لا يذهب الناس إلى المستشفيات إلا مضطرين، ليس لأنهم يكرهون المرض ولا يودون رؤية الآلام التي لا نهاية لها فحسب، وإنما لأنهم يدركون خطر الوجود في مستشفى حكومي وسط وباء قاتل وعناية محدودة بإجراءات السلامة. بالإضافة إلى الخوف على أنفسهم من مكان يُجهز فيه طابق كامل لاستقبال مصابي الكورونا إذا ما استفحل أمرها – لا قدر الله – مع بدايات الموجة الرابعة، وفوق ذلك كله يأتي خوف أصحاب الضمائر الحية على المرضى أنفسهم، هؤلاء الذين تتراجع مناعتهم من أن ينقل إليهم زائرهم عدوى أو فيرسًا يجري في جسده دون أن يعلم عنه شيئًا..!

ولكن لا بدّ مما ليس منه بد، فقد اضطررت إلى نقل ابنة أختي إلى طوارئ مستشفى النيل بشبرا الخيمة الشهر الماضي، ولن أطيل عليك في الحديث عن خدمة الطوارئ في مستشفى مثل هذا؛ فأنت بالتأكيد تعرف ما يجري في مكان كهذا بما يزيد عن حد العقل في التحمل والإدراك.

لقد أجرت الفتاة في اليوم التالي – بناء على توصية الطبيب المعالج – جراحة عاجلة، لتستقر بعدها في إحدي غرف المستشفى بالدور السادس، ولن أحدثك أيضًا عن سوء الغرفة، وتآكل جدرانها، وبؤس دورة المياه الملحقة بها، وارتفاع درجة حرارتها أواخر أغسطس وعجز المروحة الضعيفة على الجدار عن تلطيف هوائها.

 غاضبًا من تردي الأحوال، وحزينًا على هذه الفتاة الصغيرة التي ساقتها الأقدار إلى هذا الوضع، وقفتُ في البلكونة التي تطل مباشرة على محطة (سكّة حديد شبرا الخيمة).. جاء الطبيب الذي أجرى الجراحة يطمئننا على نتيجة العملية واحتمال خروجنا القريب من المستشفى على أن نعود بعد أسبوع للمتابعة، كان الطبيب يتحدث باهتمام غير معهود، يشرح ويستفيض، ولكنه اضطر إلى التوقف عن الكلام ليتفادى تكراره مرة أخرى بعد أن اخترقت المكان صافرة القطار المدوية، تتبعها دمدمة عجلاته الحديدية، معلنة قرب دخوله محطة سكة حديد شبرا الخيمة. توقَّف الطبيب وهو يجزّ على أسنانه حتى هدأت موجة الصّخب الحديدية، ثم استأنف الكلام مرة أخرى.

الطبيب الشاب يبدو خبيراً في تخصصه، أو هكذا خيل إليّ؛ فهو يفحص مريضته بأناة وصبر، ويدوّن ملاحظاته في دفتر صغير يضعه في جيبه، يفكر قليلًا، ثم يوصي بأدوية محددة.

ملابس الطبيب بسيطة، وتشير لكنته إلى أصول ريفية أنهكتها المشقة والجدّية، وشغلها حلم الترقي الاجتماعي عبر بوابة العلم الشّامخة، وذلك في وقت كان العلم هو البوابة المعتمدة  للترقي المنشود.. الطبيب – بشكل عام – من تلك الفئة من الناس التي تبحث عن حلّ دائمًا، وتغزل بما هو متاح، وتنجز مهمتها على أكمل وجه وأتمه مهما كانت الظروف. (أنت بالتأكيد تعلم تلك الظروف، ولست في حاجة إلى من يحصيها لك).. ولذا فأنا أرتاح مع هذه الفئة من الأطباء، وأطمئن تمامًا حين يكون أحد أقاربي بين أيديهم.

بعد زيارة الطبيب، وقفتُ قليلاً في البلكونة، أراقب محطة السكة الحديد، وأتابع القطارات القادمة من محطة مصر قاطعة رحلتها الشاقة نحو الشمال، تُدمدم عجلاتها الحديدية الجبارة فتقض المكان كله، ثم أتابع – مرة أخرى – القطارات القادمة من الشمال نحو محطة مصر…!!

 تلي – مباشرة – محطة مترو أنفاق (شبرا الخيمة – الجيزة) توأمها محطة السكة الحديد، ولك أن تتخيل مقدار الضوضاء التي يمكن لكائنين عملاقين مثل هذين أن يحدثاها حين يجتمعان معًا في وقت واحد في مكان مكشوف، ولك أن تتخيل مقدار الزحام ومئات الركاب يهرولون للنزول وآخرين يهرولون للركوب…!

وإذا طال وقوفك في البلكونة دقائق أخرى، سوف ترى سور خط السكة الحديد، وأمامه مباشرة تقف – بطريقة عشوائية بالغة – العشرات من سيارات الميكروباص، رغم أنه موقف مخصص من قبل المحليات، إلا أنه فاض عن جانبيه، واختلّ نظامه حتى باتت الفوضى هي الأصل، ولا يمكنك أن تحدس كيف اختار أحدهم هذا المكان الضيق ليكون (موقفًا عموميًّا) ينتقل الناس منه وإليه.؟ وعلى امتداد “الموقف”، وبطول سور السكة الحديد توجد – بطبيعة الحال – الخدمات الملحقة المعتادة في “مواقف السيارات”: أكثر من كشك لبيع البقالة العاجلة، تتفاوت الأكشاك في المساحة والحجم، ولكن أحدها – لسبب معلوم –  قد رُصّت بضاعته داخله وفاضت حتى امتدت أمامه لأكثر من ثلاثة أمتار، ثم امتد على الجانبين ثلاثة أمتار أخرى.

محطة رمسيس

وبالكاد يجد السائل إحدى فتحتات مترو الأنفاق بعد أن حجبتها عن الرؤية كراتين الشبيسي والمقرمشات.. تجاور هذا الكشك المميز (نصبة شاي) – مقهى شعبي مجازًا – تتناثر كراسيه أمام السور كيفما اتفق، وقد ثبّت صاحبه – على مكان مرتفع قليلًا – مكبّر صوت حديث، يبثّ على مدار الساعة ما يمكنك أن تتخيله أو لا تتخيله من الأغاني الشعبية وأغاني المهرجانات الجديدة ..!! 

وفي المكان – أو بتعبير أدقّ – على جانبي المكان وزواياه الضيقة سوف تشاهد بقايا بـوْل متراكم لهؤلاء الذين حصرتهم الحاجة، ولم يجدوا دورة مياه قريبة فقضوا حاجتهم – مضطرين – في الأركان التي اسودّ ترابها الناعم من كثرة البائلين.

تتناثر سيارات الميكروباص على جانبي “الموقف”، وقد اقتطعت جزءًا معتبرًا من الطريق، بالكاد يتبقى منه نصفه الذي يوجب على القادمين من أحمد حلمي وكلية الزراعة أن يقودوا في هذه المنطقة بحذر، ويخفّفوا من سرعتهم تفاديًا لأي اصطدام محتمل بسيارات الميكروباص التي تدخل وتخرج بركابها دون أدنى التزام بالقانون أو قواعد القيادة، رغم وجود دورية مرورية على بعد أمتار من المشهد كله، كما أن المكان نفسه يضم مبنى محافظة القليوبية وقسم أول شرطة شبرا الخيمة..!! 

الضوضاء وكل أشكال التلوث هي العنوان الأبرز للمكان، رغم واجهة مستشفى النيل العالية، ورغم أنها مطلية حديثًا بألوان بهيجة، يُهيمن عليها اللون الأزرق السماويّ الذي أنهى حقبة الألوان الداكنة: البني والرمادي.. ولكن المشافي الكبيرة لا تتقدم بالألوان البهيجة وحدها…!!

 غادرت غرفة ابنة أختي التي جئت لزيارتها بعد نصف ساعة تقريبًا.. كنت حريصًا على ألا ألمس أبواب المكان المتآكلة أو مقابضه المهشمة، ولكن الحالة الدرامية تأبى أن تنتهي عند هذا الحد، فقد لفت انتباهي – وأنا أنتظر أمام أسانسير السادة زوار المرضى – أن إدارة المستشفى قد وضعت على جدار الطُّرقة، وفي مواجهة الأسانسير تمامًا يافطة بخط واضح وأنيق تحثّ الزّوار على الهدوء لراحة المرضى، ثم يافطة أخرى أكبر من سابقتها تتحدث عن حقوق المريض ورسالة المستشفى..!!

 خرجتُ إلى البوابة العمومية، حاولت أن أتفادى عشرات التكاتك والتروسيكلات التي تنقل المرضى من بيوتهم إلى الطوارئ كأيّ عربة إسعاف، خرجت وأنا أقول لنفسي: هل يحتاج هذا المكان إلى إعادة تخطيط فحسب؟