في كل تجارب التغيير سواء كانت عبر مسار إصلاحي آمن، أو عبر مخاطر المسار الثوري، فإن هناك دائما خطوتان رئيسيتان: الأولي رفض المنظومة القديمة، والثانية بناء المنظومة الجديدة، أو فتح الطريق لبنائها، وبدون إنجاز هاتين المهمتين تصبح أي دعاوى قائمة على اختزال الانجاز في رفض المنظومة القديمة لا قيمة تذكر لها، لأنه بدون الجديد الذي يحقق وضعا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا أفضل مقارنة بما كان علية الحال في ظل المنظومة القديمة، فإن التغيير لن يعتبره الناس دليل نجاح.
والحقيقة إن قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو الماضي كانت خطوة لا بديل عنها لإنقاذ تونس من مخاطر نظام برلماني فشل على المستوى السياسي والاجتماعي والصحي، وعاش على المكايدات الحزبية، ومحاولات حركة النهضة الهيمنة على مؤسسات الدولة، وأسس “لديمقراطية الثرثرة” وليس “ديمقراطية الإنجاز”.
وقد استند الرئيس على الفصل 80 من الدستور التونسي الذي ينص على أن: “رئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب، ولا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة”.
وقد انقسمت النخبة التونسية في تفسيرها لقرارات قيس سعيد فقد اعتبرها البعض مخالفة للدستور الذي لم ينص على تجميد البرلمان، أو توجيه لوم للحكومة لأن الرئيس جمد عمل البرلمان وحل الحكومة، بالمقابل فقد اعتبر البعض الآخر قرارات الرئيس تسند للدستور على اعتبار أن البرلمان والحكومة مثلا “خطرا داهما” مما استوجب تجميد عمل البرلمان وإعفاء الحكومة.
أما على مستوى الشارع، فقد دعم بحماس كبير غالبية الشعب التونسي قرارات الرئيس بعد أن شاهدوا سوء أداء البرلمان والحكومة واعتبروها الخطوة الجراحية الأولى نحو بناء منظومة سياسية جديدة، وانتظر الناس كثيرا من أجل الذهاب إلى الخطوة الثانية التي بدأت بشائرها بتشكيل حكومة خبراء غير حزبية برئاسة الأستاذة الجامعية نجلاء بودن لم تحدث قطيعة كاملة مع الحكومة السابقة فقد ضمت بعض وزرائها المشهود لهم بالكفاءة.
وبصرف النظر عن الجدل القانوني المشروع حول صحة السند الدستوري لإجراءات قيس سعيد الاستثنائية، إلا أنها نالت دعم غالبية أبناء الشعب التونسي وقطاع واسع من النخب السياسية والحزبية، واعتبروها جميعا خطوة لابد منها للوصول لهدف بناء منظومة سياسية جديدة تتجاوز عورات القديمة.
والحقيقة أن أي عملية تغيير تقوم فقط على رفض المنظومة القديمة يكون مصيرها إما الفشل أو التعثر أو البقاء محلك سر. فكثير من تجارب الثورات العربية تعثرت أو فشلت لأسباب لها علاقة بالعجز عن بناء منظومة جديدة، فثورة يناير المصرية على نبل مقاصدها وقيمتها الكبري في التاريخ المعاصر أنتجت حالة احتجاجية أعلنت كل يوم رفضها للنظام القديم وانشغلت “بالفلول” أكثر من انشغالها ببناء بديل للنظام القديم، أو على الأقل بناء مؤسسات سياسية وحزبية قادرة على الحكم والإدارة (وهو نفس الخطأ الذي يتكرر في السودان مع قوى الحرية والتغيير) وهو ما جعل قطاع كبير من الناس ينصرف عن دعمها حين رفعت لواء الاحتجاج لا بناء البديل.
وهناك تجارب أخرى أسفر إسقاط النظام القديم عن حروب أهلية مثل ليبيا واليمن جعلت الناس يترحمون على النظام القديم الذي جلب الاستقرار والأمن، حتى لو كان على حساب الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
والمؤكد أن السياق التونسي يختلف جذريا عن هذه التجارب، إنما هو يتفق في القيمة الإنسانية العامة التي تعرفها تجارب التغيير المعاصرة وهو إنه بدون القدرة على بناء نظام جديد أفضل، فلن تكون خطوة رفض المنظومة القديمة دليل نجاح.
ورغم كثير من الانتقادات التي توجه لقطاع من النخب التونسية، إلا أن البلد ظلت محظوظة بتنوع نخبتها وسلمية أدائها، وتعدد الفاعلين السياسيين والنقابيين، فيكفي أن هناك منظمة مدنية عملاقة مثل الاتحاد التونسي للشغل تؤيد الرئيس وتدعم إجراءاته، ولكن بشرط الحفاظ على مسار الانتقال الديمقراطي وحقوق المواطنين الاجتماعية، ولذا أيد الاتحاد تشكيل الحكومة الجديدة ودعي “لحوار تشاركي” من أجل المستقبل، كما لازال هناك حوار لم ينقطع بين أطياف النخب السياسية التونسية بين مؤيد ومعارض لقرارات الرئيس في مشهد لازال مقبولا وحضاريا رغم عمق الخلاف.
إن المشهد التونسي الحالي بعيد كل البعد عن تجارب الاستبداد، ولازال قريبا من بناء نظام سياسي جديد قادر على الانجاز والبناء.
يحتاج الرئيس أن يبني على خطوة تشكيل الحكومة الجديدة خطوات أخرى حتى ينتقل من مرحلة رفض المنظومة القديمة إلى بناء الجديدة، والنقاش حول التعديلات الدستورية المطلوبة للانتقال نحو نظام رئاسي ديمقراطي تمهيدا لعرضها على الشعب في استفتاء عام، والابتعاد عن أفكار رفض الديمقراطية التمثيلية لصالح نمط مثالي من الديمقراطية الشعبية المباشرة يردده الرئيس ونتائجه ستكون وخيمة على البلاد.
طاقة تونس المدنية والديمقراطية والنقابية ودور المرأة قادرين على أن يقضوا على المخاوف المشروعة من تحول النظم الرئاسية إلى استبدادية، وذلك بجعل بقاء الرئيس في سده الرئاسة مدتين غير قابلتين للتمديد، وعندها ستكون تونس انتقلت إلى “الخطوة الثانية” أي بناء بديل يؤسس لأول تجربة انتقال ديمقراطي عربي ناجح ودولة قانون.