“سبع سواقي بتنعي على اللي حظه قليل”. لا زالت قلة الحظ تلاحق تراث الفيوم وتطمس معالم جمالها يا عم “بيرم”. قُل لـ”ثومة” هذا، طالبها أن تستمر في الغناء ربما يُقلق غناؤها نوم مسؤولينا خلف مكاتبهم الفخمة. ليعرفوا أنهم لا يهدمون مجرد “ساقية” ولا ينزعون قطع خشب قديمة من جوف المياه. بل يهدمون حوائط وِجداننا وينتزعون سقوف أرواحنا التي تظللها تلك الخشبات، تحت دعاوى التطوير.
تطوير أم هدم للتراث
لو أنك مررت الآن من “ميدان قارون” بوسط مدينة الفيوم، بداية من قصر الثقافة وحتى “لوكاندة قارون” والتي تأسست عام 1899. لوجدت كتل خراسانية ضخمة وبنايات لم يظهر معالمها بعد، تملأ المكان، ضمن ما أطلقت عليه المحافظة خطة تطوير ميدان قارون.
لم يتفاجأ الأهالي كثيرًا عند بِدء العمل، فتطوير ميدان قارون أو “ميدان السوقي” كما يطلقون عليه. ليس مشهدًا غريبًا فقد ظل التطوير المزعوم بندًا ثابتًا في ميزانية جميع المحافظين الذين مروا على الفيوم، خلال العقدين الماضيين. لتأكل كل خطة من تلك الخطط المشؤومة جزءًا من المساحات الخضراء، والتي ظلت لسنوات طويلة متنفسًا لأهالي المحافظة وأبنائهم. هؤلاء الذين لا يملكون عضويات في نوادي الكبار ذات الاشتراكات التي تصل إلى مئات الألوف.
ما صدم أهالي الفيوم، والمعتادون على زيارة الإقليم والعاشقين لجماله، هو مشهد سواقي الهدير الأربع ملقاة على جانب الميدان. بعد أن اُنتزعت من ترعة بحر يوسف، الذي احتضنها لقرون طويلة.
مشهد أصاب عميقًا كل من يعرف سواقي الهدير وقيمتها التاريخية أو حتى الذين يجهلون هذا التاريخ. فلقد ربطتهم بـ”السواقي” أحداث خاصة شكلت جزء هام من ذكرياتهم وذاكرتهم، فهذا أخذ صورة مع أصدقائه هنا. وذاك همس إلى محبوبته على صوت هديرها، وهذه اصطحبت ابنتها في أول أيام دراستها مارين إلى جوارها.
تاريخ سواقي الفيوم
تُرجع بعض الكتابات نشأة سواقي الهدير المنتشرة في الفيوم إلى العهد البطلمي قبل ألفي عام، وهي آلة ري فريدة ابتكرها الفلاح المصري القديم. للتغلب على طبيعة أراضي الفيوم ذات الانحدار الشديد، حيث تقع أراضي الإقليم على ارتفاع يزيد عن 26 مترًا فوق سطح البحر. عند حدوده الجنوبية مع محافظة بني سويف بداية من قرية اللاهون. لتنتهي بارتفاع 44 مترًا تحت سطح البحر شمالًا عند شواطئ بحيرة قارون.
هذه الطبيعة المنحدرة لحوض الفيوم من الجنوب إلى الشمال على شكل مدرجات عديدة. كونت شلالات من المياه متنوعة الارتفاع داخل بحر يوسف، وهو المصدر الوحيد الذي يمد إقليم الفيوم بمياه النيل عبر ترعة الإبراهيمية. والتي تنبع عند مدينة ديروط بأسيوط مرورًا بالمنيا وبني سويف. وهو ما ألهم الفلاح المصري لابتكار سواقي الهدير لرفع المياه من أسفل إلى أعلى بقوة الدفع الذاتية للمياه لري مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية التي كانت ستظل جرداء لولا هذا الابتكار الهندسي الفريد.
صناعة سواقي الهدير.. “التابوت”
صُنعت سواقي الهدير قديمًا، بحسب المهندس سعيد عليوة استشاري الموارد المائية والري، من الخشب الأبيض المحلي والمسمى بـ”العزيزي” وبعض عروق شجر الجزورين. وسواقي الهدير أو “التابوت” هي عبارة عن دائرة يختلف قطرها حسب المساحة المُراد ريُها وبحسب قوة دفع المياه في المكان الذي ستُركب فيه الساقية. وتغلف من جانبيها بالخشب الأبيض ويطلق عليها الدوارة تتخللها عيون لخروج الماء. متخذة شكل أرفف لاستقبال المياه المدفوعة بالقوة الذاتية لتدفع التابوت فيدور حاملًا المياه عبر هذه العيون من أسفل إلى أعلى. وقد يصل ارتفاع الساقية إلى 8 أمتار.
من مئات السواقي إلى الاندثار
الفيوم كان بها المئات من سواقي الهدير على طول مجاري الترع، ربما يتبقى منها العشرات حاليًا. أشهرها وأقدمها السبع سواقي الموجودة في قرية “منشأة عبد الله” على أطراف مدينة الفيوم. والتي تغنى بها عبد الوهاب في مواله “سبع سواقي” والذي يشدوا فيه: “سبع سواقي بتنعي لم طفوا لي نار.. يا مُنية القلب قولي وازيَّ عشق الجار.. يبقى النظر في النظر والقلب قايد نار.. شط البحور مرقدي والموج بنى لي دار”.
كما تغنت شادية بالسبع سواقي في أحد أوبريتات فيلم “حظك هذا الأسبوع” وهو الأوبريت الذي ضم مشاهد لسواقي الهدير وهي تروي أراضي الفيوم. وتشدو شادية فيه: “سبع سواقي كانت بتنعي.. على اللي نابها من المظالم.. قضت حياتها تدور وتدعي.. الله أكبر عليك يا ظالم.. سبع سواقي تملى آناها.. يا ما دموعنا جريت معاها”.
ساقيات منشأة عبد الله السبع لم يتبقى منها سوى ثلاث ساقيات فقط، بينما اختفت الأربع الأخريات نتيجة للإهمال. وهي لا زالت تستخدم حتى الآن في ري الأراضي ويقوم الأهالي بترميمها على حسابهم الخاص. حيث ترفض الري ترميمها، كما يوجد العشرات من السواقي التي لا زالت تستخدم في رفع المياه عبر الترع. لري الأراضي الزراعية في سيلا والصعيدي وقرية العدوة والتي تضم أكبر ساقية ويبلغ ارتفاعها 8 أمتار.
لكن هذه السواقي والتي يعود بعضها لقرون طويلة في طريقها للاندثار، في ظل إهمال كبير من مسؤولي الري الذين يرفضون ترميمها. وهو ما يهدد أيضًا صناعة السواقي التراثية العتيقة، حيث لم يتبقى من صناعها في الفيوم سوى صانع واحد فقد.
جزء من التاريخ والوجدان
سواقي الهدير الأربع والتي كانت إلى وقت قريب تزين ميدان قارون، كانت صاحبة النصيب الأكبر من الشهرة. حيث مثلت لعقود مزارًا سياحيا هامًا جذب الكثير من الزائرين من داخل مصر وخارجها، قبل أن تنتزعها “خطة التطوير المشؤومة” لتلقيها على جانب الطريق. لتختفي بعدها تمامًا، عقب هجوم شديد شنه الكثير من المواطنين المصريين بينهم مثقفين وأثريين. عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على مسؤولي المحافظة، حيث اتهموهم بهدم جزء هام من التراث الحضاري لإقليم الفيوم. وأحد الشواهد التاريخية على حقبة هامة من تاريخه.
كانت سواقي الهدير شاهدة على عبقرية المصري القديم في التغلب على الطبيعة المنحدرة والمدرجة لأراضي الفيوم. بابتكاره آلة هندسية تعمل بالدفع الذاتي للمياه، وهو ابتكار لا يوجد له مثيل في مصر كلها. حيث تستأثر الفيوم بهذا النوع من السواقي والذي يختلف عن السواقي التي كانت منتشرة في أنحاء مصر وتدار عن طريق الدواب.
وبقدر ما كانت سواقي الهدير بميدان قارون شاهدة على تاريخ الفلاح المصري القديم وعبقريته. فقد شكلت جزءًا هامًا من وجدان أهالي الفيوم وشريكًا أصيلًا في لحظات بهجتهم. وعلى صوت هديرها دارت آلاف القصص والحكايات في ليال السمر داخل حدائق الميدان التي تآكلت.
أين وزارة الآثار المصرية
السؤال الذي ظل يردده الجميع في حيرة: أين وزارة الآثار مما يحدث لسواقي الفيوم والذي يرجع عمرها لأكثر من ألفي عام!
يرد سيد الشورة، مدير عام الآثار المصرية بالفيوم، على هذا السؤال، فيقول لـ”مصر 360″: “إن السواقي ليست مسجلة كأثر ضمن قائمة الآثار المصرية بالفيوم. وبالتالي فهي ليست تحت إشرافنا ولا يمكننا منع مسؤولي المحافظة من ترميمها أو رفعها أو التصرف فيها بأي شكل من الأشكال.
ويعلل إبراهيم رجب، مدير عام الآثار الإسلامية والقبطية، عدم تسجيل سواقي الهدير ضمن قائمة الآثار المصرية أو الآثار الإسلامية والقبطية. رغم أن بعضها ربما يعود صناعتها لقرون طويلة، بأن السواقي نظرًا لطبيعة وجودها داخل المياه بشكل دائم. فإن ذلك يجعلها عرضة للتهالك وبالتالي للترميم والتغيير باستمرار، ما يجعل افتراضية وجود نموذج قديم باق على طبيعته التي صنع بها منذ ألفي عام أو حتى بضعة قرون أمر مستبعد. وبالتالي فإنها لا تأخذ طبيعة الأثر كما أنها لا يمكن الحفاظ عليها وإبقائها على طبيعتها.
التنسيق الحضاري
يضيف رجب لـ”مصر 360″: “رغم أن سواقي الهدير لا تعتبر جزءًا من الآثار المصرية ولا الإسلامية والقبطية. لكنها نموذج للسواقي التي كانت موجودة في مصر القديمة، والتي استخدمت في رفع المياه عبر منحدرات بحر يوسف لري الأراضي المرتفعة. قبل اختراع الطلمبات، وبعضها لا زال يستخدم في الري حتى الآن، وهي تحمل بذلك طبيعة تراثية وقيمة حضارية هامة لا بد من الحفاظ عليها.
ويرى مدير الآثار الإسلامية والقبطية، أن المنوط به لعب هذا الدور، هي هيئة التنسيق الحضاري. والتي عليها أن تحافظ على المورثات التراثية والحضارية والتي لا تخضع لإدارة وزارة الآثار. مثل محطات القطار والقصور القديمة وبالطبع سواقي الهدير لما تمثله من أهمية تراثية.
تغيير الطبيعة الحضارية
عمليات تطوير وتجديد ميدان قارون المتكررة، خلال الأعوام الماضية، كثيرًا ما تثير الشبهات حول إهدار المال العام. فعلى سبيل المثال تكلفت عمليات التطوير قبل ثلاث سنوات وطبقًا للأرقام الصادرة من ديوان عام المحافظة آنذاك نحو 27 مليون جنيه. وهو ما تم هدمه تمامًا خلال عمليات التطوير الجديدة والتي وافق عليها المجلس التنفيذي للمحافظة. برئاسة الدكتور أحمد الأنصاري، محافظ الفيوم، في بداية العام الحالي 2020.
الأزمة الأكبر هو ما تخلفه عمليات التطوير تلك والتي لا يفصل بين كل عملية وأخرى سوى عامين أو ثلاثة أعوام. من تغيير للطبيعة التراثية والحضارية للميدان وخنق المساحات الخضراء والتي تلاشت الآن تمامًا من ميدان قارون.
ثم كانت الواقعة الأكبر وهي إزالة سواقي الهدير من الميدان، والتي قال المحافظ بعد الهجمة التي شنت عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. إنه سيتم ترميمها وإعادتها إلى مكانها مرة أخرى، وهو ما يسخر منه أحد المهندسين الاستشاريين بالمحافظة. والذي تحدث إلينا رافضًا عدم ذكر اسمه، حيث يقول إن مشروع التطوير والذي تنفذه الهيئة الهندسية للقوات المسلحة. ويضم كافيهات ومطاعم وفندق سياحي، وجراج للسيارات، لم يكن من المخطط أن يستوعب سواقي الهدير التي تم إزالتها، وأن المحافظ أضطر لقول ذلك بعد الانتقادات الكبيرة التي وجهت إليه بعد إزالة السواقي.
معاداة التراث
ما حدث لسواقي الفيوم هو ما حدث ويحدث للمباني والمنشآت التراثية في مصر كلها. حيث تم إزالة المئات منها في العديد من المناطق والمحافظات، فمن هدم بيت المهندس التاريخي بشارع سوق السلاح غرب القاهرة. والهدم الجزئي لفندق الكونتنينتال أحد المباني الخديوية بوسط القاهرة، إلى هدم العشرات من المباني التراثية والمعمارية الفريدة.
ومن هدم طابية الفتح الأثرية بأسوان، والعشرات من المنازل التراثية في الصعيد إلى هدم فيلا “جوستاف أجيون” بالإسكندرية. وغيرها من المباني التراثية وصولًا إلى هدم جزء من جبانة المماليك لإنشاء محور الفردوس.
كل هذه الانتهاكات تجعلنا نتساءل لماذا يعادي المسؤولون في مصر التراث ولماذا يسعون لتشويه الجمال! فربما نجد من يجيبنا يومًا.