“سيبوني دلوقتي أنا ست مترومة”. قالت صديقتي مازحة أثناء جلسة نقاش طويل امتدت بيننا عقب عودتها من زيارتها لطبيبها النفسي. نحرص أنا وصديقاتي على أن نلتقي بعد جلساتنا مع المعالجات/ين النفسيات/ين بغرض “التنفيس” عن أرواحنا التي غالباً ما ترهق خلال تلك الجلسات وفتح باب النقاش حول فحوى الجلسة وأبعاد التحليل النفسي الذي يزودنا به المعالجات/ون في كل مرة. في تلك الزيارة تحديدًا، عرفت صديقتي أنها مصابة بأحد أنواع “التروما”. وأن هذه “التروما”، كما ذكر الطبيب، هي السبب في معاناتها على مستويات عدة في حياتها الشخصية والمهنية على حد سواء.
تروما
في البداية يجب التنويه إلى أن استخدام لفظ “مترومة” في هذا المقال. إنما هو مجرد نوع من المزاح المراد به فقط تخفيف الألم وليس السخرية من التروما وأصحاب الاضطرابات النفسية على الإطلاق.
أنا أيضاً عرفت “التروما”. لم أكن في حاجة لتشخيص طبي حتى أعرفها. حتى أنني لم أسأل طبيبي إن كنت مصابة بإحداها أم لا. لكن ما أتذكره جيدا هو أنني في إحدى المرات سألته خلال نوبة بكاء شديدة “هل تشفى التروما؟ هل هناك أمل أن أعود كما كنت؟” كنت في أمس الحاجة وقتها إلى أن يطمئني أحدهم أنني لم انطفئ للأبد وأن هناك أي بصيص من الأمل أنني قد أشفى من آثار “الترومات” التي تشبعت روحي بها، لأنني لم أعد احتمل الألم النفسي أكثر من ذلك.
لست متخصصة في الطب النفسي. لكن حتى نفهم هذه التروما أو ما يسميه المعالجات/ون النفسيات/ون اضطراب أو كرب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic stress disorder/ PTSD). سأستعين بالتعريف الذي وضعته الرابطة الأمريكية للطب النفسي (American Psychiatry Association) الذي يشير إلى أنه: اضطراب نفسي قد يحدث للأشخاص الذين عانوا أو شهدوا حدثاً مؤلماً مثل كارثة طبيعية أو حادث خطير أو عمل إرهابي أو حرب / قتال أو اغتصاب أو الذين تعرضوا للتهديد بالقتل أو العنف الجنسي أو الإصابة الخطيرة.”
أحداث مؤلمة، عنف جنسي، اغتصاب.. إلخ، هل يقصدونا نحن معشر النساء؟! فإذا كانت هذه الأحداث تسبب ما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة، فنحن النساء إذن أهل لها بكل تأكيد. فهل إحدانا لم تمر بهذه الأمور مرة على الأقل في حياتها؟ هل منا من لم تعرف العنف بأنماطه المختلفة سواء داخل منزلها أو خارجه؟ هل توجد من لم تتعرض مثلا لأي شكل من أشكال العنف الجنسي بداية من التحرش الذي تعرضت له 99.3% من نساء مصر وفق إحصائيات الأمم المتحدة في 2013، وحتى جرائم الاغتصاب التي ترتكب بحق النساء وتعج به وسائل إعلامنا وشهادات العنف الجنسي التي تنشر على صفحات التواصل الاجتماعي؟ من منا لم تتعرض لخذلان ما سواء من الأهل أو الصديق أو الشريك؟ والقائمة تطول في هذا الشأن.
العنف ضد النساء
على كل حال إن كانت هناك امرأة واحدة في أي مكان في العالم لم تتعرض لأي من الأشياء السابقة فهنيئا لها. وحتمًا سأكون أسعد الناس بها. لكن حتى الآن، ما تشير إليه الأبحاث وتقارير المنظمات المعنية بحقوق النساء. هو أن النساء على اختلافهن والسياقات اللاتي يوجدن بها يتعرضن للعنف. على سبيل المثال تقول ورقة بحثية صادرة عن مؤسسة نظرة للدراسات النسوية حول العنف الجنسي ضد النساء والفتيات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. إلى أن النساء تتعرض “باختلاف انتمائاتهن العرقية والطبقية والدينية بشكل يومي لأشكال مختلفة من العنف النفسي والبدني والجنسي والاقتصادي من قبل أفراد أو مجموعات أو مؤسسات في كل من المجال الخاص والعام،” حتى لو اختلفت طرق الاستجابة لهذا العنف باختلاف السياق، لكن يظل وجود المرأة مرتبطا بوجود العنف الذي يخلف الكثير من الاضطرابات النفسية، ومن ضمنها “التروما”.
مازال الجرح حيًا
“مهما مر من الوقت، لابد من فتح الجرح من أجل تطهيره وعلاجه بطريقة صحيحة لكي يشفى. هذا الجرح ما زال حياً”، هكذا قال لي طبيبي النفسي الذي أرجأت زيارته لسنوات رغم محاولات كل الأصدقاء في إقناعي بأنني في حاجة ماسة إليه حتى لو تظاهرت بأنني لست كذلك. ولكني كنت أرفض لنفس السبب الذي ذكره الطبيب بجملته السابقة، وهو أن علينا فتح الجرح “الملوث” لتنظيفه وأن هذه العملية قد تكون “مؤلمة بعض الشئ”.
كنت أعرف بالطبع أنني بحاجة علاج متخصص، لكن في الوقت نفسه كنت على يقين بأنني لن أحتمل فتح الجراح التي أغلقت عليها الصناديق وخبأتها في مكان ما داخلي لا أريد حتى أن أذكره حتى أتمكن من مواصلة الحياة. لكن هيهات، فهذه “الترومات” التي تخيلت أنها في مكان آمن لن تؤثر فيّ ولن أتأثر بها، لا تلبث مع أبسط مثير لها أن تنفجر في وجهي كالقنبلة الموقوتة وتعيدني إلى نقطة الصفر لتؤكد لي أنه بالفعل ” ما زال الجرح حياً”.
اضطراب ما بعد الصدمة
الرابطة الأمريكية للطب النفسي تقول أيضاً. إن الأشخاص المصابين باضطراب ما بعد الصدمة لديهن/م أفكار ومشاعر ثقيلة ومؤلمة تتعلق بتجربتهن/م. التي تستمر لفترة طويلة بعد انتهاء الحدث الصادم. “وقد يسترجعون الحدث من خلال ذكريات الماضي (flashbacks) أو الكوابيس. وقد يشعرون بالحزن أو الخوف أو الغضب. وكذلك قد يشعرون بالانفصال أو الاغتراب عن الآخرين. حتى قد يتجنب الأشخاص المصابون باضطراب ما بعد الصدمة المواقف أو الأشخاص الذين يذكرونهم بالحدث الصادم، بل وقد يظهرون ردود فعل سلبية بقوة تجاه شيء عادي مثل الضوضاء العالية أو اللمسة العرضية.
بالفعل، يمكنني تأكيد ذلك، فمجرد صوت أو رائحة معينة، أو مشهد في فيلم أو مسلسل، أو أغنية عابرة تتناهى إلى سمعي، أو حتى الأفكار أو حكايات الصديقات اللاتي تشبهني وأشبهها. قد تعود بنا إلى هناك. حكاياتنا على الأغلب نفسها ولو اختلفت: من بعيد أو قريب تتقاطع. من هناك أو هنا لابد من نقطة التقاء تجمعنا. عادة ما نقف عند لحظة ما ونقول “نعم، لقد كنت هنا أيضًا من قبل”.
هذه المثيرات يسمونها في الطب النفسي محفزات الصدمة أو triggers. حتى أن بعض صفحات التواصل الاجتماعي ومنصات النشر بدأت مؤخرا تستخدم تحذيراً أعلى بعض المنشورات التي قد تكون حساسة للأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة مثل: “ Trigger Warning” أو TW أو “محتوى حساس” وغيرها. ويقصد بهذه المحفزات، المنبهات الحسية التي تستفز الصدمات الكامنة بداخلنا وتعيدنا إلى أحداثها من جديد لينفجر ذلك البركان فجأة بداخلنا ويدمر كل شئ.
ونحن – كنساء “مترومات”- على الأغلب نتعرض لهذه المحفزات بشكل مستمر. وحتى هذه اللحظة لم أصادف أي امرأة لا تمر بهذه الأحداث من حين لآخر. كلنا نختبر الصدمة في مرحلة أو أكثر من حياتنا، ثم نختبر التروما واضطراب ما بعد الصدمة، ثم نختبر المحفزات التي تثير الصدمة أو الصدمات التي نتعرض لها، وهكذا دواليك.
كلنا ناجيات
كنساء في الوطن العربي بطبيعة الحال يمكن أن نعتبر أننا جميعاً ناجيات. وبافتراض أن جميعنا بشكل أو بآخر قد تعرضنا لأحد أشكال العنف على مدى سنوات حياتنا. وكوننا ما زلنا أحياء حتى الآن. إذن فقد نجونا. رغم أن هناك البعض قد يفضل استخدام مصطلح “ضحايا” أكثر من ناجيات. لأن الكثيرات منا حتى وإن كانت حية ترزق، فهي تحيا في ظل معاناة نفسية أو حتى جسدية عميقة. وهذه ليست حياة صحيحة بطبيعة الحال. وهو ما لا يعتبره أنصار هذا الرأي نجاة حقيقية. لكن في رأيي أنه طالما ما زالت أرواحنا لم تغادر أجسادنا فلقد أعطتنا الحياة فرصة أخرى على الأقل للتعافي وهذا أكبر دليل على أننا قد نجونا بالفعل.
لكن في الوقت نفسه أدرك أن هذه النجاة ليست سهلة على الإطلاق، بل قد يأتي علينا لحظات نفضل فيها أن نكون ضحايا على كوننا ناجيات، فمواجهة هذه الحياة القاسية بطبيعتها كنساء “مترومات”، تصبح كالجمل الذي يلج في سم الخياط، لذلك فأنا أتفهم جيداً لماذا يرى البعض أن لفظ “ضحية” قد يكون أكثر ملائمة للوصف رغم تحفظي على هذا التأويل، لما فيه من انتزاع لوكالة المرأة والتطبيع مع انعدام فرص النساء للسيطرة على حيواتهن وصيرورتها.
لا يفهمها الرجال
إن كانت التروما مصاحبة لحيوات معظم النساء، فهي في حياة الرجال استثناء. ذلك أن الرجال مخلوقات ذات امتيازات منذ اليوم الأول، وهذه الامتيازات توفر عليهم المرور بسلسلة طويلة من الصراع والمعارك في هذه الحياة. لذلك يصعب على الرجال أن يفهموا ما نمر به نحن النساء بشكل يومي حتى لو حاول بعضهم. هذه الترومات التي أصبحت جزءا من حيواتنا ومحاولاتنا المستمرة للتعافي لا يراها الذكور على الأغلب. بالطبع يوجد رجال تعرضوا لصدمات في حياتهم وقد يختبرون التروما بشكل ما، لكن ما أود قوله أن هذا إن حدث فهو يتم بشكل استثنائي، حيث الامتيازات الذكورية توفر للرجال حصانة مستمرة ضد الكثير من أنواع الصدمات التي تمر بها النساء على مدار حياتها. أضف إلى ذلك محفزات التروما التي تتعرض لها النساء طوال الوقت. ومع ذلك لا أقلل أبدًا من معاناة أي شخص يختبر أي نوع من أنواع الاضطرابات النفسية على اختلافها.
فرص التعافي
في اليوم العالمي للصحة النفسية. رفعت منظمة الصحة العالمية شعار “الرعاية الصحية النفسية للجميع: لنجعل هذا الشعار واقعاً!”. خاصة مع مرور قرابة عامين في ظل جائحة كورونا التي حولت واقع العديد من النساء إلى دائرة مغلقة من العنف حول العالم. وبشكل شخصي أود التأكيد على مفهوم أن الرعاية الصحية النفسية هي حق لنا جميعًا. لكن يظل هناك تساؤل مشروع. وهو هل فرص الرعاية النفسية متاحة لجميع النساء بشكل متساو وملائم لواقعهن الذى يفرض عليهن الدخول في دوامات متكررة من الاضطرابات النفسية؟
حتى الآن، ما زال المرض النفسي يستخدم كأداة للوصم- هذا إذا تم الاعتراف بالمرض من الأساس- وخاصة في حالة النساء اللاتي يواجهن اتهامات بالجنون والتهيؤات و”الهرمونات” طيلة الوقت. حتى أن فكرة تلقي العلاج النفسي -إن وجدت- تصبح هاجسًا كبيرًا لدى العديد من النساء. وبشكل شخصي. فقد قاومت العلاج النفسي أيضًا لفترات طويلة. لولا تكاتف الصديقات اللاتي ساعدنني كثيرًا أن أبدأ رحلة التعافي. رغم أنني ما زلت في بدايتها، بالإضافة إلى مساعدة بعض المنظمات النسوية التي كانت تقدم خدمات الدعم النفسي. لكن مع تضييق المجال العام بشكل كبير في السنوات الأخيرة. لم تستطع العديد منها الصمود والاستمرار في تقديم خدمات الرعاية النفسية للناجيات. ومع ذلك، لا يمكن إنكار الدعم الذي تلقيته وما زلت أتلقاه من الصديقات والناشطات النسويات. الذي لا زال الوقود الذي يدفعني للمضي قدمًا في رحلة التعافي.
وبهذه المناسبة، دعوني أستغل هذه السطور الأخيرة في تأكيد أهمية التضامن النسوي في مجال الرعاية الصحية النفسية كذلك. لأنني أكاد أجزم أن النساء يمتلكن هذا الكود أو الشفرة الضمنية فيما بينهن. التي تمكنهن من تفهم ما نمر به على المستوى النفسي. في ظل أن العديد من حيواتنا يمكن اعتبارها سلسلة من “الترومات” المستمرة ومحاولات التعافي منها، إذا أتيحت فرصة التعافي، التي هي بالأساس حق لنا جميعًا.