عزيزي بهجاسين/

هذا أطول اعتذار يمكن أن تقرأه في مكان ما، عن التأخر “العادي” في المواعيد، واللطيف أنك قد لا تجد في النهاية أي اعتذار ولا حاجة..

عزيزي/ رأيت عدم كتابة اسمك، لأنني أحب استئذان الأصدقاء فيما يخصهم، ولم تكن هناك فرصة لذلك، فقلت أخترع هذا الاسم الذي يصلح لكتابة متحررة من الأعباء (ومن الاستئذان).. لقد زادت حسياسيتي في الفترة الأخيرة من القيود (بكل أنواعها)، حتى لو كانت قيودا مرغوبة لتنظيم العمل والعلاقات ومواعيد الكتابة والنشر، صرت مريضا أكثر بالحرية ياعزيزي.. الحرية الفضفاضة بلا شواطئ وتعليمات وأخلاقيات سابقة التعليب، لهذا فكرت في استثمار مغامرة الكرم التي تورطت فيها معي، لنجرب طريقة آمنة لكتابة حرة بشكل ما، أقول “بشكل ما” لأن الظروف (التي تعرفها وأعرفها ويعرفها غيرنا) قد لا تسمح بالحرية المشتهاة، فليس من المنتظر أن نخوض في قضايا بعينها، أو نكتب آراء وعبارات وألفاظ تخرج عند حدود الحبل المربوط في رقبة باسيل، برغم أن زوربا أخبره أن “حبله” قد يكون أطول بعض الشيء من حبال الآخرين.

لكن لا بأس يا عزيزي، فلنجرب… أنا أحب التجربة

هاجس العزلة

لم يضبطني الحارس متلبسا في حقل الشوفان، لكنني لا أحب سالينجر ولا مصيره، أعترف أنني أحب العزلة بدرجة ما، لكن عزلتي في الفترات الأخيرة صارت رديئة ومقبضة، وفي محاولة للتخلص من هذا الشعور الخانق غيرت الأماكن بقلق ملفت وتردد مخجل، أعرف أنني غريب، لكنني صرت غريبا أكثر، وقد ورطتني محاولات العزلة الأخيرة في نقاشات هجومية حادة مع جان جاك روسو عن “الحضارة والطبيعة”، وسوف أعود لهذا تفصيلا في مقال قريب. أما الآن فيهمني أن أخبرك يا عزيزي أن عزلتي الأخيرة كانت منشطة للتفكير والتأمل العميق، لكنها كانت مضادة للكتابة وللنشر بطبيعة الحال، وبسبب هذه الخصومة مع الكتابة وافقت على الانتقال إلى مكان آخر قريب  من العمران، يمكن أن نسميه “نصف عزلة”، سيصبح عندي كهرباء متواصلة (تيار كهربائي) وسيصبح عندي إنتترنت ومائدة وكراسي وبحر قريب بالطبع، لكن لن يكون هناك زيارات ولا معارف ولا زحام..

في طريق الانتقال إلى “العزلة المتمدينة” التي تشبه عزلة بوبي فيشر بعد هزيمته للسوفيات في الحرب الباردة، سألت صديقي المبتلى برعايتي وتحمل رزالاتي ومزاجي القلق: فيم ينشغل الناس على مواقع التواصل الاجتماعي؟

قال: المدارس، وماتش ليبيا، وكورونا، وأحمد موسى، و..

قاطعته باهتمام: ماله موسى؟

قال: أبوه مات، وراح البلد والناس مش عاجبها أنه لابس جلابية ومختلط بالناس ويرجع يتكلم عن محاذير كورونا..

قلت له: لكن والده رحمة الله عليه توفي منذ سنوات، فيه حاجة مش صح!!

قال وهو ينظر في شاشة هاتفه ويقود السيارة في نفس الوقت: مكتوب قدامي أهوه..

قلت: يمكن.. ليه لأ؟، فالناس في بعض البلدان (ومنها بلدنا بالطبع) يموتون أكثر من مرة، وكثير منهم يمشي ويتكلم ويأكل العيش المدعوم وهو ميت.

ضحك وهو يضيف: على رأيك فيه حاجات كتير مش صح.. مجاتش على دي، وبعدين مش هتبطل تلميحات سياسية بقى؟

سألته: هل توجد أي انتخابات هذه الأيام؟

قال: لأ.. ليه؟

قلت: الميتون يعودون عادة للإدلاء بأصواتهم في انتخابات العالم الثالث.

في المؤجلات

سادت لحظات من الصمت فكرت خلالها في تأجيل المقال الذي دونت مسودته على الورق ولم أتمكن من إرساله، وكنت قد كتبت عن حبس الدكتور منصور ندا على خلفية معركة خاسرة مع أحمد موسى، الذي بدا لي كـ”تابو” جديد ومخيف “يحبس ولا ينحبس”، على طريقة “لا يشتعل ولكن يساعد على الاشتعال”، فقد أفلت “الإعلامي الظاهرة” من أحكام قضائية بالحبس وهو الذي يفاخر بالسب والتشهير ونشر الأكاذيب ومخالفات كل أنواع الشرف الإعلامي منها وغير الإعلامي، وهذا ما سوف أعود إليه بعد تأجيل يراعي أحزان الموت، حتى لو كانت مجرد شائعة.

عزيزي بهجاسين/

أخشى أن تكون رسائلي إليك توريطا لك في شيء لا أعرفه، فأنا رجل مريض بالحرية لكنني أخالف دائما تعليمات “منظمة القمع الدولية” ولا أرتدي أي نوع من أنواع الكمامات..

على كل حال أطمئنك أنني وصلت بعد ساعات قليلة إلى مكان “العزلة الجديدة”، حيث نهر الكهرباء وفردوس الجيجا بايت، والمضحك أنني لما دخلت مدينة التواصل الاجتماعي لم أجد أثرا لخبر “الوفاة الثانية”، فقد اختلطت الأخبار في رأس صديقي، ربما بسبب صورة قديمة لموسى بالجلباب أدت إلى حالة من “الاسترجاع الاحتفالي”الذي تلجأ إليه الميديا الاجتماعية لملء فراغ الأخبار و”التحفيل” على أسماء بعينها تجد رواجاً عند مختلف الفئات والطبقات والثقافات، لكنني على كل حال كنت قد اتخذت قرارا ( من دون أن تساعدوني عليه) بتأجيل المقال إياه والكتابة عن شيء جديد لا أعرفه..

راقبت صديقي المسكين وهو يخوض معركة مكافحة الناموس وإعداد المكان لنوم مريح، فهو يعرف أنني قضيت فترة مرهقة غاب عني فيها النوم، وخلال وقت قصير كانت السوائل والأبخرة المتصاعدة قد أحدثت تأثيرها عليّ أسرع من الناموس ورفاقه، فغلبني النوم بينما غادر الصديق ليلحق بعمله في الصباح..

مفاجآت بايخة

استيقظت في الثامنة صباحا مخدرا بجرعة الكيتو ورذاذ البيروسول، أسرعت على المطبخ لإعداد “اصطباحة الإفاقة”، وجدت غلاية كهربائية لامعة بجواره عبوة نيسكافيه “تشيبو” الذي أفضله وحليب سائل، وخرجت حاملا جرعة مكثفة من الكافيين تناسب رجلا قليل التركيز يستعد لمبارة كتابة مجهولة الموضوع..

عن ماذا أكتب يا عزيزي؟

أنهيت النيسكافيه دون أن تعجبني فكرة، ولما وجدت أفكارا تعجبني كنت واثقا أنا لن تعجبهم..

مين دول؟.. مش قلنا نجرب الكتابة بلا قيود مسبقة

تذكرت مقولة هنري بروكس آدامز، وهو مؤرخ وصجافي ودبلوماسي أمريكي من عائلة آدامز السياسية التي تسبق عائلتي كيندي وبوش وقدمت رئيسن لأمريكا..

ماذا كان يقول الزميل هنري؟

كان يقول إن السياسة سلوك ممنهج لتوزيع الكراهية، وبترجمة أخرى كان يعتبرها متوالية تصاعدية لتنزيم الأحقاد في المجتمع.

عيب هذه المقولة أنها ستعيدني للاشتباك مع مضخات الكراهية والأحقاد في المجتمع من أمثال موسى وبكري ومرتضى..

سألت نفسي: هل يجب على الكاتب المؤدب الساعي للإصلاح أن يهاجم الأشخاص بأسمائهم، أم يهتم أكثر بالظواهر والقضايا؟

ابتسمت لنفسي عندما خطرت على بالي إجابة ظرفاء السوشيال ميديا بأن الحالات التي ذكرتها ليست أسماء أشخاص، بل وظائف.

عاودتني آلام الظهر نتيجة الجلوس 4 ساعات متصلة في مقعد السيارة، كانت الحضارة حاضرة والرفاهية ممكنة، فجمعت قدرا وفيرا من الوسائد وجلست مسترخيا وسطها على الكنبة مثل مواطن عصري يعيش عيشة ترف عادية في جمهورية جديدة، ورفعت “النوت بوك” أمام عيني وكتبت:

كانت زرقاء اليمامة تستطيع أن ترى شعرة بيضاء في وعاء من الحليب، لكن “رؤيتها” لم تنقذها، ولم تنقذ مجتمعها من المأسة التي…..

فجأة فرقعت “تكة” منفرة كسرت جو الهدوء الرومانتيكي المحيط، وبرغم ان شاشة البوك كانت مضيئة ويمكنني استكمال الكتابة عن “المأساة التي” إلا أنني خمنت أن الكهرباء قد انقطعت

قد تسألني يا بهجاسين “التي إيه؟”

لكن بعدين يا عزيزي، دعنا ندخر قدرا طيبا من المؤجلات الشيقة، ولا شك أنها شيقة قصة الجهلاء اللاهين الذين اننكروا على زرقاء اليمامة رؤيتها لغابة تمشي، فجلبوا المأساة للقبيلة جمعااااء

لا أخفي عليك يا عزيزي أني شعرت بانقباض يعكر المزاج بسبب انقطاع “التيار”، فالشحن سنتهي خلال وقت قصير، وتنقطع علاقتي بالعالم وبصديقي نفسه، قمت إلى عداد الكهرباء فوجدت لمبة إشعار حمراء مضيئة.

امممممم

إذن الكهرباء موجودة، لكن التيار مرهون بالدفع المسبق، تذكرت مصطلح “الكارت الذكي” ولم أجد غباء أكثر مما حدث.

يا للورطة.. ليس معي هاتف، وليس أمامي إلا الاتصال السريع بالانترنت قبل أن ينتهي الشحن أو أنتظر صديقي حتى يعود في المساء، ولم تكن الفترة التي استقظت فيها تكفي لشحن الراوتر فانقطع الاتصال، وأنا لا أعرف أي شيء في هذا المكان.

انتعلت “كروكس” مغطى للحماية من الرمال ووضعت “الكاب على رأسي، وأخذت المفتاح ونزلت بملابسي الرياضية التي كنت أنام بها..

إلى أين أذهب؟

لم أفكر كثيراً… اتجهت نحو البحر، أراه أمامي في الخلاء لكن يبدو أن المسافة بيني وبينه طويلة وليس بها إلا رمال وأعشاب برية.

لماذا البحر؟

سألت نفسي وأنا أتذكر رواية “الطريق” لكورماك مكارثي:

رجل بعد خراب العالم وانتحار زوجته، يأخذ مسدسه الصغير وابنه الوحيد ويقطع الأرض المحروقة في رحلة غامضة باتجاه البحر

أقول “رحلة غامضة” لأن الرجل والولد والجميع لا يعرفون “لماذا البحر؟” فليس هناك أحد ينتظر، وليس هناك موعد مسبق، وليست هناك رحلة ابحار ولا منقذ ولا سفينة نجاة… لا شيء إلا الخراب العظيم وقلة من آكلي لحوم البشر الذين يظهرون كعصابات قليلة العدد على “الطريق” الذي هو “عنوان الرواية”، والذي هو “المتن”، والذي هو “الحياة” نفسها..

مصيدة الساعين إلى الدفء

سامحني يا بهجاسين على الاهتمام بالتفاصيل، فالتفاصيل التي قد تبدو مملة ربما تكون هي الحكاية

كنت قد نسيت نظارتي الشمسية مكتفيا بالكاب، لذلك كنت أنظر ناحية الضوء بحذر كما تقتضي تعليمات طبيب العيون بسبب تداعيات انفصال الشبكية، رفعت عيني عن الرمل بصعوبة وونظرت باتجاه الأفق الأزرق الذي يربط البحر بالسماء، شاهدت صفا طويلاً من الصواري الخشبية النحيلة يفصل بيني وبين البحر.. كانت الصواري مغروسة في الرمل على مسافات متساوية، وكانت مدببة كأنها حراب تشير إلى السماء وتذكرت فجأة خوازيق دراكولا (فلاد الثالث) التي نصبها لاستعراض جثث حمزة باشا وجيشه لترويع السلطان العثماني الذي خرج لتأديب الكونت المتمرد وإجباره على دفع الجزية..

لم أشعر بالانقباض بقدر ما شعرت بالدهشة، هل مشيت في الزمان والمكان حتى وصلت إلى “والاكيا”، حيث القمع المفرط والتعذيب للمتعة والموت كسياسة؟

لم يكن على الشاطئ أحد لأسأله، لم يكن هناك إلا هياكل مراكب قديمة يطمرها الرمل، وتلك الصواري الغامضة الممتدة بامتداد البصر، واصلت السير حتى فاقتربت من الصواري وفوجئت أن بينها أفخاخ من الحبال تشبه شباك الصيادين، وقلت ساخرا من فرط الدهشة: هل شاهد الصيادون أفلام أمير كوستاريتا وصاروا يصطادون السمك من الهواء؟

وسط هذه الأفكار السيريالية تذكرت أن انقطاع هو الذي أوصلني إلى “سياج الغزل” الذي يقطع رحلتي نحو البحر، فسألت بصوت مسموع: هل هذه هي مباهج الطبيعة التي دعوتني لاستعادتها كبديل للحضارة الصناعية الحديثة يا روسو؟

لم أشعر بالغيظ من روسو بقدر ما شعرت به تجاه الرجل السخيف الذي اخترع مصيدة “العداد مسبوق الدفع”، ليقطع استمرارية الأشياء التي تبدو جميلة  وطبيعية في استمرارها.

لم أرغب في مناقشة فكرة “القطيعة” كما طرحها جاستون باشلار، لأنني وقعت في غواية مثال مبتذل عن سخافة “قطع الشهوة”، ورأيته أكثر تعبيرا عن السخافة التي نشعر بها تجاه تقطيع كل “التيارات” وإعادة تعبئتها في “كروت” تعمل بنظام الدفع المسبق، ولك أن تتخيل عزيزي بهجاسين فكرة وجود “عداد مسبوق الدفع” لكل شيء في حياتنا، خاصة الأشياء العضوية الممتدة كتيارت أو “كل متكامل”، وأنت تعرف أن الحياة هي أم هذه الأشياء العضوية الممتدة التي لا يقطعها حتى الموت، بدليل أنني أناقش واستحضر روسو وباشلار وزوربا ودراكولا أيضا

هذا التقطيع (المشروط بالدفع) جريمة “دراكولية” بامتياز، يسعى إليها نظام عالمي جشع يحاكي بروكست قاطع الطريق الأسطوري ويحاسب الناس بطريقة: “بكام؟”… “هتدفع؟”

وأعتقد يا بهجاسين ان فكرة “التيار الممتد” مقابل “التقطيع” إذا رأيناها بجدية بعيدا عن الابتذال الجميل السالف، تنطيق بشكل مبهر وواضح على الأنهار، لذلك  فإن مشكلة النيل وسد النهضة التي طرحتها في المقال السابق، كانت تشير إلى هذه اللعنة المستهدفة.. لعنة تقطيع أوصال النيل، أي تحويله من “نهر متدفق ممتد” إلأى مجرد “صنبور محكوم بعداد مسبوق الدفع”، وهذا الاتجاه الواضح خطوة في سياسة تفتيت العالم وتسليعه، وتقطيع كل التيارات والسياقات وتحويلها إلى قصاثيص و”كليبز” يسهل تسويقها ويتعاظم التربح منها.

عزيزي بهجاسين

أطلت عليك، لكن الكتابة الحرة لها وحشتها ولها انسيابها التي لا أحب أن اقطع جريانه، وبالمناسبة لقد علمت بالصدفة في الصباح التالي أن سياج الصواري المغزولة على شاطيء البحر مصائد لطيور السمان المهاجرة بحثا عن الدفء، وطالما أن الحياة مستمرة، سنكمل معا القصة الممتدة التي لا تنتهي أبداَ

عاش الأمل

دام التواصل

[email protected]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

(*)  كان من المفترض أن أضع تفسيرات كثيرة في الهوامش، لكنني فكرت في وسيلة أكثر حرية، كل كلمة غامضة أو يلتبس عليك معناها لا تبحث لها عن توضيح في المقال، فهي مثل “لعبة البخت”، أو بطريقة المثال المبتذل الذي ورد في المقال هي مثل حورية تنتظر منك الوصال، فلا تخذلها، اكتبها بحميمية المشتاق على محرك جوجل وانهل ما تحب أن تناله منها، فالمقال ليس المعرفة بل مجرد مفاتيح مجانية للمعرفة، خذ ما تحب واترك ما تحب

(+) عزيزي المحرر/ لأن الحرية لها ضوابط، فأنا أوافق مسبقا على حذف أي كلمات أو عبارات مكتوبة باللون الأزرق، وطبعا هذا التنويه ليس من بينها لأنه مكتوب بالأسود، ولمزيد من راحتك أخبرك أنني لم أشتغل بالأزرق في هذا المقال