف الآخر، وهي محاولة أخذت شكل المهمة.
انجذاب
الفتاة وبنفس قدر انجذابها، استطاعت أن تجذب الشاب الذي بدا “متغطرسًا” منذ البداية. وهو ما حاول الممثل أحمد الموجي والذي قام بأداء شخصية الرسام في إظهاره. وإن كان قد انطوى أداءه لبعض الوقت على مبالغة كبيرة وافتعال في حركاته وطريقة نطقه للجمل.
يطلب الشاب منها أن يبدأ في رسمها، فتجلس أمامه، يدندن مقطع من الأغنية التي كانت تسمعها للتو: “يمكن نسي.. وْ عَ قَدْ ما محّى صوَر، وتْنَكَّرْ”. تسأله “إيه ده، أنت بتحب فايا يونان” يجيبها وهو يشعل لها سيجارتها: “ساعات.. بس انتي فكرتيني بالأغنية”. ترد آلاء: “ماكنتش أعرف إن صوتي عالي كده”.
تنطلق في الخلفية موسيقى أغنية فيروز الساحرة “قمرة يا قمرة” بينما يستمران في حديث طويل. لا نسمعه لكننا من الممكن أن نتخيلهما يسبحان بحديثهما داخل عوالم الرسم والفلسفة والموسيقى والسينما. وكل ما يمكن أن يجمع بينهما، بل وربما سبحا معًا داخل حياتهما ذاتها. متبادلين خلال حديثهما ابتسامات عذبة، ليمتلأ المشهد بهجة لا يستطيع المُشاهد مقاومتها، ليجد نفسه يشاركهما هذه النشوة.
الجسر
المُشتركات التي حاول السيناريو خلقها بين شخصيتين بدا أنهما متنافرتان منذ البداية. إلى جانب الاختيار الموفق من المخرج لموسيقى أغنية فيروز “قمرة يا قمرة” بتوزيع جديد لـ”رامي معلوف” كموسيقى تصويرية للعمل. وديكور العمل خاصة اللوحات الفنية، إضافة للميزة الأهم في الفيلم وهي حركة الكاميرا الرشيقة. والتي نجحت في الهروب بالعمل من الملل الذي كان من الممكن أن يتسبب فيه حوار الفيلم الذي كان ينقصه الكثير من التماسك والعمق.
كل هذا يقود المُشاهد خلال السبع دقائق الأولى من الفيلم، في نفس والوقت الذي يقود شخصيتي العمل نفسهما. إلى “الجسر” – فلسفة العمل وجوهره، هذا الذي نحتاج أن نجده ونمده بيننا. الجسر الذي من الممكن أن يُخلق بين أُناس غرباء وغير متشابهين، عبر مشتركات بسيطة، فيشدهم من غربة ذواتهم وانعزالها إلى علاقات إنسانية أكثر رحابة.
https://www.youtube.com/watch?v=rk32aBJJaNE
عندما تزحزحت رتابة الوقت
تتوقف حركة الكاميرا قليلا على بلكونة الشقة التي غمرها الظلام، لتحيل المُشاهد إلى أن وقتًا طويلا مر. تَخفُت موسيقى “قمرة يا قمرة”، ليعود صوتهما وهما لا يزالا يتحدثان، فقد زحزح حوارهما الممتد عبر جسر من “الأُلفة” رتابة الوقت.
تنظر الفتاة في ساعة يدها: “أنا اتأخرت.. أنت خلصت البورتريه.. مش كده؟”. يقول الرسام: “مش بالظبط” تعود لتردد: “آسفة أنا اتأخرت” يطالبها أن تبقى: “طيب استني شوية”. فلا ترد.
يشير لها إلى اللوحة على الحامل لتكتشف أنها لا تزال بيضاء لم تضع عليها فرشاته خطًا واحدًا. ولم تلحظ هي أثناء حديثهما أنه لم يقترب منها. تنظر في اللوحة وتتساءل بابتسامة: “إيه ده.. هو فين البورتريه!”. ليتبادلا نظرة طويلة، ثم تنطلق أغنية “فايا يونان”. بصوت نور بن الشيخ العربي: يمكن نسي.. وْ عَ قَدْ ما محّى صوَر وتْنَكَّرْ.. وْ عَ قدْ مَـ بْبَالو رِبِي النّسيانْ.. يمكن نسي إنو نسي.. وتْذَكَّرْ“.
ملاحظات على الفيلم
هناك بعض الملاحظات السلبية على العمل أهمها خاص بالحوار وأداء الممثلين، فعلى مستوى الحوار الذي شاركت سلمى أسامة زكي. الطالبة بالسنة الثانية بالمعهد العالي للسينما بالإسكندرية، زميلها المخرج عمر القاضي في كتابته. فقد كان إلى حد ما مرتبكًا لم يسر بشكل سلس.
اخُتلقت بعض الجمل لمحاولة ربط الحوار بعضه ببعض، كما وِضعت جمل على لسان بطلي الفيلم، بهدف التدليل على شيء. أو إعلام المشاهد بأمر ما، بشكل فيه إقحام كبير على الحوار. وهي نقاط استطاع المخرج بحركة الكاميرا وحركة الممثلين والموسيقى والديكور خاصة اللوحات على حوائط المكان. أن يتغلب عليها ويهرب كما قولنا من قبل بعمله من فخ “الملل”.
أما أداء الممثلين أحمد الموجي في دور الرسام، ورنا محمد عباس في دور آلاء. فقد كان متفاوتًا فبينما شابهُ مغالاة في الأداء وافتعال في بعض الأحيان. فقد تمتع بالسلاسة والصدق في أحيان أخرى منها المشاهد الصامتة التي كان الموجي ورنا يتحاوران فيها بنظرات العينين أو تعابير الوجه.
لم يكن إذن أداء الممثلين أداءً محترفًا وهذا أمر طبيعي ليس متعلقًا بهما فقط بل بكل عناصر الفيلم اتساقًا مع حداثة تجربة صُناعه. فثلاثة منهم في السنة الثانية بالمعهد العالي للسينما وباقي صناع الفيلم من أصدقائهم في نفس المرحلة العمرية ونفس حداثة التجربة الفنية. هذا أمر لا يعيبهم بالفعل ولا يقلل من جهدهم وجودة عملهم. كما لا يقلل من نجاحهم في حصد جائزة أفضل فيلم من بين 36 عملًا رشح للجائزة، لكنه مجرد إقرارًا لواقع حسب رؤية كاتب هذه السطور.
صناع العمل
لا نستطيع أن نفصل العمل عن صُناعه، فما حققه “يمكن نسي” ارتبط بروح جماعية كان هدفها الأول إنجاح الفيلم. دون حتى أن يضعوا في حساباتهم أن يرشح للمشاركة في مهرجانات أو يحصل على جوائز.
هذه الروح شعرنا بها وتحسسناها من خلال حديثنا مع صناع الفيلم وهم مجموعة فنانين سكندريين. سعوا لصنع شيء جيد وقد كان ما سعوا إليه، فسلمى أسامة زكي. والتي شاركت في كتابة الفيلم ساعدت أيضا في تدريب الممثلين، ومحاولة مساعدتهم كما تقول: “في التعرف على جوهر الشخصيات”. ولحقت بها في هذه المهمة ريهام فوزي، التي تقول إن الجميع كان هدفه الأول أن يخرج العمل بشكل جيد.
وشارك شافعي مع المخرج عمر القاضي في تصميم الديكور “المميز” للفيلم. والذي يقول شافعي إنهم اعتمدوا فيه على لوحات فنية لأصدقائهم، وأدوات رسم وأشياء خاصة ببعضهم. في ظل إمكانيات إنتاجية متواضعة جدًا. أما عمر القاضي مخرج الفيلم وكاتب السيناريو فيُرجع الفضل إلى زملائه.
شارك أيضا في صناعة الفيلم، أنس محمد، مديرًا للتصوير، وصموئيل طانيوس، تسجيل صوت. وكلاكيت ريهام فوزي وعلي جبريل، ومونتاج وتترات ومكساج، عبد الوهاب.
مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط لم يكن المهرجان الوحيد الذي يشارك فيه فيلم “يمكن نسي”. فقد شارك الفيلم بحسب مخرجه عمر القاضي في عدة مهرجانات منها مهرجان Lisbon Film Rendezvous السينمائي بالبرتغال، ومهرجان Amsterdam Lift-Offl بهولندا.
كما تم ترشيحه للعرض في مهرجان Noble international film festival بالهند، العام المقبل. ونال الفيلم تنويه خاص من مهرجان (Burien) السينمائي بواشنطن.
هذا النجاح يجعلنا نشير إلى انعدام الدعم المقدم من مؤسسات السينما، ومؤسسات الدولة الثقافية. لصناع الأفلام القصيرة خاصة الشباب والطلاب، وهو الأمر الذي ذكره بشدة صناع فيلم “يمكن نسي” في حديثهم إلينا.