بعد نحو أكثر من شهرين على الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيد، خرجت للنور أول حكومة تقودها امرأة في تاريخ تونس. بعدما بلغت حالة الاستقطاب السياسي بين الرئيس والبرلمان الذي يحظى بأغلبية من حركة النهضة (فرع الإخوان) بتونس، درجاتها القصوى.
وتسببت حالة التعبئة السياسية في شلل تام بمؤسسات وأجهزة الدولة، وتوقف الخدمات العامة، وانهيار الوضع المالي والاقتصادي. وبنفس الدرجة تصاعدت مستويات الإصابة والوفاة بفيروس كورونا، حتى بين الأطفال، بينما سجلت البيانات الرسمية انهيار المنظومة الصحية.
مهمة صعبة بصلاحيات محدودة
على هذا النسق المتسارع، جاءت حكومة الدكتورة نجلاء بودن، محملة بأعباء اقتصادية لا تخلو من اختبار سياسي، لمدى قدرتها على تجاوز المأزق الحالي، وإنهاء حالة الاستقطاب. بيد أن الأستاذة الجامعية غير المعروفة في الأوساط السياسية تمتلك سلطات محدودة؛ بناء على التغييرات التي أقرّها الرئيس على السلطة التشريعية والتنفيذية. باعتبار أن نشاطها سيكون مراقبًا وتحت إشراف سعيد، لكنها أكدت أن من أهم مهام الحكومة الجديدة مكافحة الفساد.
وفي 22 سبتمبر، أصدر سعيد تدابير استثنائية أصبحت بمقتضاها الحكومة مسؤولة أمامه فيما يتولى بنفسه إصدار التشريعات بمراسيم عوضا عن البرلمان. كما قرر سعيد رفع الحصانة عن النواب وتعليق رواتبهم والمنح المالية التي كانوا يتقاضونها. وفي 29 سبتمبر، كلّف الرئيس بودن تشكيل حكومة جديدة.
اقرأ أيضًا| أول رئيسة حكومة عربية.. “بودن” في مهمة لإنهاء الاستقطاب السياسي بتونس
وأدى 25 عضوا في الحكومة الاثنين، اليمنين الدستورية، وكان متوقعا ألا تكون الشخصيات الوزارية المرشحة ذات مرجعيات حزبية. وسبق لسعيد، مطلع الشهر الحالي، أن طالب بودن بأن لا تخضع لأي ابتزاز سياسي أو مساومة جراء محاولات الاستقطاب العديدة من الأحزاب.
“سعيد” يهدد ويعد بتفكيك الفساد
وفي أعقاب اختيار الوزراء، قال الرئيس التونسي إن بلاده بصدد “لحظات تاريخية صعبة، غير أن الإصرار على النجاح حاضر بقوة”. وتابع: “سننجح في هذ المرحلة بإخراج تونس التي تتسع للجميع من الوضع والمحنة التي انزلقت إليها”. وأكد أنه يعمل على مكافحة المنظومة القائمة منذ سنوات والتي سعى الشعب إلى إسقاطها.
وشدد سعيد على أنه “من أكبر التحديات التي ستواجهها الحكومة إنقاذ الدولة من براثن الذين يتربصون بها في الداخل والخارج. ومن براثن الذين يعتقدون أن المناصب غنيمة أو قسمة لمراكز النفوذ أو الأموال العمومية”. كما لفت إلى أن السلطة ستفتح كل الملفات دون استثناء، وستحبط ما يخطط له.
ستواجه الحكومة تحديات كبيرة لإنعاش الاقتصاد العليل ومكافحة الفساد. وقال سعيد، الذي شبه المرحلة بمعركة تحرير وطني “أنا على يقين من أننا سنعبر معا من اليأس إلى الأمل. ومن الإحباط إلى العمل”.
موقف اتحاد الشغل
الاتحاد العام للشغل في تونس، ثمّن الخطوة الأخيرة بينما أعلن دعمه للحكومة الجديدة. وقال المتحدث الرسمي باسم الاتحاد سامي الطاهري إن “هناك عديد التحديات المطروحة على المدى القصير أمام الحكومة الجديدة. موضحُا أن من أبرز هذه التحديات إعادة التوازن للمالية العمومية في ظل ارتفاع عجز الموازنة ووجود حاجة ماسة لتعبئة موارد مالية جديدة”.
واعتبر الطاهري أن تشكيل الفريق الوزاري سوف ينهي الفراغ الحكومي، وسيعيد تشغيل دواليب الدولة، إثر تعطلها لأكثر من شهرين. مشدداً على ضرورة “وضع خطة استعجالية في المجالين الصحي والتعليمي باعتبارهما يمسان حياة الناس ومستقبلهم خاصة في ظل جائحة كوفيد 19”.
وشدد الاتحاد العام للشغل، في بيانه، على ضرورة إيلاء أهمية قصوى للملف الاجتماعي؛ جراء تفاقم البطالة وارتفاع معدل الفقر وتدهور القوة الشرائية بما ينبئ بوقوع احتجاجات وتوترات اجتماعية.
الاتفاقيات القطاعية
ودعا المتحدث الرسمي باسم الاتحاد الحكومة إلى تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الاتحاد والحكومة السابقة، ومن بينها الاتفاقيات القطاعية. واعتبر أنه من السابق لأوانه الحكم على الحكومة الحالية، حيث إن خياراتها ستكون تحت وطأة تحديات الواقع ورهاناته.
يضع الرئيس التونسي الملف الاقتصادي وضرورة معالجة الأزمة المالية على قمة أولويات الحكومة الجديدة. إذ تعد الإصلاحات الاقتصادية الضرورية والملحة التي بحثها الرئيس التونسي مع محافظ البنك المركزي مروان العباسي، نهاية الأسبوع الماضي، ضمن مشاورات أخرى يقوم بها لإجراءات إصلاحات سياسية. واعتبر سعيد أن الإصلاحات المطلوبة لا يمكن أن تتحقق من دون ضرورة تطهير كافة المؤسسات من الفساد. وقال أثناء لقائه رئيس هيئة السوق المالية في تونس، صالح الصايل، إنه لا ينبغي التعامل مع التصنيفات التي تسندها بعض وكالات التصنيف في الخارج لتونس بجدية. وطالب بمراجعة العناصر التي تقوم عليها هذه التصنيفات.
قيس سعيد: لسنا في موقع التلميذ
وتابع: “نحن نتعامل مع المؤسسات المالية، ولكن يجب أيضًا أن تتعامل معنا كدولة ذات سيادة.. لسنا في موقع التلميذ ولا هم في موقع الأستاذ الذي يسند الأعداد كما يشاء، بناء على عناصر يختارها”. كما وجه الرئيس رسالة للخارج قال فيها: “سنعمل في إطار الشفافية وتطبيق القانون على الجميع مهما كانوا”.
وبحسب البيانات رسمية، فإن هناك تراجعاً حاداً لاحتياطي النقد الأجنبي لتونس بنسبة 9.5%، في تسعة أشهر. بينما طالب البنك المركزي بضرورة تعبئة أكبر قدر ممكن من الموارد الخارجية، وتجنب التمويل النقدي أي طباعة الأوراق النقدية. نظراً لتأثيرات ذلك على مستوى التضخم واحتياطيات النقد الأجنبي وسعر صرف الدينار.
شح حاد في الموارد وعجز في تمويل
ويشير البنك المركزي في تونس، إلى وجود “شح حاد” في الموارد المالية الخارجية وعجز في تمويل موازنة العام الحالي. وقال في بيانه إن هذا الأمر “يعكس تخوف المقرضين الدوليين في ظل تدهور الترقيم السيادي للبلاد وغياب برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي”. وطالب بضرورة “تفعيل التعاون المالي الثنائي خلال الفترة المتبقية من السنة لتعبئة ما أمكن من الموارد الخارجية”.
غير أن وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية قامت بتخفيض تصنيف تونس إلى B. وحذرت الوكالة الدولية المعنية بالتصنيف الائتماني من احتمالية وقوع مخاطر مستقبلية للبنوك التونسية. ولفتت إلى عدم عودة الأوضاع الاقتصادية بتونس لما كانت عليه قبل تفشي الفيروس التاجي. وقالت إن “الوضع السياسي الهش، وقرب انتهاء العمل بتدابير تأجيل أقساط القروض المخصصة لمواجهة التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا، يمكن أن يشكل تحديا لتعافي القطاع المصرفي”.
كما أوضح معهد الإحصاء الحكومي، أن نسبة البطالة بلغت إلى 17.8%، ووصل العجز المالي إلى أكثر من 11% خلال العام الماضي.
الجدارة الائتمانية لتونس مهددة
وبالعودة لبيان البنك المركزي، فقد أكد أن تداعيات هذا الوضع الاقتصادي “لا على مستوى التضخم فقط بل أيضًا على الاحتياطي من العملة الأجنبية وعلى إدارة سعر صرف الدينار. بالإضافة إلى أثره السلبي على علاقة تونس بالمؤسسات المالية المانحة ووكالات الترقيم السيادي”.
ويشير أمين عام التيار الشعبي بتونس زهير حمدي إلى أن الرئيس عالج الأطر السياسية والأمنية الملحة، على مدار الشهرين الماضيين. وبحسب ما تتطلب المرحلة الجديدة، وكذا ما فرضته قراراته الأخيرة المتمثلة في إجراءات تجميد عمل البرلمان، ثم تسمية رئيس حكومة.
سياق إجرائي مؤقت
وأوضح في تصريح لـ”مصر 360″ أن هذه الإجراءات كانت تهدف بالأساس إلى وضع سياق إجرائي مؤقت للسلطة العمومية بعد التعليق الجزئي للدستور. وما رافق ذلك من وضع البعض تحت الإقامة الجبرية والشروع في فتح ملفات الفساد.
كما أن الوضع المالي والاقتصادي بحاجة لمراجعة، وسط تقارير مثيرة ولافتة تبعث بمخاوف حول مستقبل البلاد. إذ تحتاج عملية الإصلاح السياسي إلى إصلاح اقتصادي، مع الوضع في الاعتبار ضرورة تحرك القضاء للتحقيق والبت في عمليات الإرهاب. وتعبئة الشباب في المنظمات الإرهاب ببؤر التوتر، مثل ليبيا، فضلاً عن الفساد والتهريب الذي تسبب في عجز الموازنة وإضعاف الاقتصاد.
ويردف حمدي: “يتعين على الحكومة أن تضع الملف الاقتصادي على نفس المسافة من القضايا والملفات الأخرى. وذلك على خلفية ارتباطهما وتشابكهما، فإن تدهور الوضع الاقتصادي والمالي كان نتيجة لخيارات منظومة الحكم السابقة. وبالتالي، هناك علاقة جدلية في ما يتصب بتفكيك المنظومة السياسية وتفكيك المنظومة الاقتصادية التي تهيمن عليها وتوظفها الأطراف القديمة والمعادية (حركة النهضة) لمزيد السيطرة على الدولة وأجهزتها”.
الاقتصاد الريعي
وبحسب أمين عام التيار الشعبي، يلزم التخلص من الاقتصاد الريعي الذي تحميه منظومة فاسدة، تجفيف مصادر تمويله. لافتاً إلى أن عملية التنمية تحتاج إلى بناء “توازن بين حرية السوق وتدخل الدولة. وكذلك إلغاء القانون الحالي للبنك المركزي الذي أخرج الأخير من سلطة الحكومة، وجعله مستقلاً عن السياسات الاقتصادية للدولة”.
ويختتم: “لن يتسنى تصفية جيوب الفساد من دون إعادة الاعتبار لمؤسسات الدولة، وتفعيل دور القضاء لمحاسبة الفاسدين. ثم القيام باصلاحات عاجلة اقتصادية ومالية، خاصة في قطاعات الضرائب والجمارك ونظام الإجازات والتراخصي. ثم القضاء على التهرب والاقتصاد الموازي الذي بات يشكل نصف الاقتصاد الوطني”.