تتجدد مشاكل التعليم مع بداية كل عام دراسي، فيما بدأت أزمات العام الدراسي الجديد مبكرا لتتضح بقوة منذ اليوم الأول. وجاءت في مقدمتها ندرة المقاعد الدراسية. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور الطلاب. يجلسون على الأرض بالفصول بدون أي وسائل تعليمية. وصور آخرون يجلسون 4 إلى 5 على مقعد واحد يكفي اثنان فقط. بدا أن قطاع التعليم يعاني شروخ كبيرة تحتاج إلى ترميم وعلاج قبل انهيار المنظومة التعليمية.
حاولت وزارة التربية والتعليم تجاوز هذه المشاكل بإطلاق مبادرات جديدة تحت زعم “التطوير“. عبر اعتماد نظام “التابلت” كوسيلة تعليمية أحادية وتهميش باقي أطراف وركائز العملية التعليمية وخلق بيئة تعليمية مناسبة.
فيما قررت الوزارة سد عجز المعلمين عن طريق التطوع للعمل بالمدارس الحكومية. وسد نقص الفصول الدراسية عن طريق مد فترات اليوم الدراسي لأكثر من ثلاث فترات في بعض المناطق ذات الكثافة العالية. أو عن طريق الفصول الطيارة والمتنقلة.
وإيمانا منا بأهمية التعليم كحق إنساني وحق دستوري نظم موقع مصر 360 مساء أمس، الاثنين. ندوة تحت عنوان “التعليم في مصر من أزمة التابلت إلى الهجرة نحو التعليم الأزهري”. بهدف إلقاء الضوء على الأزمة وطرح بدائل للإصلاح.
شارك في الندوة الدكتور حسام بدراوي مدير مؤسسة النيل بدراوي للتنمية والباحث بالمركز القومي للتعليم، وخبير التعليم كمال مغيث، أدارها الكاتب الصحفي خالد داود.
استعدادات متأخرة
بدأ الدكتور حسام بدراوي حديثه معلقا على المشاهد الأولى للعام الدراسي الجديد. قائلا: “تأخرت استعدادات الوزارة للعام الدراسي لذلك ظهرت هذه المشاكل على السطح بوضوح”. واصفا الوضع الحالي بـ”المرتبك”.
وتوقع بدراوي أن يؤثر الوضع الحالي على ساعات الدراسة للطلاب والتي يجب ألا تقل عن 6 ساعات.
وقال بدراوي إن أي رؤية ومنهج لتطوير التعليم يتم إدراجها بالمدارس لمعرفة ما تحقق منها. تشمل خمس ركائز أساسية. هي (الإتاحة، الجودة، عدم التمييز، تحديد أهداف أساسية وفرعية، مؤشرات قياس)”.
وأشار إلى أهمية الإتاحة بتوفير البيئة التعليمية مثل إعداد المدارس فصول كافية. وعمل حصر لها بالمدن والقرى والنجوع بمشاركة السلطة التنفيذية وأن تكون الأجهزة التنفيذية على دراية بعدد النقص في المدارس والفصول وعدد المدرسين.
وأشار بدراوي إلى أن الإحصائيات الرسمية خادعة، لا تظهر نسبة عجز التخصصات في المعلمين ولا نسب العجز في كل محافظة. حيث لا يوجد أرقام ملموسة يمكن من خلالها معرفة الوضع بكل محافظة. مشددا على أهمية الوضوح والمعرفة وتحديد الأهداف أساسية وفرعية ووضع مؤشرات قياس برامج الإصلاح بهدف تقديم حلول فعالة.
إدارة التعليم
“إدارة التعليم لا تقل أهمية عن إتاحته” أكد بدراوي، موضحا أن الأزمة ليست في الركائز فقط. لكن في إدارة العملية التعليمية وإدارة المؤسسات التعليمية، فالقائمين على العملية التعليمية. من مديري المدارس والنظار غير مؤهلين لإعداد وتدريب عناصر تعليمية. فهم مازالوا يعملون بطرق قديمة لمواجهة المشكلات في الوقت الذي يجب ألا يزيد عدد الطلاب داخل الفصول عن 35. وألا يزيد وقت وصول الطالب إلى مدرسته عن 20 دقيقة.
وأشار أيضا إلى اللامركزية في القيادة، بينما تتم عملية التعيين بشكل مركزي فلا يوجد فرصة للإبداع في الإدارة. لأن العملية تتم بتوجيهات مركزية فوقية رغم إقرار الدستور اللامركزية التي تبدأ من الإدارة في الصحة والتعليم. وأوضح أن مدير مديرية التعليم في محافظة كالوزير يدير دولة لأن تعداد سكان محافظة واحدة في مصر بمثابة تعداد دولة من دول الخليج.
رقمنة التعليم
وقال بدراوي أن الرقمنة ضرورة في العصر الراهن فلا يستطيع الطالب التعلم بشكل فعال بدون أن يكون التعليم “ديجيتال”. والحصول على المعلومة رقميا. موضحا أن ذلك يتطلب رقمنة المنظومة بأكملها لأن الطلاب في الوقت الراهن أكثر رقمية من المدرس فلا بد من رفع مستوى المعلم.
وأشار بدراوي إلى أن لتحقيق الرقمنة يجب أن يصل الإنترنت إلى كل بيت في القرية مجاني وليس المدن فقط. لإتاحة التحول الرقمي معتبر ذلك خطوة مهمة لحل الفساد المتغلغل في المجتمع المصري.
فيما ربط بدراوي كل ذلك بتحسين أجور المعلمين وتدريبهم تحديدا على التعليم الرقمي لمواكبة التطور.
وأكد بدراوي أنه لا يمكن الحديث عن بناء الشخصية والتحول نحو الرقمنة في ظل تعنت الفكر. لأن التعليم لم يعد منهج في كتاب لكن يتم من خلال المعايشة في المدارس وتطبيق الأنشطة. ورؤية الجمال وممارسة الرياضة وتذوق الفنون والتعرف عليها. فمن الصعب إعداد إنسان سوي بدون وجود رؤية واضحة للتطوير وتحديد الأهداف.
أثنى بدراوي خلال الندوة على تجربة المدارس الرسمية للغات “التجريبية” البالغ عددها 1000 مدرسة باعتبارها تخاطب الطبقة الوسطى. بحيث يمكن توسيع التجربة وتطويرها، وأشار إلى ضرورة ربط المدارس الخاصة بالمدارس الحكومية الفقيرة في كل منطقة. وأن ترعى كل مدرسة خاصة مدرسة حكومية فقيرة.
التنافسية
التنافسية كانت أحد الركائز التي طرحها بدراوي خلال الندوة، حيث يتم قياس الأربع ركائز السابقة عليها لمعرفة التحدي في كل منطقة. قائلا: “نحن أكثر ناس تعرف وأقل ناس تعمل”. موضحا أن لدينا 450 ألف مدرس، و2,2 موظف، ولدينا كليات تربية تخرج 75 ألف خريج سنويا. لا يعملون مدرسين ولا تنتوي الدولة تعيينهم، لذا لابد من رؤية الصورة كاملة وربط الأمور ببعضها.
ويرى بداروي أن طريقة عمل المعلم المتطوع بـ20 في الحصة فيه إخلال بصورة وقيمة المدرس، موضحا أن بعض المحافظات لديها موارد لكنها لا تستطيع أن ترفع مرتب المعلم لأن الإدارة مركزية.
ولفت إلى أهمية وجود رؤية تعليمية، مؤكدا أن تغيير المناهج ليس كافيا فلا يمكننا السير في خط واحد وترك باقي الخطوط. فيما يجب أن يكون أولياء الأمور طرف في هذا المسار والمعلمين لكن الواقع في مصر يشير إلى “معلمين غاضبون وأولياء الأمور غير راضين عن الأداء”.
وقال بدراوي ان هذا التدني في مستوي التعليم والتخبط في الإدارة خلق فراغ ملئه الدروس الخصوصية.
الدولة مسؤولة عن إتاحة التعليم
وأشار بدراوي إلى أن سوء إدارة التعليم رسخ الطبقية وزاد الفروق بين الطبقات. لأن الدولة مسؤولة عن التعليم ككل وإتاحته للجميع القادر وغير القادر بنفس الجودة. قائلا: “ما يطلق عليه تعليم مجاني ليس مجاني لأن هناك مبالغ مالية تذهب للدروس الخصوصية والأقدر ماليا سوف يتعلم أفضل كل واحد حسب سعر الخدمة وإمكانياته”.
وذكر أن أفضل الجامعات الحكومية في مصر 85% من ميزانيتها تنفق على العاملين بها و15% فقط يذهب للتعليم. ليكون حظ كل طالب جامعي في مصر من الانفاق الحكومي 9 آلاف جنيه فقط. بينما الطالب الأوروبي الدول تنفق عليه 15 ألف جنيه. ورأى أن فارق الإنفاق يمكن تدبيره عن طريق برامج تمويل طلابية لرفع مستوى التعليم الجامعي للطبقات الفقيرة ولا نعمق الفارق الاجتماعي.
الحوكمة
ودعا إلى العمل بفكرة الحوكمة في إدارة الجامعات الحكومية والتي تضم 3,5 مليون طالب. وإعادة حكومتها لأنها تنتج النسبة العظمى من خريجي التعليم العالي. بينما تخرج الجامعات الخاصة من 250 إلى 300 ألف طالب. قائلا: “يمكن إعادة تقسيم بعض الجامعات لتسهيل إدارتها مثل جامعة القاهرة لأن العلم يقول إن الجامعة البالغ عدد طلابها أكثر من 50 ألف طالب لا يمكن إدارتها”.
اتجاه التلاميذ للتعليم الأزهري ظاهرة لافتة للنظر هذا العام. أرجع بدراوي السبب إلى الحرص على ضمان فرصة تعليم عال جامعي رغم مخاطر التعليم الديني الذي يرسخ للوهابية والطائفية على المجتمع.
وقال “لا يتعامل الطالب بالأزهر مع أقرانه المسحيين ولا البنات طيلة مراحل التعليم وبالتالي سيخرج لا يعترف بوجود الآخر”، متسائلا: لماذا لا يقبل التعليم الأزهري أبناء المسيحيين رغم أن مدارس تعليم المسيحيين تقبل المسلمين؟، وأضاف بدراوي “نحن محاصرون بالتعليم الديني في مصر”.
الإنفاق
وعن ضعف مخصصات التعليم في الموازنة العامة البالغة 4%. قال بداروي أن القضية ليست في توفير الأموال. إنما في إنفاق الأموال، موضحا أن 3 أرباع مرتبات المعلمين تذهب لأناس لا تدخل الفصول. وبالتالي الإنفاق لابد له من حوكمة في إطار لا مركزي وأن تسن قوانين تحمي نظام اللامركزية. مشيرا إلى أن 65% من الموازنة يذهب لسداد القروض التي اقترضتها الحكومة بينما 35% فقط يذهب للخدمات.
كما يرى بدراوي أن الأفضل ضم الوزارتين التعليم العالي مع التربية والتعليم. حيث تم دمجهم من قبل في عهد وزراء سابقين منهم حسين كامل بهاء الدين ومفيد شهاب. كما يقترح ضم الشباب والرياضة والإعلام والتعليم العالي والبحث العلمي والثقافة مع التربية والتعليم لأن هذه الوزارة من وجهة نظره هي صانعي وجدان الشعب. لذلك يجب تعيين مسؤول سياسي على منصب نائب رئيس الوزراء معني بالتنمية الإنسانية. لخلق برامج لبناء الشخصية، ولابد من ربط مراكز الشباب البالغة 5 آلاف مركز بالمدارس بدون ملاعب. أيضا ربط قصور الثقافة بالمسارح فلابد من الدمج بين مراكز الشباب والمدارس وقصور الثقافة والمسارح ووضع بدائل.
التعليم الفني
واعتبر بدراوي التعليم الفني هو ركيزة التصنيع، وقال إن كل التقرير التنافسية عن مصر سيئة. لأن التعليم الفني لا يؤهل العامل الفني غير المدرب. في حين أن منح درجات لترخيص المهن يضبط الحياة ويضع كل واحد في إطاره وهو نظام إدارة وليس جراج للفاشلون في التعليم قائلا: “التعليم الفني بيكسب فلوس”.
إصلاح المسار
من جانبه رأى كمال مغيث الخبير التربوي أن إصلاح مسار التعليم في مصر يبدأ بإلقاء إجراءات الإصلاح الحالية وراء ظهورنا ونبدأ من جديد. قائلا: “لم يحدث في مصر من قبل أن تتحول مدارس الشعب المبنية بفلوسه ومنذ دستور 23 حتى الآن لتستولي عليها الدولة وتحولها إلى مدارس بفلوس. لم يحدث أن تكون مضطر للدخول على منصة تعليمية بأن تشتري باقة للحصول على معلومة تعليمية”.
وأضاف “لم يتم التجربة قبل طرح نظام التابلت بالملايين في المحافظات أو اختبار نجاح التجربة قبل تعميمها”.
وتابع مغيث “لم يتم طرح منظومة أو مقترح مدروس لتطوير التعليم في مصر يضم. الأهداف والفلسفة وآليات التنفيذ والتقييم والتغذية المرتدة والتنمية البشرية. أين ذلك وأنت تتعامل مع 23 مليون طالب لا يوجد منظومة مخططة”.
واستنكر مغيث ما اسماه عمليات تجريب متتالية تتم في التعليم دون فتح حوار بشأنها مع متخصصين تربية للمناقشة. قائلا: “منذ أربعة سنوات اعتمد نظام التابلت ولا يوجد تقرير واحد موثق عن نسب النجاح التي تم اجتياز الطلاب لها على النظام الجديد. كم طالب تجاوز الوقت في الإجابة أو نصف الوقت أو ربعه”.
وقال “لم نجد على أرض الواقع 320 ألف فصل حسب تصريح الوزير الدكتور طارق شوقي”.
نظام البابل شيت
وانتقل مغيث للحديث عن نظام “البابل شيت” واصفا إياه بـ”القرار الخاطئ” في الوقت الراهن، موضحا أنه لا يحقق تكافؤ الفرص في ظل الوضع الراهن بكل مشاكله.
وطالب مغيث قبل تطبيق نظام التابلت وتعميمه بتعديل شبكات الكهرباء والإنترنت وإعداد المدارس وتدريب المدرسين. وتعديل المناهج بطرق قائمة على الأوعية التعليمية المتنوعة، بالإضافة لعمل صيانة للمنشآت التعليمية.
ووصف ما يحدث بعملية تعتيم متعمد على الوضع التعليمي لتحويله إلى تعليم “للسادة وتعليم للعبيد”.
وأكد مغيث أن أحد المحن الكبرى التي تواجه التعليم المصري هي العلاقة بين جودة المهنة وحال المهني. الذي يمارس المهنة، واعتبر المعلمين أفقر فئات المجتمع حاليا مقارنة بفترات سابقة. ففي عام 1923 كان مرتب المعلم يساوي 5 جنيهات ذهبية بما يساوي حاليا 22 ألف جنيه. وفي السبعينات كان يقدربــ 22 جرام ذهب عيار 18. حيث كان مرتب المدرس في ذلك الوقت 18 جنيه بما يساوي حاليا 13 ألف.
وأشار إلى انخفاض مستوى المعيشة للمعلم اضطره للعمل سائق توتوك أو العمل باليومية. أو للدروس في شكل من أشكال بيع المعلومة وتسليعها لتحسين دخله.
وأنهى مغيث حديثه بقوله إن السياسة التعليمية المتبعة في مصر هي سياسة البنك الدولي بعدم تعيين موظفين جدد. لذلك لجأت الوزارة لسد العجز عن طريق التطوع بدون ضمانات لهذا المتطوع.