جاءت ثورة ليلة 23 يوليو 1952 في مفرق تاريخي حاسم، وقد بلغ كفاح المصريين ذروته العالية في مواجهة الاستعمار المزدوج لمدة ثلاثة أرباع قرن: استعمار سلالة محمد علي، واستعمار الإنجليز من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.

سيطر الضباط الأحرار علي قيادة الجيش في ثلاث ساعات، فحرموا الملك من مصدر حمايته، وفي أقل من مائة ساعة فرضوا كلمتهم عليه من كل الجهات: فقد طلبوا تعيين اللواء محمد نجيب قائدا عاما للجيش فأذعن لهم الملك ولم يعترض، ثم طلبوا عزل وزارة نجيب الهلالي وكان لم يمر عليها 24 ساعة بعد أداء اليمين الدستورية فأذعن الملك ولم يعترض، ثم فرضوا المخضرم المستقل علي ماهر رئيسا للوزراء فأذعن الملك ولم يعترض، ثم طلبوا عزل كبار رجال الحاشية الملكية فأذعن الملك ولم يعترض، ثم أرسلوا إليه وثيقة عزله عند الساعة العاشرة من صباح السبت على أن يوقع عليها قبل الساعة الثانية عشر من ظهر اليوم ذاته -يعني في مهلة ساعتين فقط- فأذعن الملك ولم يعترض، ثم أنذروه أن يغادر البلاد قبل الساعة السادسة من مساء اليوم ذاته فأذعن الملك ولم يعترض.

في أقل من مائة ساعة عزل المصريون -وليس الضباط الأحرار وحدهم- آخر الحكام الفعليين من سلالة محمد علي، ثم في أقل من عام وبالتحديد في 18 يونيو 1953 تم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، تتويجا لكفاحهم الممتد من الثورة العرابية 1979 – 1882، وثورة 1919، ثم ثورة يوليو 1952.

بعد ساعة واحدة من عزل الملك، كانت كل القيادات الوطنية، تقدم الشكر للضباط الأحرار في لقائهم باللواء محمد نجيب، وقد أنابوا للحديث عنهم أستاذ الجيل الفيلسوف والمفكر والسياسي العظيم أحمد لطفي السيد، الذي أعرب -حسب رواية المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي-  عن شعورهم الطيب نحو الحركة المباركة وشكرهم للضباط والجنود الذين أدوا واجبهم بأمانة لتطهير البلاد، فرد عليهم القائد العام شاكرا.

تغيب عن هذا اللقاء زعيم الوفد مصطفى النحاس لأنه كان في أوروبا، لكنه وصل صباح اليوم التالي، وذهب لمقابلة القائد العام، وحسب رواية الرافعي، فإن مصطفى النحاس -الذي هو ثاني اثنين بعد سعد زغلول في قيادة الكفاح الوطني ضد استبداد الملك وضد الاستعمار معا- قال للقائد العام: «فور وصولي إلي أرض الوطن، رأيت واجبا علي، أن أزور محرر الوطن، وأن أرى من أنقذ شرف الوطن».

مصطفى النحاس
مصطفى النحاس

وبعد أقل من 1000 يوم على إلغاء الملكية في 18 يونيو 1953، أنجزت الثورة الهدف الأعظم لكفاح المصريين، بجلاء آخر جندي إنجليزي عن أرض الوطن في 18 يونيو 1956، تنفيذا لاتفاق الجلاء المنعقد في 19 أكتوبر 1954، وليتحقق حلم المصريين الذي ضاع منهم منذ فقدوا استقلالهم القومي عند المائة الخامسة قبل ميلاد سيدنا المسيح، وليكونوا جزءا من الإمبراطوريات الفارسية والإغريقية والرومانية والعربية والعثمانية، حتى آلت مصر بتوافق دولي لتكون ضيعة خاصة يتوارثها محمد علي وبنوه من بعده، ومعهم من يرتضون من خدمهم وحشمهم وتوابعهم من ترك وشركس وأوربيين.

ثورة 23 يوليو 1952 -وهي في يقين كاتب هذه السطور ثورة وليست شيئآ آخر- كانت محظوظة إذا قورنت بالثورتين العرابية ثم ثورة 1919.

الثورة العرابية كانت عدة ثورات في بعض وكانت تواجه عددا كبيرا من القوى المعادية لها وللمصريين في وقت واحد، كانت تواجه فسادا واستبدادا وغشم اثنين من سلالة محمد علي، سفه إسماعيل، ثم سفاهة نجله الأكبر ووريثه توفيق مع العلم أن السفه يتعلق بسوء إدارة المال، بينما السفاهة تتعلق بضعف عقلي ونفسي في شخص بما يجعله عاجزا عن إدارة نفسه وتحمل مسؤولياته الخاصة والعامة بعقل وثبت وبصيرة وتمييز وحكمة.

ثم كانت تواجه امتيازات أوروبية ممنوحة من السلطان العثماني لما يزيد عن 13 جنسية أوروبية لها جاليات مقيمة تمارس أبشع أنواع الاستغلال والاستعلاء ضد المصريين، وكان قناصل هذه الجنسيات يعتبرون أنفسهم الحكام الفعليين للبلاد من وراء غلالة شرعية متهتكة لخلفاء محمد علي وللسلطان العثماني معا.

ثم كانت تواجه أعتى إمبراطوريات القرن التاسع عشر، الإمبراطورية البريطانية التي كانت تعوم في البحر وتحوم حول البر، تنتظر الفرصة وتبحث عن الثغرة لاحتلال البلاد بالقوة العسكرية،  الحلم الذي يراود الإنجليز منذ شاركوا في طرد نابليون ومن معه من الغزاة الفرنسيين عند مطلع القرن التاسع عشر.

كانت لها مشاكلها الذاتية سواء في مكونها العسكري أي الجيش أو في مكونها المدني من الأعيان وكبار الملاك والطبقات المستجدة من المتعلمين والتجار وأصحاب المهن وصولأ إلى القاعدة الواسعة من الفلاحين، كانت الأغلبية الكاسحة في قيادة الجيش لغير المصريين، وكان المصريون من الضباط محل تمييز ضدهم لصالح الترك والشركس، وكانت طبقة الأعيان مع الثورة لما ظنوها تخدم مصالحهم ثم انقلب عليها أكثرهم وذهبوا يستقبلون الاحتلال استقبال الفاتحين الأبطال لما ظنوا أن ذلك بات هو الواقع الذي لا واقع غيره.

أما ثورة 23 يوليو 1952 فجاءت والسلطنة العثمانية في رحاب التاريخ، ثم جاءت والامتيازات الأوروبية قد ألغيت بكفاح المصريين، ثم جاءت وبريطانيا في أفول حقيقي تنسحب من مستعمراتها وقد انكمشت من إمبراطورية عاتية إلى مجرد دولة قوية عادية، ولهذا فإن بريطانيا التي واجهت الثورة العرابية بخمسين ألف جندي بزعم حماية عرش الخديو التزمت الصمت التام في مواجهة ثورة 23 يوليو 1952 واعتبرتها من شؤون مصر الداخلية التي لا تفضل إقحام نفسها فيها، ولهذا لم يجد الملك فاروق قليلا من الحماية البريطانية 1952 التي حظي بها الخديو توفيق 1882، ولك أن تزيد على ذلك أفضل حظوظ ثورة 23 يوليو في أيامها الأولى وهو موقف القوة العظمى الدولية المستجدة في الشرق الأوسط، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كان لها مصلحة في حدوث تغيير كبير في الشرق الأوسط يكون مركزه مصر، ثم كان لها مصلحة في تحييد الإنجليز، وكان لها مصلحة في تأديب الملك الذي كان يميل صوب دول المحور ضد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ثم كان لها رغبة في تأديب مصطفى النحاس والوفد بسبب رفضه الاشتراك بقوات في الحرب الكورية 1951 وبسبب رفضه للأحلاف الأجنبية للدفاع عن الشرق الأوسط، ثم كان لها مصلحة في تطبيق إصلاحات اجتماعية في مصر وعدد من الدول تدور حول الإصلاح الزراعي وتغيير هياكل ملكية الأرض بما يحدث نوعا من التوازن بين الأغنياء والفقراء وبما يحول دون انتشار الأفكار الاشتراكية في مصر وبما يحول -في نهاية المطاف- ضد التسلل السوفيتي إلى مصر.

وكان السفير الأمريكي كافري جيفرسون من الدعاة الجادين لمشاريع الإصلاح الزراعي في مصر في الفترة التي سبقت وشهدت قيام ثورة 23 يوليو 1952، لكل ما سبق كانت القوة العظمى الجديدة على استعداد كامل للاعتراف بالثورة والتعاون مع قادتها من الضباط الأحرار، ولم تأسف على رحيل الملك، ولم تأسف على زوال عهد بأكمله، لعلها تكون مهندس العهد الجديد.

أما ثورة 1919 فجاءت تقريبا بعد أربعين عاما من تغلغل الإنجليز في أجهزة الإدارة من الخديو ثم السلطان ثم الملك حتى أصغر موظف في هرم السلطة والإدارة، ثم جاءت والجيش أغلبه في السودان لخدمة مصالح الإنجليز بتمويل وعرق المصريين، اقتطعت ثورة 1919 جزءا من سلطات الملك لكنه ظل باقيا، واقتطعت جزءا من الاستقلال عن الإنجليز لكن الاحتلال ظل باقيا، واستطاعت بقيادة الوفد أن تقود الحركة الوطنية ثلاثة عقود لكن الملك والإنجليز استقطبوا كبار الملاك وأصحاب المصالح ولعبوا بهم ضد مطامح الشعب في الاستقلال والحكم الدستوري.

يوليو 1952
يوليو 1952

جاءت ثورة 23 يوليو 1952 والجيش قد تم تمصيره بفضل الثورة العرابية التي كانت الرصاصة الأولى في هذا المضمار، ثم تم توسيعه بفضل حكومة الوفد 1936 حيث تضاعف عدد الضباط ثلاث مرات في عشر سنوات من 1936 – 1946، ثم لأن الجيش كان مصدر حماية الملك فإن ضباطه كانوا يحظون بمعاملة مادية وأدبية كريمة، ثم كانت السنوات العشر السابقة على الثورة سنوات غليان سياسي واجتماعي عاصف، حيث الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 والتي وضعت مقدرات البلاد تحت تصرف الإنجليز بما يكفي لإثبات أن استقلال مصر كما ورد في تصريح 28 فبراير ثم اتفاقية 1936 ليس أكثر من استقلال ناقص، ثم حرب 1948 وقيام إسرائيل، ثم الفجوة الاجتماعية بين الذين يملكون والذين لا يملكون، ثم القرارات الجسورة -حسب وصف المؤرخ العظيم طارق البشري- التي أقدم عليها الوفد بإلغاء اتفاقية 1936 ثم فتح الأبواب أمام كتائب الكفاح المسلح ضد القوات البريطانية المتمركزة في منطقة قناة السويس.

الثورة العرابية افتتحت الطريق، وثورة 1919 مهدت وعبدت وسفلتت الطريق، وثورة 23 يوليو 1952 وصلت ذروته -عبر مخاطرة انقلابية عسكرية خاطفة- لتجد نفسها في خلال ساعات محل ترحيب شامل في الداخل والخارج.

الثورات الثلاث -تعبيرأ عن مطالب المصريين- انطلقت من مفهوم أساسي وهو: «مصر للمصريين»، وكان هذا المفهوم يعني التحرر المزدوج من قيود الاستعمار الخارجي ومن أغلال الاستبداد المحلي، لكن التطور الذي حدث في الـ75 عاما من الثورة العرابية إلى ثورة 1919 إلى ثورة 23 يوليو 1952 هو إضافة مطلب ثالث هو: التحرر من الاستغلال، استغلال الذين يملكون للذين لا يملكون، حيث كانت العدالة الاجتماعية قد غدت مطلبا شعبيا وهو مالم يكن في عهدي الثورتين الجدة العرابية والأم 1919.

هذا البعد الاجتماعي كان وراء الانتكاسة التي حصلت علي يد 23 يوليو 1952، وهذه الانتكاسة هي تهميش المطلب الدستوري والديمقراطي بما أعاق التطور الديمقراطي بصورة تكاد تكون كاملة من ذاك التاريخ إلى حين كتابة هذه السطور، وهو نقيض ماحدث في الثورتين السابقتين: العرابية ثم 1919.

الثورة العرابية فرضت الحكم الدستوري، وفرضت الحكم النيابي، ونجحت في ذلك مائة في المائة، ولم يعطل ذلك إلا القوة العسكرية الإنجليزية، وهي قوة كانت تفوق ليس قوة العرابيين المتواضعة فقط لكن كانت تفوق قوة إمبراطوريات أوروبية عديدة.

أحمد عرابي
أحمد عرابي

كذلك كانت عقيدة ثورة 1919 تحت قيادة الوفد على مدى ثلاثة عقود، وذلك رغم الانتهاكات الجسيمة التي لم يتورع عنها الملك وأحزاب الأقلية ومن ورائهما الإنجليز، لكن أيا ما تكن الانتهاكات فقد كان هناك إصرار دؤوب من الوطنيين المصريين على مداومة ومواصلة الكفاح الدستوري والديمقراطي من حيث هو تأكيد لإرادة الشعب، وغل لإرادة الملك، واستقلال القضاء، وحرية الصحافة، وفصل بين السلطات، وتعدد للأحزاب، وحرية للتظاهر والاجتماع، وحماية حريات الأفراد الخاصة والعامة من هتك أجهزة الإدارة لها إلى آخر المطالب الديمقراطية.

لماذا لم تكن ثورة 1952 مخلصة للديمقراطية مثل إخلاص الثورة العرابية ثم ثورة 1919؟

ذلك لعدة أسباب:

رقم واحد: ثورة العرابيين كانت نصف مدنية نصف عسكرية، ثورة 1919 كانت ثورة مدنية محضة دون أدنى مشاركة عسكرية، ثورة 23 يوليو 1952 كانت عسكرية محضة دون أدنى مشاركة مدنية، بل كانت ثورة 23 يوليو 1952 حريصة كل الحرص على عدم مشاركة المدنيين بأي شكل وبأي مقدار، لا في القيادة ولا في التنفيذ، كان كل المطلوب من المدنيين هو: إعلان التأييد، ثم أخذ جنب، ثم الإخلاد إلى الهدوء والسكينة،  هكذا كانت تصدر بيانات الثورة في أيامها الأولى تطمئن الشعب إلى أن أبناءهم في القوات المسلحة يقومون بالواجب وما على الشعب من دور ولا مهمة ولا واجب إلا أن يؤيد أولا، ثم يركن على جنب ثانيا، ثم يخلد إلى الهدوء والسكينة بصورة مفتوحة دون سقف زمني محدد.

العرابيون لم تكن لديهم فرصة الاستغناء عن الدور الشعبي الفعلي في الثورة سواء في المدن أو في الأرياف، ثورة 1919 مدينة بوجودها من الألف إلى الياء وعلى مدى ثلاثين عاما للشعب بكل طبقاته ولولاه ما كانت صمدت في وجه الملك والإنجليز ونوابهم من أحزاب الأقلية. ثورة 23 يوليو 1952 كانت مكتفية بالجيش بعد أن سيطرت عليه في ثلاث ساعات، وأصبح الجيش من تلك اللحظة هو أداة الثورة ومنفذها وحاميها، سواء في مواجهة الثورة مع خصومها أو في مواجهتها مع حلفائها أو حتى في صراعات التصفية الداخلية بين الضباط الأحرار أنفسهم.

رقم اثنين: لم تكن للثورة العرابية ولا لثورة 1919 غرض في استئصال النخبة السابقة عليها ولا استئصال العهد السابق عليها، كلتاهما كانت تطرح إصلاحات جذرية لكن من داخل النظام القائم وتحت مظلته وشرعيته، ولذلك لم يكن ثمة خوف كبير من انتهاج الوسائل الديقراطية ولم يكن هناك قلق من اعتماد الديقراطية النيابية مطلبا ثوريا أساسيا، هذا لم يكن الحال مع ثورة 23 يوليو 1952 التي كانت تستهدف إزالة عهد بكامله، بكسر عمود الخيمة ذاته وهو الملك، ثم تمزيق نسيج الخيمة ذاتها وهو الملكية بكاملها، ثم استئصال الجذور الاقتصادية- الاجتماعية للعهد بأكمله وهي الملكيات الزراعية الكبيرة، وما ترتب عليها من مكتسبات سياسية تمثلت في شكل أحزاب سياسية ومصالح اقتصادية تتنافس على الحكم وتتداول عليها، هذا النوع من جراحات الاستئصال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي تجعل إمكانيات التعايش بين الثورة والسابقين عليها صعبة جدا ومن ثم تجعل الخيار الديمقراطي -كأداة للتعايش أو الصراع- مستحيلا تماما.

رقم ثلاثة: ظهرت بين الحربين العالميتين وبين ثورتي 1919 و23 يوليو 1952 قوى اجتماعية وسياسية واتجاهات فكرية جديدة لا تضع الديمقراطية بمعناها الليبرالي الذي تبنته الثورتان العرابية و1919، هذه القوى تراوحت من الإخوان المسلمين إلى مصر الفتاة إلى التنظيمات الشيوعية واليسارية، وفي السنوات العشر قبل ثورة 1952 نمت اتجاهات تحمل الديقراطية وتعدد الأحزاب المسؤولية عما تعتبره تمزقا اجتماعيا وغيابا للعدالة الاجتماعية وفشلا في إجلاء الانجليز، وقد انتشرت هذه الروح المجافية للديقراطية في بعض الكتابات حتى كتب صحفي وروائي كبير في حجم إحسان عبدالقدوس أن مصر في حاجة إلى ديكتاتور وأنه لا مانع من الديمقراطية في مقابل الإصلاح، ونص عبارته كالتالي: «ديكتاتورا للشعب لا على الشعب، ديكتاتورا للحرية لا على الحرية، ديكتاتورا يدفعها إلى الأمام لا يشدها إلى الوراء».

رقم أربعة: القوى الدولية المؤثرة مثل بريطانيا -دولة الاحتلال- لم تكن معنية بالديقراطية لا حين الثورة العرابية، ولا حين ثورة 1919، ولا حين ثورة 23 يوليو 1952، ثم القوة الدولية الوارثة لها، والتي لم تعترض ولم تمانع على ثورة يوليو، والتي كان سفيرها من تقابل مع الملك فاروق قبيل توقيعه على التنازل ثم كان السفير الوحيد الذي حضر وداعه على باخرة الرحيل الأبدي، هذه القوة الجديدة كان لها مصلحة في مصر مستقرة ولو تحت حكم الجيش خير من مصر مضطربة تحت حكم ملكي تتنازع تحته مكونات الديقراطية والاستبداد، لم تكن للأمريكان مصلحة في الديمقراطية، كانت مصلحتهم مع الاستقرار، ثم مع إصلاحات اجتماعية تحول دون تسلل الشيوعية، وعلي الهامش كانت ترغب قي تأديب الوفد والملك كل منهما لأسباب تخصه، لم يكن ذلك الإسقاط للديقراطية من الحسابات الأمريكية يخص الإدارة وحدها لكن عليه توافق رسمي وغير رسمي، ولم يكن هذا الموقف مخصوصا بمصر وحدها بل كان يشمل الكثير من بلدان الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأسيا وأفريقيا، وكان جوهر المشروع الأمريكي يقوم علي فكرتين: حكم مستقر وإصلاحات اجتماعية، كانت سياستهم في مصر تحديدا، أنها في حاجة إلى العدل الاجتماعي قبل الحاجة إلى الديمقراطية.

رقم خمسة: الرئيس عبدالناصر ذاته، كان يختصر الديمقراطية السابقة على 23 يوليو 1952 في الأحزاب، وكان يختصر الأحزاب في خدمة كل شيء إلا البلد والشعب، تخدم مصالحها وتخدم الاستعمار وتخدم الملك، ومن كانت هذه وجهة نظره يستحيل عليه أن يسمح بديمقراطية تسمح بعودة هذه الأحزاب إلى الحكم، ثم كان الرئيس عبدالناصر يفرق بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية، الأولوية عنده كانت للأولى والثانية كانت مؤجلة، ومازالت مؤجلة حتى كتابة هذه السطور، ومعروف أن الديمقراطية الاجتماعية تعني حقوق الأغلبية الفقيرة من تعليم وتوظيف وعلاج وتملك وحراك طبقي، ومعروف أن الديقراطية السياسية مقصود بها الديمقراطية الليبرالية النيابية، وفي قائمة الأهداف الستة لثورة 23 يوليو احتلت الديمقراطية المرتبة الأخيرة في أربع كلمات: «إقامة حياة ديمقراطية سليمة». وواقع الممارسة الفعلية على الأرض، في كل عهود يوليو، هو إعاقة الديمقراطية، بصورة يصلح معها أن الهدف الفعلي هو: «إقامة حياة ديكتاتورية سليمة».

………………………………………………………………………

السؤال الآن: كيف تمت إعاقة الديمقراطية من ذاك اليوم إلى كتابة هذه السطور؟

الجواب موضوع المقال المقبل الأربعاء القادم بإذن الله.