كان اسمه محمد منصور؛ ما زلت أذكره، وما تزال صورته محفورة في ذاكرتي التي تحتفظ بانفعالاته الحادة، التي تراوحت بين الإحساس بالاعتزاز والفخر، وبين مشاعر الوجع والألم، جارنا الشاب الثلاثييني الذي كان أول من رأتهم أعيننا ممن كان لهم شرف المشاركة في عبور قناة السويس في أول الهجمات على خط بارليف الحصين عصر يوم السادس من أكتوبر سنة 1973.

التقيناه بعد الحرب بحوالي أربعة أشهر، كان عمري وقتها تسعة عشر عاماً، وأذكر تحجر الدموع في أعيننا، وقد تحلقنا حوله (جمعٌ من أهله وجيرانه)، وهو يحكي لنا ما رأته عيناه من مشاهد بطولية، وأخرى مفزعة، وما زلت أذكره وهو يرسم بكلماته صورته وهو يزحف صاعداً إلى أعلى الساتر الترابي الذي أقامته إسرائيل على الشاطئ الغربي للقناة، وقد اندلعت من حول الزاحفين إلى الأعلى حرائقُ النابالم تحوطهم من كل جانب، ثم صورته مرتفع الهامة منتصباً فوق واحد من الخنادق المحصنة التي تأوي عدداً من جنود العدو.

كانت الصور التي ينقلها إلينا أحد الأبطال الذين شاركوا في هذا الحدث الكبير تبعث في قلبي رجفة عزٍ وفخار، وفي مراتٍ عديدة كنا نصفق جماعياً لعظمة الموقف وجلاله؛ بينما كانت عيناه تفيضان بالدمع كلما مرت على ذاكرته تلك اللحظات التي استشهد فيها بعضٌ من رفاقه في الساعات الأولى للعبور.

المنسيين في حرب أكتوبر
المنسيين في حرب أكتوبر

**
محمد منصور واحد شاهدته بعيني وسمعته بأذني وهو يقص علينا موجزاً لنماذج من البطولات الخارقة التي قدمها عشرات الألوف من الأبطال الحقيقيين لنصر أكتوبر، هؤلاء الذين أثبتوا بالدم والعرق والجهد والتضحيات الكبيرة أن المقاتل المصري كان هو مفاجأة أكتوبر الحقيقية كما قال قادة الحرب الاسرائيليين.

ما زالت باقية في ذاكرتي أصداء زغاريد الأمهات والبنات وهي تستقبل أبطالنا العائدين من الجبهة مرفوعين الرأس، وكانت مصر كلها مأخوذة بالحدث من أدناها إلى أقصاها، بكل فئاتها وطبقاتها، رجالها ونسائها وشبابها وشيوخها؛ وأذكر أن جنازة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين تأخرت ثلاثة أيام، فرغم أنه فارق الحياة في صباح يوم 28 أكتوبر 1973 إلا أن جنازته تأخرت حتى يوم 31 أكتوبر، بسبب الترتيبات اللازمة لجنازة تليق بعميد الأدب العربي بالتنسيق مع الجهات الحكومية والرئاسة المصرية، وكان التركيز كله موجهاً إلى الجبهة، وما يجري على الصعيدين العسكري والديبلوماسي فاستغرقت تلك الترتيبات بعض الوقت.
**

المنسيين في حرب أكتوبر
المنسيين في حرب أكتوبر

بعدها بعشرين سنة سمعتُ مباشرة من الفريق أول محمد فوزي قصة الجندي الذي أوقف تنفيذ أول قرار اتخذه الوزير عقب تولية المسئولية عن إعادة بناء القوات المسلحة، وكان قد استلم مهامه وزيراً للحربية قائداً عاماً للقوات المسلحة مساء يوم 11 يونيو سنة 1967، وكان أول ما أصدره من تعليمات يختص بمنع الاشتباكات المسلحة مع العدو، وعدم فتح النيران إلا بأوامر صريحة من القائد المحلي، ويكون دفاعاً عن النفس فقط، على أن يحاكم كل من يخالف القرار ميدانياً وفورياً.

بعد صدور هذه التعليمات من الوزير فوزي بساعات محدودة وفي منتصف ليلة 11/ 12 يونيو سنة 1967 تلقى القائد العام بلاغاً من قائد القطاع الجنوبي للجبهة بأن أحد الجنود في موقع الشط لاحظ عدداً من الجنود الإسرائيليين بينهم فتاة، يسبحون في القناة، فأخذته الحمية الوطنية فأطلق النار عليهم، فقتل جندياً إسرائيلياً والفتاة التي كانت بصحبته، وتسبب في إصابة آخرين، وقد رد العدو بالمثل، وكان قائد المنطقة يسأل القائد العام عن إجراءات محاكمة هذا الجندي طبقاً لتعليمات الوزير.

يقول الفريق أول محمد فوزي: كنتُ قد أصدرت قراراً بمنع الاشتباكات بعقلي البارد ومن موقع مسئوليتي، ولكني بقلبي وعاطفتي وجدتني مشدوداً إلى الوقوف مع هذا الجندي، فأصدرت قراري إلى القائد المحلي بعدم محاكمته، يل ترقيته إلى رتبة أعلى، وأن يطلب له ميدالية يضعها على صدره، تحفيزاً له، وتشجيعاً لزملائه، وتجاوباً مع الشعور العام المسيطر على جميع الجنود العائدين من سيناء والذين يشكلون أول نسق دفاعي غرب القناة في ذلك الوقت.

حرب الاستنزاف
حرب الاستنزاف

**
كانت هذه هي البداية الحقيقية لرفض الهزيمة، والبداية المبكرة لحرب الاستنزاف التي طالت لثلاث سنوات، وهي الحرب المنسية، رغم أن دورها ـ حسب آراء خبراء عسكريين كبار ـ لا يمكن حذفه من معادلة النصر في أكتوبر 1973.

بدأت حرب الاستنزاف مع أول طلقة لهذا الجندي الباسل، وتطورت إلى أول اشتباك مسلح بين القوات المصرية وقوات العدو في رأس العش أول أيام شهر يوليو سنة 1973، بعد مرور عشرين يوماً فقط من وقف إطلاق النار، وحسب تعبير الفريق فوزي فإن الجندي المصري نجح في التغلب على العدو في تلك المعركة، واستطاع الاحتفاظ بشريط الأرض الضيق إلى بور فؤاد المدينة الوحيدة في سيناء التي بقيت شامخة طوال فترة الاعداد لمعركة تحرير سيناء كلها.

المقاتل المصري ـ بدون أدنى شك ـ هو أول وأهم عوامل النصر في أكتوبر 1973، يُذكر دوره في بضعة سطور إجمالاً لا تفصيلاً، بينما يتم الاستطراد في أدوار أخرى، لم تكن تستطيع أن تحقق المعجزة، لولا بطولات المقاتل المصري، ومن دون تضحيات الجنود المصريين.

**
المقاتل، والمواطن، هما اللذين صنعا أعظم تاريخين عشناهما: السادس من أكتوبر 1973، والخامس والعشرين من يناير 2011، وأعظم ما فيهما تلك الروح التي ابتعثت معهما، (للأسف أزهقت تلك الروح عمداً في المرتين)، كان الشعب والجيش حاضرين في المناسبتين، في السادس من أكتوبر كانت البطولة للجيش، وكانت القوات المسلحة في قلب الصورة يحوطها الشعب ويساندها ويدفع بها إلى تحرير الأرض وتحقيق النصر، وفي 25 يناير كانت البطولة للشعب، وكانت الملايين التي ملأت الميادين والساحات في قلب الصورة، من حولها الجيش الذي أعلن من أول أيام الثورة أنه لن يقف ضد الإرادة الشعبية.

هكذا دائماً كانت المعادلة المصرية القادرة على تحقيق المعجزات، في يوليو سنة 1952 قام الجيش بانقلاب على سلطة الملك وحاشيته، وحين انضم إليه الشعب وباركه تحول الانقلاب إلى ثورة حقيقية غيَّرت وجه الحياة على أرض مصر، وفي أكتوبر سنة 1973 كان الجيش أمام مهمة الثأر لكرامته التي أهدرت في هزيمة يونيو سنة 1967، إضافة إلى مهمة تحرير الأرض، وكان من وراءه شعب بكامله يؤازر ويزأر كل يوم ـ بل كل ساعة ـ من أجل تخليص مصر من دنس احتلال قطعة غالية من أرضها.
**
في رأيي ـ وقد تيسر لي الاطلاع على الكثير من الكتب والمذكرات والندوات والدراسات التي صدرت من الجانبين، العربي والمصري، ثم الأمريكي والإسرائيلي ـ أن الإنجاز الذي تحقق في السادس من أكتوبر والأيام التي تلته، يُنسب أولاً ـ وقبل أي جهة أو أي أحد ـ إلى شعب كامل عاش مرارة الهزيمة ودفع أثماناً باهظة على حساب حياته، وحياة أبنائه من أجل الوصول إلى تلك الساعة التي انتظرها طوال ست سنوات، ساعة العبور، وتحرير الأرض المحتلة في سنة 1967.

أول الأبطال المنسيين لهذه الملحمة العظمة التي جرت على مدار ست سنوات من الصمود والإصرار على إرادة القتال والتحرير، هم مجموع هذا الشعب الذي تحمل التهجير من مدن القناة، سواء أبناء المدن التي هُجرت، أم المدن والقرى التي استقبلت المهجرين.

الشعب الذي تحمل أن يتحول اقتصاد بلاده إلى اقتصاد حرب طوال ما يزيد عن ست سنوات، وتجرع في ذلك الكثير من التضحيات، ولم تتوه منه بوصلة الإصرار على تحرير الأرض، واسترجاع كرامته، وخرجت طلائع مثقفيه وطلابه وعماله يطالبون بكسر حالة الجمود على الجبهة التي سُميت باللاحرب واللاسلم طوال عامي 1971 و1972، ورفضوا كل التسويفات والمبررات التي سيقت لتبرير التأخير في خوض غمار حرب التحرير.

شعب بكامله بكل طبقاته وفئاته عانى التضييق على معيشته بسبب تمويل استعدادات الجيش ليوم يستطيع فيه أن يأخذ بالثأر، ودفع الشعب كله فاتورة أن يتحمل اقتصاده عبء إعادة بناء الجيش من الصفر وبدون مديونيات خارجية، وفي ظل فقدان الكثير من موارده سواء من قناة السويس، أو من بترول سيناء أم الموارد السياحية التي ضعفت كثيراً طوال السنوات الست.
**
كان نصر أكتوبر انتصاراً على كل التحديات التي واجهت المجتمع والدولة المصرية بعد هزيمة يونيو 67، وكان انتصاراً للإرادة التي تجلت في أعظم معانيها في الخروج الجماهيري الكبير يومي 9 و10 يونيو سنة 1967 ترفض الهزيمة وتحمل جمال عبد الناصر مسئولية إزالة آثارها.

وكان ـ كذلك ـ انتصاراً للقطاع العام الذي أدى أعظم الأدوار في ظل تحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد حرب، لتدبير متطلبات المعركة، وتوفير احتياجات الجيش، وكانت مصر قد طبقت الخطة الخمسية الأولى 61-1966 بنجاح، وبدأت في تنفيذ الخطة الخمسية الثانية، غير أن الهزيمة أنهت هذه الخطة، لتتوجه أولوية الاقتصاد إلى تمويل إعادة بناء وتسليح الجيش.

ولا شك أن إنجازات خطة التنمية الخمسية كان لها الأثر الفعال في الصمود والتهيئة للنصر، وقام القطاع العام المصري بدور البطولة المنسية في قصة العبور المصرية من الهزيمة إلى النصر.
**
على الجبهة كانت القوات المسلحة لا تتوقف عن التدريب والاستعداد للعبور، وفي الداخل كانت هناك جبهة أخرى يقودها القطاع العام الذي خاض حرب التوسع في الإنتاج من أجل توفير متطلبات المعركة، وفي الوقت نفسه العمل على الوفاء باحتياجات الشعب، بل والتصدير للخارج لتوفير العملة الصعبة، ونجحت شركات القطاع العام في تأمين احتياجات الجبهتين، جبهة القتال والجبهة الداخلية، وتحمل في سبيل ذلك أعباء كبيرة، في بعض الشركات انتظم العمل في أيام حرب أكتوبر بنظام 3 ورديات يومياً، للوفاء بكافة الاحتياجات الخاصة بالمصانع الحربية، ولتلبية متطلبات الجبهة، وتأمين احتياجات الداخل، وعلى مدار السنوات الست كانت المحلات المصرية تعرض وتبيع منتجات مصرية من مأكولات وملابس وأثاث وأجهزة كهربية، وكان الرئيس عبد الناصر يفتخر أنه يرتدي ملابسه من صنع بلاده (غزل المحلة)، ويستخدم في بيته الأجهزة الكهربائية المصرية (ايديال).

على جانب آخر تحمل الاقتصاد المصري في ظل سنوات الحرب تكاليف استكمال مشروع السد العالي العملاق الذي اكتمل بناؤه في سنة 1970 قبيل رحيل جمال عبد الناصر، كما تم بناء مشروع عملاق آخر هو مجمع مصانع الألمونيوم في نجع حمادي، وفد بلغت تكلفته ما يقارب ثلاثة مليارات جنيه.
**
عظمة نصر أكتوبر أنه في المحصلة النهائية نتيجة حاصل جمع إرادة الشعب المصري وقدرته الهائلة على تحمل المسؤولية في المحن والصبر والنفس الطويل، مع حسن الترتيب وعظمة التدريب التي قامت بها قواته المسلحة، والروح التي تلبست الجندي والمقاتل المصري ساعة العبور، يضاف إلى ذلك كله تلك القاعدة الصلبة التي وفرت إمكانيات الصمود والعبور وتمثلت في القطاع العام.

لا يمكن اختصار نصر أكتوبر في أنور السادات، ولا حتى في قيادة الجيش المصري العظيم الذي عبر الهزيمة في يوم السادس من أكتوبر، بل ينسب النصر إلى البطل الحقيقي، إلى الشعب الذي عاش مرارة الهزيمة ودفع أثماناً باهظة من حياته، وحياة أبنائه، من أجل الوصول إلى هذا اليوم.

نصر أكتوبر يُنسب إلى المجهودات الهائلة التي بذلها أفراد القوات المسلحة (جنود وضباط وقادة ميدانيين) على مدار ست سنوات، ومن أول شهر بعد الهزيمة، وعبر ثلاث سنوات من حرب الاستنزاف، ويُنسب كذلك إلى العديد من دفعات المؤهلات العليا والمتوسطة التي دخلت إلى صفوف القوات المسلحة، وظل بعضهم في الخنادق على الجبهة لمدد تزيد على ست سنوات متواصلة.

دور الرئيس السادات كصاحب قرار العبور مقدر، وأدوار قيادات الجيش فوق العين والرأس، والضربة الجوية دورها لا يمكن اغفاله، لكن اختصار نصر أكتوبر في واحدة من هذه الأدوار، كما جرى من قبل، هو اختصار مخل، ومجحف بحق الشعب الذي صبر، وفي حق الشباب الذي عبر، وفي حق التاريخ الذي يُراد له أن يمجد أشخاصاً، وينسى المجد الحقيقي الذي صنعته الملايين.
**