يحبس العالم أنفاسه حاليًا اتنظارًا لمعركة رفع سقف الدين في الولايات المتحدة الأمريكية. التي تم تأجيل حسمها حتى الثالث من ديسمبر المقبل. حال فشلها لا تعني عجز أكبر اقتصاديات العالم فقط عن سداد “فواتيره العالمية”. ولكن أزمة اقتصادية تضرب معها استقرار أسواق المال، وينهار فيها الدولار الأمريكي.
أسست أدوات الدين الأمريكية سمعة مستمرة منذ قرنين كأقوى استثمار وأكثر أمانًا في العالم. واستطاعت أن تجذب المستثمرين من العالم كله بإجمالي 7.543 تريليون دولار بنهاية يوليو الماضي. بينها 240 مليار دولار لدول الخليج العربي.
يؤكد البيت الأبيض أن التخلف عن السداد الفعلي سيكون غير مسبوق في تاريخ الولايات المتحدة في محاولة للضغط على الكونجرس لرفع حد الديون. في ظل رفض الجمهوريين منذ شهور.
وافق زعماء في مجلس الشيوخ الأمريكي على زيادة الحد المسموح لوزارة الخزانة باقتراضه بواقع 480 مليار دولار. وهو المبلغ اللازم لتمديد سقف الدين حتى الثالث من ديسمبر القادم. في تأجيل لمعركة رفع سقف الدين العام أو الحد الأقصى قانونًا للمديونية العامة بالولايات المتحدة المحدد، عند 28,4 تريليون دولار.
لكن مراقبين يرون أن صفقة تعليق سقف الديون حتى 3 ديسمبر، تؤدي فقط إلى تأخير الأزمة بدلاً من تجنبها. في ظل اتهام الحزب الجمهوري نوابه الـ 11 الموقعين مع الديمقراطيين الخمسين على زيادة الحد المسموح للاقتراض لمدة شهرين فقط بـ”الاستسلام”.
منذ عام 1917، يضطر الكونجرس باستمرار للرضوخ إلى كل طلب إنفاق من وزارة الخزانة باستثناء أربع حالات تخلفت فيها أمريكا عن الوفاء بالتزاماتها أشهرها عام 1933. حينما أصبح فرانكلين دي روزفلت رئيسًا خلال فترة الكساد الكبير وكان لدى السندات الأمريكية. التي تم إصدار بعضها لتمويل الحرب العالمية الأولى بندًا وعد حامليها بإمكانية سدادهم بعملة ذهبية.
“روزفلت” أراد خفض قيمة الدولار بالنسبة للذهب بأكثر من 50%. وأوعز للكونجرس الذي أصدر قرارًا بإلغاء جميع بنود الذهب ما حرم حاملي السندات من مكاسب فورية غير متوقعة. كما أصدر أمرًا تنفيذيًا للأمريكيين بالتخلي عن أي حيازات من الذهب وأصبح امتلاكه غير قانوني حتى السبعينيات.
جانيت يلين، وزيرة الخزانة، أكدت أن الحكومة الأمريكية تخاطر بنفاد الأموال إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق. بينما أكدت سيسيليا روس. رئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين بالبيت الأبيض، أن المشرعين يخاطرون بعواقب “كارثية”. إذا لم يجدوا حلًا طويل الأجل لقضية الديون فالاقتصاد والأسر الأمريكية والأمن القومي سيتعرضون للخطر.
عواقب وخيمة
حال عدم رفع سقف الديّن قد لا تستطيع أمريكا دفع رواتب موظفي الحكومة أو الشركات المتعاقدة معها على أعمال بنية تحتية ومقاولات. بجان عدم دفع قروض للشركات الصغيرة أو طلاب الجامعات. والدخول في ركود اقتصادي ناجم عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4% تقريبًا. فضلاً عن فقدان حوالي ستة ملايين وظيفة وارتفاع معدل البطالة إلى 9%.
انخفض العائد على أذون الخزانة المستحقة في 26 أكتوبر بنسبة 0.04 نقطة مئوية إلى 0.03%. وهو أقل بكثير من 0.14% الذي تم تداوله الثلاثاء الماضي على طرح بقيمة 4 تريليونات دولار، تحتاجها الحكومة الفيدرالية لتمويل أعبائها.
منذ أيام، يضع جيه بي مورجان، أكبر بنك بالولايات المتحدة، سيناريوهات لكارثة اقتصادية في الأسواق المالية. حال فشل المشرعون في الاتفاق، خاصة أن وكالات التصنيف حذرت من إمكانية حدوث تخفيّض وشيك للتصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
إشكالية رفع سقف الدين معقدة، فالحكومة اقترضت بالفعل المبالغ التي يتم الخلاف عليها. والصراع منصب فقط على السداد وعلى فكرة استمرار رفع سقف الدين. الذي كان سببًا في ارتفاع الدين العام الأمريكي الذي يتزايد كل ثانية.
يعتبر البعض أن المواجهة الحالية مهمة لعرقلة نمو الدين الأمريكي، فالمواجهات التي حدثت عامي 1995 و1996 وتسببت في إغلاق الحكومة ساعدت في تعزيز اتفاقية الميزانية المتوازنة. وفي 2011 تجددت الأزمة لدرجة أن وكالة “ستاندرد آند بورز” للتصنيف الائتماني خفضت ديون الولايات المتحدة حينها. لكنها أنتجت بالوقت ذاته قانون مراقبة الميزانية الذي قلص الإنفاق لسنوات.
ترقب قوي
تترقب اقتصاديات العالم حاليًا الصراع حول سقف ديون الولايات المتحدة كما لو كان فيلما يعاد تقديمه. لكنها قلقة في الوقت ذاته من أن الفشل في الاتفاق سيسبب تسونامي كارثي للنظام المالي العالمي أو ما يطلق عليه “GFC 2.0″. فمجرد التفكير في أن الدولار الأمريكي لم يعد آمنًا أمر مخيف يخشون حتى التفكير فيه.
سيدفع الركود المستهلكين والشركات الأميركية لتقليل كمية السلع والخدمات التي يشترونها من خارج البلاد. ما يعني أن بلدان الأسواق الناشئة التي تعتمد على الصادرات إلى الولايات المتحدة للحصول على جزء كبير من دخلها ستكون الأكثر تضررا. كما يجعل انخفاض الدولار شراء الإمدادات من الخارج أكثر تكلفة على الشركات الأميركية. وبالتالي يتسبب بانخفاض حجم التبادلات التجارية على مستوى العالم، كما يؤثر على البلدان التي يرتبط اقتصادها بالدولار، والتي ستشهد تقليصا في القوة الشرائية لمخزونها الحالي من العملة.
اليابان أكبر مستثمر في أدوات الدين الأمريكية حتى نهاية يوليو بقيمة 1.31 تريليون دولار أمريكي، تليها الصين بقيمة 1.068 تريليون دولار. واستثمارات الأخيرة تحديدا تثير القلق فحال تخليها عنها ستسبب ذعرًا عالميًا يؤدي لأزمة اقتصادية عنيفة للولايات المتحدة. لكنها لا تلجأ لذلك القرار حتى في خضم الحرب التجارية حتى لا ترتفع قيمة عملتها أمام الدولار ما يقلل من تنافسية بضائعها خارجيًا.
تضرر العرب
على أقل تقدير، ستتعرض بورصات العديد من الدول ومن بينها الخليج العربي للهبوط العنيف. مع ارتفاع كبير في أسعار الفائدة لأن قروض الحكومة الأمريكية ستصبح أقل أمانًا. وبالتالي سيطالب المستثمرون بمعدل فائدة أعلى، مع عودة إشكالية التضخم المصحوب بالركود كما حدث في السبعينيات.
استفادت دول مجلس التعاون الخليجي من ربط عملتها بالدولار الناتج من حصيلة صادرات النفط، فتمّ تثبيت توقّعات التضخّم، وبقيت أسعار الصرف الفعلية الحقيقية مستقرّة. مع تقليل مخاطر الميزانية وتكاليف المعاملات، الأمر الذي عزز أنظمة أسعار الصرف في دول مجلس التعاون الخليجي ومنح السلطات النقدية مصداقية. وساندت نموّ الناتج المحلّي الإجمالي على المدى الطويل، لكن حال انهيار الدولار ستحتاج تلك الدول لتحركات سريعة.
تتصدر السعودية قائمة مستثمري دول الخليج في السندات والأذونات الأمريكية بقيمة إجمالية 128.109 مليار دولار بنهاية يوليو الماضي، تليها الإمارات بقيمة 58.018 مليار دولار. ثم الكويت بإجمالي 46.410 مليار دولار، وتحتل قطر المرتبة الرابعة خليجيًا بقيمة 6.649 مليار دولار ثم سلطنة عمان بإجمالي استثمارات 5.126 مليار دولار. أما البحرين فإجمالي استثماراتها 619 مليون دولار بنهاية يوليو 2021.
كما تستثمر الدول العربية من خارج منطقة الخليج مبالغ في أدوات الدين الأمريكية أيضًا مثل الجزائر باستثمارات 681 مليون دولار. ولبنان باستثمارات مليون دولار، ولا تشمل تلك الاستثمارات الأوراق المالية والأصول والدولار.
الاحتياطات النقدية
لكن على مستوى الاحتياطيات النقدية بدأت دول العالم في تقليص الاعتماد على الدولار، فوفق مسح أجراه صندوق النقد الدولي لاحتياطيات النقد الأجنبي الرسمية. اتضح أن حصة الدولار الأمريكي من الاحتياطيات الخاصة بالبنوك المركزية انخفضت إلى 59 % خلال الربع الرابع من سنة 2020. وهو أدنى مستوى مسجّل منذ 25 سنة، مقارنةً بنسبة 71% في سنة 1999 عندما تم إطلاق اليورو.
ورفعت الدول العربية احتياطياتها من الذهب في الربع الأول من 2021، بصدارة السعودية التي تملك 323.1 طن تشكل 4.1% من إجمالي احتياطياتها من الأصول. تليها لبنان باحتياطيات 286.8 طن والجزائر 173.6 طن وليبيا 116.6 طن والعراق 96.4 طن ومصر 80.2 طن. وتملك الكويت احتياطي 79 طنا وقطر 56.7 طن، ثم الأردن بـ 43.5 طن، تلتهم سوريا، والمغرب، وتونس، والبحرين. وأخيراً اليمن مع احتياطي 1.6 طن من الذهب في المرتبة 100 عالمياً.