لا يتحمل وزير التربية والتعليم الدكتور طارق شوقي ولا وزارته وحدهما مسئولية التردي الذي وصلت إليه مدارسنا الحكومية المجانية، ذلك التردي الذي انتقلت صوره من داخل أسوار المدارس إلى الفضاء الإلكتروني عبر منصات التواصل الاجتماعي تزامنا مع بداية العام الدارسي الجديد مطلع هذا الأسبوع.

الكثافات العالية نتيجة عدم تناسب عدد المدارس مع عدد التلاميذ، وغياب الأدوات التعليمية المساعدة عدا السبورة التي يستخدمها المدرسون في بلادنا منذ أن عرفنا التعليم النظامي في مصر، ووجود فصول بلا مقاعد للدرجة التي جعلت إدراة إحدى المدارس تُجلس التلاميذ الصغار على الأرض، وضيق الأفنية وساحات ممارسة الأنشطة الرياضية، باختصار انهيار البنية التحتية للتعليم ليس مسئولية شوقي ولا حتى حكومة مدبولي ولا الحكومة السابقة عليها، ولا الحكومات التي تعاقبت على حكم مصر خلال العقد الأخير بعد ثورة يناير.

انهيار المنظومة التعليمية هو إرث نظام الرئيس الراحل حسني مبارك الذي حكم مصر لنحو 3 عقود متتالية، جُرفت فيها مرافق التعليم والصحة والمواصلات وغيرها من المجالات التي كان من المفترض أن تعمل سلطته على النهوض بها، مادامت قررت التمسك بالحكم كل تلك المدة رغم إرادة الشعب.

عرف التاريخ الحديث أمثلة لأنظمة استبدت وأخضعت شعوبها وحكمتها رغما عنها، ووضعت قيودا على حرية العمل السياسي وقمعت كل محاولة لتداول السلطة، لكنها في المقابل عملت على شراء رضا الناس بتوفير الاحتياجات الأساسية من تعليم وصحة ووسائل مواصلات ومساكن ملائمة وفرص عمل، ونجح بعضها في إصلاح الأوضاع الاقتصادية للدرجة التي تمكنت فيها دولة كالصين بعد سنوات التحول والإصلاح الاقتصادي إلى عملاق اقتصادي وعسكري ينافس الكبار، رغم تجاهل الإصلاح السياسي والتمسك بنظام حكم الحزب الواحد.

كثافة الفصول
كثافة الفصول

الأوضاع السياسية والاقتصادية والمعيشية البائسة دفعت المصريين إلى الثورة على نظام مبارك، وبعد سقوطه بـ9 سنوات رحل الرجل عن دنيانا بـ «ما له وما عليه»، ورغم إقرار النظام الحالي بأن مبارك «منه لله هو الذي خرب البلد»، وأن نظامه كان من المفترض أن يسقط قبل الثورة بـ15 عام، إلا أنه منحه تكريما لم يكن يحلم به.

رحل مبارك وأركان نظامه لكن آثاره وسياسته وتوجهاته لا تزال تطل علينا، وكأنه لا تغيير حدث ولا شعب ثار ولا سلطة سقطت ولا نظام حكم جديد حل محله.

لم تشرع السلطة الحالية التي تحكم البلاد منذ نحو 8 سنوات في إحداث تغيير جذري على الأوضاع المزرية التي دفعت الناس للثورة على عقود الفساد واللامبالاة والإهمال في بناء دولة ناهضة حديثة.

نقطة البداية في صناعة نهضة وتأسيس دولة جديدة على أنقاض النظام الساقط هي الاهتمام بالتعليم والصحة، فلا تقدم ولا تنمية ولا ثقل إقليمي ودولي دون تعليم جيد وخدمة صحية تراعي الحد الأدنى من آدمية المواطن.

لا ينكر أحد أن النظام الحالي تمكن في وقت ضيق من إعادة الاستقرار والأمن إلى المجتمع بعد هزات متتالية ضربت الدولة عقب إسقاط حكم الإخوان، ولا يجحد أحد إنجازه في مجال البناء والتشييد، لكن أزمته أنه قَلَب سلم الأولويات، فبعد نجاحه في استعادة الأمن، ذهب مباشرة إلى رقم 9، و10 على هذا السلم، دون أن يلتفت إلى أن  الأجدى والأولى هو البدء بـ1، و2، و3.

شرعت السلطة الحالية في إقامة مبان شاهقة ومدن فارهة للطبقة الثرية المخملية، شيدت لها الطرق والكباري ووفرت لها وسائل مواصلات المريحة لتُسهل وصولها إلى التجمعات السكنية الجديدة المعزولة عن عامة الشعب.

لم تدعم السلطة ميزانيات التعليم والصحة بالقدر الكافي، ولم تُفعل النص الدستوري الذي يلزم الدولة بزيادة الإنفاق الحكومي على التعليم والبحث العلمي والصحة ليمثل 10% من الناتج القومي الإجمالي بواقع 4% لـ«التعليم قبل الجامعي» و2% لـ«التعليم الجامعي» و1% لـ«البحث العلمي»، و3% لـ«الصحة»، على أن تتصاعد نسبة الإنفاق على التعليم تدريجيا «حتى تتفق مع المعدلات العالمية».

ورغم زيادرة نسبة مخصصات التعليم والصحة في موازنة العام الحالي بنسبة 9.6 مقارنة بموازنة العام الماضي، إلا أنها تظل أقل من المعدل الدستوري المقرر.

لم تتقبل السلطة دعوات البعض بضرورة رفع ميزانية التعليم، وتجاهلت بل كتمت أي صوت يتحدث عن تلك الأزمة الدستورية بل عن أزمة مخصصات التعليم المتدنية، وشمل هذا الكتم وزير التعليم ذاته الذي تأفف ذات مرة من قلة موارد وزارته.

القصة باختصار إنه عندما قال وزير التربية التعليم والتعليم الفني طارق شوقي أمام لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب في منتصف عام 2019، إن وزارة المالية لا تمنح وزارته «مليمًا واحدًا إلا بطلوع الروح»، ثارت عليه الدنيا، ورصدت الأجهزة المعنية حالة السخرية على صفحات التواصل الاجتماعي من توجهات السلطة التي قررت صرف المليارات على العاصمة الإدارية وأخوتها وضنت على «التعليم» بالموازنة التي تحتاجها لتطوير منظومتها.

شوقي قال أمام أعضاء اللجنة في الاجتماع المخصص لمناقشة موازنة وزارته: «كل ما نطلبه من مبالغ مالية نحصل على ما هو أقل منه، وأعداد الطلاب تتضاعف، ووضع المناهج وتأليفها يكلفنا ملايين الجنيهات، ولو أردنا أن يستمر التطوير يجب أن نضخ أموالا، ولو ما أخدناش اللى عايزينه المرة دي، مشروع تطوير التعليم هيقف، ودا مش تهديد، عايزين 11 مليار جنيه فوق المعتمد من المالية، مش هكمل من غيرهم، والوزارة هتقفل».

طارق شوقي
طارق شوقي

وقبل أن تهدأ الضجة التي أثارتها تصريحات شوقي في البرلمان، لحقت به وزيرة الصحة في اليوم التالي وألقت بتصريحات مشابهة أمام نفس اللجنة البرلمانية، طالبت فيها المجلس بتعديل أو تغيير قانون التأمين الصحي الشامل الجديد أو زيادة موازنة الوزارة لتتمكن من تطبيقه، وقالت إنه «على البرلمان تعديل وتغيير قانون التأمين الصحي الشامل، أو العمل على تعديل الموازنة العامة لوزارة الصحة بما يتيح لها تنفيذ القانون من خلال رصد المبالغ المالية اللازمة لتنفيذه».

بعد الأزمة التي سببتها تصريحات الوزيرين، صدرت التعليمات غير المكتوبة بفرض حظر إعلامي على كل الوزراء، فلا تنشر وسائل الإعلام العاملة تحت سماء مصر ونظامها اسم الوزير ولا صورته وبالقطع ولا تصريحاته، كنوع من أنواع التعزير والتأديب لمن خانه لسانه ونضح بالحقيقة المرة دون أن يفكر في عاقبة كلامه.

بعد عملية الحجب الإعلامي لوزير التعليم ومعه باقي الوزراء، خرج الرجل إلى الهواء الفضائي ليتحدث عن تعليم آخر ومدارس أخرى ومنظومة تعليمية لا تمت للواقع بصلة، يطرح تصورات لتحديث المناهج والامتحانات طبقتها دول بعد عقود من شروعها في تأسيس بنية تعليمية قادرة على التعامل مع المتغيرات والتطورات الحديثة.

اختار الوزير الأسلم والأقل تكلفة ليبتعد عن المشاكل وحتى لا يظل اسمه على قوائم الترقب في أي تعديل وزاري، وبدلا من الاشتباك مع واقع المدارس المتردي وعجز المدرسين الشديد وحاجة هؤلاء المدرسين إلى زيادة الرواتب والتدريب المستمر. أدار ماكينة الحديث الفضائي والإلكتروني لإنتاج تصريحات يومية عن نظم التعليم التكنولوجي الحديثة وفؤائد بنك المعرفة والتجربة المصرية الرائدة في التحول إلى الاختبارات الإلكترونية، ووصل به الأمر إلى مقارنة نظامنا التعليمي بالنظام التعليمي في فنلندا الدولة الأولى عالميا في جودة التعليم، وبلغ به الحال أن يقول في إحدى نوبات تصريحاته أن الفنلنديين يريدون دراسة التجربة المصرية تمهيدا لنقلها.

لم يكتف شوقي بالبعد عن الشر الذي هو الحديث عن الأولويات التي يحتاجها نظامنا التعليمي بل اختار أن يُغني له، درءا لأي محاسبة أو عقاب ليس من الشعب بالطبع بل من السلطة التي اختارته للقيام بمهامه، وبدلا من أن يصر على رفع الحكومة لمخصصات التعليم في الموازنة، لجأ إلى إلقاء الكرة في ملعب الشعب المتناسل بطبعه والذي أدى تناسله إلى ارتفاع عدد التلاميذ بنسبة لا تناسب عدد المدارس وهو ما أدى -وفق وجهة نطره- إلى الخلل الذي لاحظناه في المقاطع التي نشرت على منصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية.

وتماهيا مع التوجهات السائدة، كشف الوزير دون أن يدري أو متعمدا، عن نوايا تضرب أساس مشروعية الجمهورية التي تأسست قبل نحو 70 عام وينسف ما تبقى من إرث دولة يوليو، وذلك حينما تساءل خلال حديثه في لجنة التعليم بالبرلمان قبل شهور عن ضوابط التعليم المجاني «التعليم المجاني لمين، للكل ولا لمن يستحق؟»، قالها شوقي في سياق حديث عابر عن أزمة شراء الأبحاث التي فرضتها أزمة انتشار وباء كورونا بديلا عن الاختبارات العام الماضي.

حديث شوقي العابر عن مستحقي التعليم المجاني، يتسق مع توجهات الحكومة بالوصول إلى الدعم الذي تقدمه الدولة للمواطن في شكل سلع وخدمات إلى حده الأدنى، ويُمهد لأفكار طرحت على استحياء عن تقسيم المواطنين الذي يحصلون على تعليم مجاني إلى شرائح تحصل كل شريحة على قدر من الخدمة التعليمية يتناسب مع ما تدفعه من مصروفات.

باختصار وزير التعليم يتحمل فقط مسئولية قبوله البقاء والاستمرار في موقعه رغم معرفته بأن وضع المنظومة التعليمية يحتاج إلى ثورة تبدأ بأن تجعل الدولة من التعليم مشروعا قوميا تخصص له ما نص عليه الدستور من مخصصات بل وجب عليها أن تقتطع له من موزانة مشروعات أخرى إن تأجلت فلن يتأثر مسار بناء الدولة الحديثة كثيرا.

إذا كانت السلطة الحالية ترى أن نظام مبارك تسبب في انهيار طال معظم المجالات وأن ثورة 25 يناير كانت شهادة وفاة لهذا النظام، فعليها قبل أن ترفع قواعد «الجمهورية الجديدة» التي يتم الترويج لها، أن تزيل ركام وأنقاض النظام السابق.

ركام نظام مبارك الساقط ليس فقط في تدني مستوى التعليم والصحة والمرافق، بل هو طبقات من فساد واستبداد واحتكار سلطة وحصار السياسية ووضع قيود على حرية التعبير، يجب أن يكون مشروع «الجمهورية الجديدة» متمثلا في تبني خطة لرفع كفاءة البنية التحتية للتعليم والصحة باعتبارهما أساس أي تقدم، وبالتوزاي تطرح للحوار العام مشروعا للإصلاح السياسي على قاعدة المشاركة لا الاحتكار، تتلافى به تجارب أسلافها في الاستبداد الذي ثبت عدم صلاحيته.