تداول بعض مستخدمي فيسبوك المصري، قبل فترة، صورة لما يبدو جزءا من حوار دار بين فتاة وبين أحد مديري مجموعة على الفيسبوك. كانت الفتاة تلح طالبة نشر سؤال لها على صفحة المجموعة. السؤال هو ما إذا كان يجوز لفتيات لم يسبق لهن الزواج زيارة قبر شاب أعزب ليس على صلة قرابة بهن. ما بدا أنه يقلق الفتاة تحديدا هو أنها سمعت البعض يردد أنه في حال حدوث ذلك فإن الملائكة ستوقظ الشاب وتسأله عن صلته بهؤلاء الفتيات، وعندما يفشل الشاب في إيضاح هذه الصلة فإن الملائكة ستضربه. رد مدير المجموعة بعد الاستعفار كان، أن الميت يشعر بمن يزوره ويفرح به، ثم استنكر تصور الفتاة أن تضرب الملائكة الشاب، مؤكدا أن القبر ليس قسم شرطة.

بغض النظر عما إذا كان السؤال وإجابته حقيقيين، وهو أمر لا يمكن التأكد منه، خاصة أن تلفيق حوارات خيالية بغرض نشرها على سبيل السخرية أمر متكرر على مواقع التواصل الاجتماعي، تبقى فكرة الحوار البسيطة والساذجة مثيرة للاهتمام. ما الذي يمكن أن يدفع أحدهم للتفكير في إمكانية أن يٌعذب ميت في قبره بسبب زيارة نساء لسن على صلة قرابة به؟

في واقعة لا صلة لها بالأولى نشرت واحدة من صفحات الفيسبوك المعنية بالسينما نصا لحوار أحد مشاهد فيلم الخيط الرفيع، بين بطليه فاتن حمامة ومحمود ياسين. من يعرف الفيلم سيتذكر فورا مشهد المواجهة بين بطليه، وربما سيتذكر أن تلك بالتأكيد ليست المرة الأولى التي ينشر فيها أحدهم نص الحوار لهذا المشهد من خلال الفيسبوك. في الحوار الذي يحاول فيه البطل إيضاح سبب عدم إمكان الإعلان عن علاقته بالبطلة لأن المجتمع لن يمكنه فهم هذه العلاقة، لأن الناس كافرون بها، في حين أنه المؤمن الوحيد. تطالبه البطلة بأن يكون نبيا وينشر دعوته للإيمان بها، فيجيب بأنه لا يمكنه أن يكون نبيا.

في المقابل يطالبها بأن تغفر له، حيث أن الله يغفر لعباده، فترد مستنكرة أن يطالبها بأن تكون إلها في حين لا يمكنه هو نفسه أن يكون نبيا. التعليقات على الحوار في غالبيتها الساحقة انصبت حصرا على استنكار ما اعتبرته إشارات إلحادية أو إلحادا صريحا في الحوار، ووصل الأمر بالبعض إلى اتهام مديري الصفحة بمحاولة نشر الإلحاد. هذه المرة ليس ثمة إمكانية للقول بأن ردود الأفعال على الحوار كانت مختلقة بغرض السخرية، في الواقع لن يفكر أحد للحظة في التساؤل عن ذلك، لأنه لن يجد في التعليقات ما يثير الدهشة، سواء كان هو نفسه يتفق معها أم لا.

ومع ذلك ألا ينبغي لنا أن نتساءل لماذا تجاهل أغلب المعلقين التفسير البسيط والواضح للحوار بالفيلم وهو أن الإشارة إلى النبي والدعوة وإلى الإله والمغفرة هي جميعها مجازية؟ هل كان المجاز في الحوار أعقد من أن يدركوه؟ في النهاية هذا فيلم أنتج للعرض العام منذ 40 عاما، وهو موجه للجمهور العادي، فهل كان الجمهور المصري العادي قادرا على إدراك وتقبل مجازية الحوار قبل 40 عاما، في حين أصبحت غالبيته حسب العينة الممثلة لها بين المعلقين على الصفحة غير قادرة على ذلك؟

أخيرا، في واقعة ثالثة ليس مصدرها موقع فيسيوك هذه المرة، أحدث مغني راب فلسطيني استضافه مغني راب مصري في حفل له أزمة كبيرة عندما غنى الابتهال الشهير للشيخ النقشبندي “مولاي إني ببابك” بعد استبدال كلمة مولاي باسم المغني المصري مروان. صعدت نقابة الموسيقيين الأزمة بأن أصدرت قرارا بوقت استخراج تصاريح غناء للمغني المصري “مروان بابلو” إلى أجل غير مسمى. في إيضاحها للقرار قالت النقابة (أو مجلسها) “تناول مروان بابلو في إحدى حفلاته، ابتهالا دينيا معروفا، ويحمل معان روحانية وقيما سامية لدى المصريين، حيث استهان بهذا الدعاء بشكل مبتذل وأفرغه من محتواه الأخلاقي وجعله عن ذات المؤدي”. بخلاف رد الفعل الحاسم لنقابة الموسيقيين، فقد أثارت الواقعة ردود أفعال غاضبة من الكثيرين ووصل الأمر ببعضهم إلى اتهام المغني بالإلحاد.

اقرأ أيضا:

«ابتهال مروان» وتوثين الدين

مروان بابلو
مروان بابلو

بشكل ما ذكرتني الواقعة الأخيرة بعبارة وردت بحلقة من فوازير رمضان قبل أكثر من ربع قرن. موضوع هذه الفوازير كان حول أفلام مصرية قديمة. في كل حلقة قدم ممثلون معاصرون حينها مشاهد من فيلم قديم بطريقة فكاهية، وفي الحلقة التي أتحدث عنها كان الفيلم القديم هو “سي عمر” الذي قام نجيب الريحاني ببطولته عام 1941. في أحد المشاهد، يمر رجال البوليس بإحدى عربات قطار يستقله الريحاني والممثل الكوميدي العظيم عبد الفتاح القصري الذي كان يؤدي دور لص سرق عقدا، وهو ما جعله يرتبك خشية ضبطه والعقد بحوزته، ومن ثم يقوم بدس العقد في أحد جيوب الريحاني دون أن يدري الأخير بذلك.

في إعادة المشهد بالفوازير أدى دور عبد الفتاح القصري الممثل الكوميدي المنتصر بالله، وفي اللحظة التي يدرك فيها أن “البوليس” بالمكان يقول “إذا بوليس، فاستتروا”، وهو استخدام مباشر للحديث النبوي “إذا بليتم فاستتروا”، وفيه استغلال ذكي للجناس اللفظي (أي التشابه في النطق) لكلمتي “بوليس” التي تصبح مع التنوين “بوليسون”، و”بليتم”. كيف سيكون رد الفعل على إذاعة هذه الحلقة من الفوازير اليوم؟ دعني أضيف أيضا، كيف سيكون رد الفعل مع الوضع في الاعتبار أن المنتصر بالله، مسيحي؟ هل تعتقد أن تلك حقيقة غير ذات أثر؟ يمكنك فقط أن تبحث عن اسم المنتصر بالله على جوجول لتكتشف أن العبارة الأعلى بحثا على الموقع عن المنتصر بالله، الفنان والممثل الكبير، هي “المنتصر بالله مسيحي”.

في الحالتين استخدم مغني الراب وكاتب حلقة الفوازير إحدى أدوات التعبير الشائعة وتسمى التناص، وهي برغم المصطلح الغريب على الآذان أداة بسيطة للغاية إلى حد أننا جميعا كأطفال استخدمناها بتلقائية باستبدال كلمات أغاني أو مقولات شهيرة بأخرى، عادة بغرض الفكاهة. يمكنني أن أتذكر أن عبارة شهيرة في أغنية “فاتت جنبنا” لعبد الحليم حافظ هي “وجاني الرد جاني ولقيتها بتستناني”، قد حولناها في طفولتنا إلى “وجاني الرز جاني والفرخة بتستناني”. لم يكن أحدنا يقصد بأي حال إهانة عبد الحليم أو أغنيته، أو ازدرائهما. وحتى في عقولنا البسيطة كأطفال كان واضحا أن المعنى الفكاهي الساذج الذي أنتجناه لم تكن له علاقة بمعاني الأغنية حيث أن تعديل الكلمات قد نقل العبارة إلى سياق مختلف تماما. فهل الكبار البالغون اليوم، وبينهم مسؤولون على إدارة نقابة فنية عريقة وهامة، غير قادرين على إدراك ما أدركته عقولنا في طفولتنا. أي ببساطة أن العبارات تكتسب معانيها من خلال سياقاتها المختلفة؟

قد يرى البعض أن ما قد يربط بين هذه الوقائع المختلفة هو الدين، وما تقتضيه أوامره ونواهيه، ولكن هذا غير صحيح على الإطلاق. استبعد تماما أن يفتي عالم بالدين الإسلامي بأن أي حالة مما سبق ينطبق عليه أي من أحكام الدين. أكثر من ذلك لا يربط بين هذه الوقائع نمط التدين السائد، والذي قد يختلف من زمن إلى آخر. قد يرى البعض أن المصريين قد أصبحوا أكثر تدينا، بمعنى أنهم أكثر حرصا على الالتزام بأوامر ونواهي الدين، أو ما يعتقدون أنه من أوامر ونواهي الدين. ولكن هذا غير صحيح. ما أعتقد أنه يربط بين هذه الوقائع والعشرات أو ربما الألاف الشبيهة بها والتي تمر بنا بصفة مستمرة، هو نوع من الحساسية المفرطة تجاه كل ما له علاقة حقيقية أو متخيلة بالدين من قريب أو بعيد. هذه الحساسية لا تعكس بأي حال تدينا أكبر، وإنما نوع من الشعور المستمر بالذنب تجاه الدين. أو بعبارة أخرى هي تعبير عن الشعور الدائم بالقصور في مقابل صورة مثالية مستحيلة للتدين المثالي. في الواقع هي أقرب في الشعور والسلوك الذين تنتجهما إلى حال رجل مصاب بعجز جنسي مزمن في مجتمع ذكوري يحتقر من لا يعتبرهم رجالا كاملين. يميل من هم في حال هذا الرجل إلى المبالغة في تصوير مثال الرجولة، والمبالغة في مشاعر الاحتقار لمن يعتبرونهم ناقصي الرجولة مع نزايد في الميل للعنف في التعامل معهم.

هذا النوع من الحساسية المفرطة، والمبالغة الكبيرة في مشاعر (الغيرة) على الدين تعكس شعورا بالعجز عن تحقيق مثال التدين الذي ضخمته سنوات طويلة من إغراق المجتمع في دعاية دينية كان محورها الدائم هو إشعار الناس بالتقصير تجاه دينهم باستخدام أساليب تلعب على إشعارهم بأنهم ليسوا مسلمين حقيقيين وأن عليهم الشعور بالخزي والعار لذلك، وهي المشاعر التي يقوم الناس بعكسها على الآخرين الآن طيلة الوقت. ما تنتجه هذه الحساسية المفرطة ليس مزيدا من التدين، كما يمكننا أن نلاحظ بوضوح في السلوكيات السائدة في المجتمع، بل نوعا من الهوس الديني، وهو ديني ليس لأنه يتعلق بالدين نفسه، ولكن لأنه يعبر عن علاقة غير صحية بالدين، لا تسمح له بأن يكون مصدرا للطمأنينة والثقة في مواجهة الصعاب، أو مجالا لتنمية الروحانية، أو دافعا لانتهاج سلوكيات أفضل، بل تحيطه بتصورات أغلبها خاطئ يدفعها رغبة دائمة في المبالغة والمزايدة على الآخرين وإصدار الأحكام عليهم والرغبة في إيقاع العقاب بهم.

الحقيقة أيضا أن ظاهرة الهوس الدينية ليست الوحيدة التي تحول شكلا من أشكال الانتماء إلى هوس أجوف فارغ من المحتوى. في مجتمعنا نماذج عدة لهذا النوع من الهوس، يبدأ بالهوس الوطني، ويمتد إلى هوس تشجيع فرق كرة القدم، وإلى الهوس المهني، أي المبالغة في إظهار قدر غير منطقي من التقدير الأجوف لبعض المهن، غالبا ما يحجب شعورا بانحدار قيمتها الاجتماعية مع انحدار عائدها المادي. هذه الأشكال المختلفة من الهوس تشير جميعا إلى ظاهرة عامة سائدة لعدم الرضا عن النفس، وقصور بالغ في تحقيق الذات، وتحديدا عدم القدرة على أن يرى الناس في انتماءاتهم المختلفة مصدرا لتحقيق احتياجاتهم المعنوية. فلا أحد يتعامل مع الدين على أنه مصدر للطاقة الروحية والأمل، ولا مع الوطن على أنه مصدر لمشاعر الترابط مع شركائنا فيه، ولا مع المهنة على أنها مصدر لتحقيق الذات والشعور بالقيمة في المجتمع، ولا حتى مع تشجيع أحد الأندية الكروية على أنه مصدر للمتعة والتسلية.

في المقابل يحاول الجميع دون وعي منهم ولكن بكل قوة النفخ في انتماءاتهم وفي إظهار كامل الإيمان بها لتعويض الفراغ الكبير الذي يستشعرونه داخلهم ولا يعرفون بأي شيء يمكنهم أن يملأه. ويمكننا إذا نظرنا إلى الأمر من جانب آخر أن ندرك أنه بشكل ما تعبير عن اليأس من تحقيق السعادة إلى حد عدم القدرة على إدراك ما يمكن أن يكون مصدرا لها. ربما ما يفتقده مجتمعنا حتى يتغلب على أشكال الهوس المختلفة السائدة فيه، هو أن يجدد أفراده الأمل في أن يحصلوا على قدر من السعادة، وأن يجعلوا من السعي إليها غاية حقيقية.