يطرح كتاب “عيش مرحرح” تجربة جديدة نسبيا على القارئ العربي. ويعد دراسة محلية لواقع ومحددات السيادة على الغذاء. عبر دراسة ميدانية اتخذت من طبيعة الزراعة بقريتين في صعيد مصر نموذجا.
كتاب عيش مرحرح الذي أصدرته دار نشر صفصافة. للباحثين محمد رمضان، وصقر النور. يتطرق لطرق وإمكانات الإنتاج الزراعي الصغير. الذي يصل إلى عشر فدادين، وعلاقته بالمنظومات الغذائية المحلية، ونظيرتها العالمية، وكيف تفترق تلك المنظومات وتلتقي محليا ودوليا.
الدراسة تقوم على مناهج تحليلية مختلفة، تعتمد على الدمج بين الاقتصاد السياسي الزراعي، وكذلك التحليل الاجتماعي التاريخي، لواقع الزراعة. وسبل عيش الفلاحين متخذة من قريتي إبوان في المنيا، وهوارة في الفيوم نموذجا. وهما النطاق الجغرافي الذي تتم فيه تلك الدراسة.
ولا ينسى الكتاب التطرق إلى موضوعات ملحة مثل إمكانية بناء نظام زراعي بديل مستدام بيئيا وعادل اجتماعيا. يلائم الثقافة العامة. وكذلك النساء ووجودهم في مسالة السيادة متخذين من العيش المرحرح نموذجا. حيث يعتقد أن السيطرة لازالت لهم في مسألة الخبز.
وبحسب المؤلفين تعني السيادة الغذائية. حق الشعوب في غذاء صحي وملائم ثقافيًّا. ينتج من خلال أساليب صحيحة ومستدامة بيئيًّا. وكذلك حقها في تحديد نظمها الغذائية والزراعية. كما تضع تطلعات أولئك الذين ينتجون ويوزعون ويستهلكون الغذاء في قلب النظم والسياسات الغذائية بدلًا من الدفاع عن حرية الأسواق والشركات، كما تدافع عن مصالح وإدماج الأجيال المقبلة.
السيادة الغذائية استراتيجية بديلة
تحقق السيادة الغذائية استراتيجية بديلة. من أجل مقاومة وتفكيك النظام الحالي الذي يغلب عليه منطق التجارة، لاسيما النظم الغذائية التي تعتمد على إنتاج الغذاء من قبل الشركات الكبرى والعابرة للقوميات، نحو استراتيجية أكثر شمولًا تدمج الفلاحين والفلاحات والصيادين الصغار وغيرهم من صغار منتجي الغذاء في علاقات إنتاج وتوزيع عادلة.
تعطي السيادة الغذائية مصالح المنتجين والمنتجات المحليين للغذاء الأولوية في تحديد الأنظمة الغذائية الملائمة لهم من أجل توفير الغذاء للمجتمعات المحلية والقومية، وذلك على عكس نظم الغذاء المرتكزة على السوق والتي تتجاهل تلك الحقائق.
وتعمل السيادة الغذائية على تمكين الفلاحين والزراعات الأسرية والصيد الحرفي في مواجهة الشركات الكبرى، ومن ثم فإن السيادة الغذائية تقوم على أسس الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية.
علاقات القرية والمدينة
يحمل الكتاب في فصله الذي يحمل عنوان الريف والمدينة وتاريخ من نزع القيمة، عددا من المراحل التاريخية التي تم فيها الاعتداء على حقوق الفلاحين الطبيعية لصالح أبناء المدينة، منذ محمد علي وحتى التحول النيوليبرالي الحالي.
كما يصحح عددا من الحقائق، والأخطاء الشائعة عن علاقات الريف والمدن. فمثلا يمثل سكان المناطق الريفية بحسب الكتاب نحو 58% من السكان في مصر. بحسب آخر التعدادات السكانية في 2017. تلك النسبة كانت تقارب الـ62% في بداية الستينيات. ولكن كثير من التغيرات في الاقتصاد لم تدفع سوى 5% فقط من سكان الريف في مصر نحو المدينة.
من بين الـ57 مليون نسمة الذين يعيشون في المناطق الريفية في مصر ما يقرب من 5.7 مليون فلاح يملكون أراضي، أي لديهم حيازة زراعية.
وفي عملية نزع القيمة من الريف نحو المدينة، تدين الاسكندرية بوجودها المديني الحالي لطفرة التجارة الزراعية في فترة محمد علي وما بعده في طفرة القطن.
في خطة الحداثة التي حاول محمد علي تطبيقها حدث الكثير من الاستيلاء المديني على القرى، وتحولت الملكيات لسكان المدن الأثرياء، وظهرت الملكيات الكبرى، وكذلك التوسع في المحاصيل الزراعية التجارية مثل القطن، وقصب السكر، والطرق الحديثة في الري، وفرض سياسات احتكارية بعينها.
وبعد وفاة محمد علي توقفت اجراءاته الاحتكارية التي فرضها على الزراعة، ومعها توقف قطار الحداثة، ولكن عاد اسماعيل لمحاولة استئناف طريق جده، ولكن ظهر حينها ملاح جديدة للزراعة عبر ارتباطها بالاستعمار العالمي، مثل التركيز على زراعة القطن.
ورغم ظهور طبقة الإقطاع نتيجة الأزمة الاقتصادية في بداية القرن العشرين إلا أن صغار الملاك ظلوا متمسكين بوجودهم وبمساعدة الادارة الانجليزية، التي خافت أن يقع الفلاحين المعدمين فريسة الأفكار الاشتراكية، ففرضت قوانين من نوعية، منع الاستيلاء على الأراضي التي تقل عن خمس فدادين، لذا يمكن النظر لمسألة الملكية حينها كمسألة مركبة.
ما بعد الملكية
جاءت حركة الضباط في عام 1952. ليبدأ معها فصل زراعي جديد. ظهرت أفكار الإصلاح الزراعي، التي كان الإنجليز سبق وأن اقترحوها. إنقاذا للفلاحين الصغار. كما تحسنت أحوال الفلاحين، قلت الملكيات الكبيرة، ولكن التغيير كان طفيفا بالنسبة للفلاحين الذين لا يملكون الأرض.
ومع تولي الرئيس محمد أنور السادات للحكم. تغيرت الاستراتيجية الزراعية وتوجهت نحو السوق المفتوح. وفي عهده سمح القانون بطرد المالك للمستأجر، وألغيت التعاونيات، التي لعبت دورا في حماية الفلاح، في خليط من عملية الافقار، والتمايز، التي لم ينقذها من الانفجار سوى عملية هجرة العمالة.
وجاء الرئيس محمد حسني مبارك. الذي حددت ملامح عهده هيئة المعونة الأمريكية وتوجيهات البنك الدولي. فكانت النتيجة الارتباط بحاجة السوق العالمي، ورفع يد الدولة تماما عن الفلاح، عبر إلغاء الدعم، إلى جانب تجاهل مسألة الاكتفاء الذاتي، وتجاوزها إلى الأمن الغذائي حيث يمكن تأمين الغذاء دون زرعه.
أما السنوات الاخيرة فقد يكون قرار تعويم الجنيه هو القرار السلبي الأهم على القطاع الزراعي، والذي لم يساهم في دعم الصادرات كما روجت الدولة أو تمنت، ولكنه أسهم في جنون الأسعار، وميل التجار لتخزين السلع، والاحتفاظ بها.
الفلاحون السوق العالمي.. سلاسل القيمة
تمثل سلاسل القيمة التي استخدمها الكتاب، مدخلًا مهمًّا في فهم كيف يتم إدخال وتطوير الزراعات التجارية، ومحاولة فهم الكيفية التي أثرت بها التغييرات في النظام الغذائي الزراعي العالمي على المجتمعات الزراعية.
لذلك فإن العلاقة الديناميكية بين التحليل الكلي والجزئي لسلاسل القيمة. تمنحنا قراءة لهذه السلاسل ليس كأداة لتحليل العلاقات الإنتاجية بمحاصيل معينة. ولكنها كمرحلة في سلسلة طويلة من العمليات الهادفة إلى إدماج الفلاحين في مجتمع منطق السوق الذي تهيمن عليه كبرى الشركات.
وتستخدم الدراسة محصول البطاطس الذي يعد الأبرز في قرية البحث إبوان. وهو محصولا مهما بالنسبة للفلاحين، يوفر قيمة تجارية منه، كما يمكن زرعه لأكثر من مرة.
وبحسب البيانات تظهر طفرة الإنتاج الكبيرة بداية من التسعينيات، وهي الحقبة التي بدأت فيها مصر انتهاج سياسات نيوليبرالية في القطاع الزراعي، كان أهمها تحرير الإيجارات الزراعية في 1992.
تلك السياسات عمدت لتحرير أسعار مدخلات الإنتاج الزراعية. بالتالي الاتجاه نحو المحاصيل التجارية مثل البطاطس. من أجل توفير سبل المعيشة خلال الأزمة للأسر المصرية في الريف. لكن كانت تلك التغيرات مدفوعة أيضًا بزيادة الطلب المحلي على البطاطس. حيث بدأت البطاطس من منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات تلعب دورًا أكبر في سلة غذاء المصريين.
يرجح المؤلفان تلك الزيادة الكبيرة في الإنتاج في الفترة بين السبعينيات والتسعينيات. إلى زيادة الاستهلاك البطاطس. مع دخول ثقافة الأكل السريع وبداية الاستخدام الواسع للبطاطس في إنتاج الرقائق المقرمشة في بداية الثمانينيات. وحتى الطفرة الكبيرة في التسعينيات.
تغيير أنماط الغذاء
كما أن تلك التغيرات كانت مدفوعة بتغير أنماط غذاء المصريين. ليس فقط باعتمادها على أنماط تغذية مدينية سريعة ولكن من خلال تسرب تلك الأنماط الاستهلاكية للغذاء للريف نفسه مع الوقت.
أما مشاكل المحصول ونتيجة تحليل سلاسل القيمة. فكانت تتمثل في احتكار الشركات بعينها على المحصول. مثل بيبسي، ودلتاكس، وفارم فريتس. حيث لا يملك الفلاحون في مواجهتهم القدرة على التفاوض. ولا يملكون أدوات تخزين المحصول التي تستلزم أموال طائلة. كما لاتنعكس فائدة ارتفاع السعر العالمي على أحوالهم. فضلا عن تأثير الوسطاء والفاعلين على عملية تسويق المحصول.
وفي المقابل لا تتدخل الدولة في احتكار تلك الشركات للتقاوي، حيث تحصل على ربح يقدر بـمئة في المئة.
محصول البنجر
وكان المحصول الثاني الخاضع لتحليل سلاسل القيمة هو البنجر، ويلفت الكتاب إلى أضرار الزراعة التعاقدية التي ترتبط أيضًا بالإنتاجية بالمعنى الكمي، فمن أجل أن يحصل المزارعون على أموال أكثر فإنهم مطالبون بتوريد كميات أكبر من المحصول للشركة أو المصنع
في حالة البنجر وغيرها من المحاصيل التي تزرع بنظام الزراعة التعاقدية. غالبًا ما يلجأ الفلاحون للاستخدام المكثف للأسمدة والمبيدات. من أجل زيادة الإنتاج. ما قد يؤدي لتداعيات كبيرة على المحصول والتربة وصحة الإنسان في تلك المناطق.
وترتبط زراعة البنجر بتغير سلة الغذاء للمصريين منذ منتصف القرن العشرين. التي اعتمدت كثيرا على الأغذية المصنعة، والحلويات، واستهلاك المزيد من السكر بالتبعية.
وفي هوارة قرية الدراسة. تعد زراعة البنجر زراعة تعاقدية، حيث يباع المحصول لشركة الفيوم الحكومية، ولكن تلك التعاقدية يشوبها الكثير من المشكلات، مثل عدم حصول صغار الفلاحين على عقود مكتوبة، كما تمثل مسالة الأسمدة وضعف دعمها الحكومي، في ظل ارتفاع مبالغ فيه بأسعارها مشكلة أساسية أمام الفلاحين، فضلا عن غياب الإرشاد الزراعي، والدعم التقني، في مقابل تحديد الأسعار واحتكار الإنتاج.
ومع كل هذا يبدو أن ما يتم تصويره عن الزراعة التعاقدية من كونها سبيلا لتمكين الفلاح وإخراجه من الفقر، يتنافى مع ما توصلت إليه الدراسة من أشكال للهيمنة، والإخضاع يتعرض لها الفلاح، والإدماج الجبري عبر السياسات الاحتكارية للزراعة النيوليبرالية العالمية.
حدود السيادة الغذائية محليا
بعد تحليل علاقات الفلاحين بقريتي الدراسة بالسوق العالمي عبر تحليل سلاسل القيمة لمحصولي البطاطس والبنجر يناقش الكتاب بعض المحددات الاجتماعية الاقتصادية لبناء السيادة على الغذاء
ويعد أولها مسألة الملكية الزراعية والنفاذ إلى الأراضي ويتضح من هيكل الملكية بالقريتين سيطرة نمط الإنتاج الصغير وتمثل الحيازات الصغيرة والمتوسطة حوالي 97 % من جملة الحائزين.
النتيجة الثانية المرتبطة بمسألة الملكية وهي ديناميكيات الملكية العقارية، عبر التحليل التاريخي الاجتماعي للقريتين ودراسة سير الحياة لبعض دراسات الحالة والتي أظهرت تحولات الملكية
وعبر تحليل بيانات العمل الميداني يمكن رصد نوعين من التغيرات في ملكية الأرض في قرى الدراسة، النوع الأول هو تفتت المساحات الزراعية بفعل تناقص الملكية الزراعية
للعائلات الكبيرة عبر الأجيال، والنوع الثاني من التغيرات هو التراكم للملكية الذي نشأ بشكل بطيء من خلال زيادة قدرة الفلاحين الصغار والمتوسطين على مراكمة الأرض بالشراء في مراحل تاريخية مختلفة.
سبل العيش
وعبر تحليل سبل عيش الأسر المعيشية. يقدم الكتاب محاولة لفهم وتحليل الخيارات الممكنة وأشكال التوليفات المعيشية التي تتبعها الأسر المختلفة بقريتي الدراسة لبناء سبل عيشها.
وبحسب النتائج تتنوع سبل العيش وتتفاوت حسب عدد أفراد الأسرة، والتقسيم الاجتماعي للعمل يكون حسب النوع الاجتماعي وطبيعة الأعمال ومساحة الأراضي التي يملكونها وشبكة العلاقات التي ينخرطون فيها.
وتمثل التقاوي أو البذور مكون أساسي في تحقيق السيادة الغذائية، فدون الحصول على تقاوٍ ذات جودة وبأسعار معقولة والحق في حفظ واختيار وتبادل وإعادة زراعة البذور، لا يمكن تحقق السيادة على الغذاء بشكل كامل.
تحمل البذور المفاتيح الوراثية للتنوع البيولوجي ومقاومة التغيرات المناخية، وهي تحمل أيضًا سجلات للتراكمات المعرفية والثقافية المرتبطة بالمحاصيل المحلية، وتتطور نتاج ممارسات التكاثر والانتخاب التاريخية التي هي في حقيقة الأمر ميراث بشري منذ أن قام الإنسان الأول في مناطق متفرقة من العالم بزراعة وانتخاب النباتات.
بناء على الاستشهادات المحلية والتطورات القانونية والمؤسساتية. تبدو حالة السيادة الغذائية محليًّا على الأراضي والإنتاج الزراعي والبذور معقدة جدًّا. فمن ناحية يعطي نمط الإنتاج الصغير وشكل الملكية القزمية واحتفاظ الفلاحين ببعض أصناف البذور من بعض المحاصيل وممارسات منخفضة الاستخدام للطاقة فرصًا كبيرة لبناء اقتصاد زراعي بديل. قائم على الزراعة البيئية الفلاحية المستدامة والسيادة الغذائية، ومن ناحية أخرى فإن التوسع المتسارع لهيمنة قوانين السوق والانخراط في اتفاقيات التبادل التجاري تقلص من فرص بناء سياسات السيادة الغذائية”.
الخبز والنساء.. عيش مرحرح
يعد الخبز مصدر أساسي للسعرات الحرارية لأغلب المصريين ويمثل نسبة كبيرة من إنفاق الأسر على الطعام.
ترتفع نسبة الإنفاق على الخبز بشكل طفيف في المناطق الريفية لتشكل 13.6 % من جملة الإنفاق على الطعام والشراب. التي تمثل 40.2 % من جملة الإنفاق العام في الريف بالأسعار الجارية أي نحو نسبة 5.4 % من جملة الاستهلاك السنوي للأسر في الريف.
من خلال المقابلات الميدانية التي تم إجراؤها حول الخبز في القريتين. تبين أن القرارات الزراعية ليست حكرًا على الرجال. إذ تُقرر النساء نوع القمح الذي سوف يُزرع للاستخدام المنزلي حسب معرفتها وخبرتها بإعداد الخبز.
كذلك كلما قلت المساحة المنزرعة. يصبح اقتصاد الزراعة جزءًا أساسيًّا من الاقتصاد المنزلي. والاقتصاد المنزلي هو المكون الأساسي لدخل العائلة. كما هو في حالة الأسر التي تملك مساحات صغيرة أقل من فدانين أو قزمية أقل من نصف فدان من الأراضي.
وتتبع الكتاب خطوات عمل الخبز البتاو، والعيش الشقق في قريتي الدراسة. وأعدت الباحثة مروة ممدوح دليل لإعداد الخبز تم اضافته كملحق بالكتاب.
وختاما يجب ملاحظة أن اعتماد الدراسة على العمل الميداني، في القريتين المذكورتين، تسبب في عدم تناول القضايا التي لم ترد في ردود المبحوثين او لم تسجلها الملاحظات الميدانية، ونظرا لأن قريتي الدراسة لا تعانيان من أزمات مياه فان مسالة العطش لم تدخل ضمن نطاق الدراسة وايضا مسالة الاستصلاح الزراعي حيث أن القريتين من القري القديمة.
فالدراسة لا تقدم صورة كاملة او تفصيلية عن السيادة الغذائية محليا ولكنها تفتح المجال للنقاش حول المسألة وتضخ كمية من المعلومات والنقاشات والعمل الميداني الجديد والمتصل بتاريخ طويل للمدرسة المصرية للعلوم الاجتماعية المعنية بالريف.