أعادت الاشتباكات التي شهدتها بيروت إلى الأذهان، الذكريات السوداء للحرب الأهلية اللبنانية، خاصة أنّها جرت عند نفس خطوط التماس التي كانت تفصل بين بيروت الغربية حيث توجد منطقة الشياح ذات الأغلبية الشيعية، وبيروت الشرقية حيث تقع منطقة عين الرمانة ذات الأغلبية المارونية.
وقد خلفت هذه الاشتباكات 7 قتلى و32 جريحًا سقطوا عقب إطلاق النار عليهم من قبل قناصة “مجهولين شكلاً” أثناء مشاركتهم في مظاهرة سلمية توجهت نحو القصر العدلي للمطالبة بتنحية القاضي طارق البيطار الذي يحقق في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وعقب قراراه استدعاء شخصيات سياسية وأمنية محسوبة على حزب الله.
والمؤكد أنه من غير المعتاد حتى في إيران أن يُعزل قاضٍ نتيجة مظاهرات الشارع أو بسلاح حزب؛ وهو أمر خارج المنطق وخارج حتى أسس التعايش الهش الذي تعرفها لبنان، ومع ذلك فإنّ مواجهة مطالب مظاهرة سلمية لا تكون بالقنص والرصاص.
المعضلة اللبنانية
معضلة لبنان الأساسية في منظومتها الطائفية التي يتحمل أمراؤها من كل الطوائف مسئولية الحفاظ عليها والاستفادة منها لصالح أحزابهم ومناصريهم، على حساب باقي أفراد الشعب، صحيح أن صيغة التوازن الطائفي أخرجت البلاد من أتون حربٍ أهلية عبر اتفاق الطائف (1989) إلا أنَّها وصلت في السنوات الأخيرة إلى نهايتها بعد أن عرفت البلاد انهيارًا اقتصاديًا وسياسيًا غير مسبوق.
الحراك الشعبي، الذي طالب بتنحية كل الطبقة السياسية وقادة أحزاب الطوائف (كلن يعني كلن) نجح في توصيف العيب ولم ينجح في بناء البديل
والمؤكد أن البديل المدني العلماني الذي بشَّرت به كثير من قوى الحركة الوطنية والتيارات السياسية في لبنان لم ير النور، رغم أنه حصل على دفعة قوية مع الحراك الشعبي، الذي طالب بتنحية كل الطبقة السياسية وقادة أحزاب الطوائف (كلن يعني كلن)، إلا إنه نجح في توصيف العيب ولم ينجح في بناء البديل.
معضلة نظام المحاصصة اللبناني أنه يقوم على الموائمة بين الطوائف، وتلك اعتبرها كثيرون ميزة لأنّها “بردّت الأزمات”، ولكنه أيضًا فتح الباب أمام التسيب والتساهل مع الفساد وسوء الأداء بسبب التوازنات الطائفية الحاكمة، وأصبح هناك في كل وزارة وقطاع، محاسيب “وأزلام” فوق القانون وفوق الدولة، لأنهم محمون من المنظومة الطائفية الحاكمة، وينتمون لمذهب معين، فلا يمكن محاسبتهم من أي شخص أو مؤسسة لا تنتمي لنفس الطائفة أو المذهب، وإلا اعتبر ذلك اعتداء عليها.
وقد تغيرت معادلة توازن الضعف أو توازن القوة التي ضبطت العلاقة بين أحزاب الطوائف لصالح هيمنة عسكرية وأمنية لحزب الله على باقي المكونات والطوائف الأخرى، وأصبح يمارس قمعًا بحق معارضيه، مستغلاً ورقة المقاومة التي كانت.
إذا كان ليس مطلوبًا من حزب الله أن يحارب إسرائيل مثل باقي النظم العربية، فإنّ المطلوب منه أن يتعايش مع الآخرين ويقبل أن يكون جزءًا من معادلة سياسية فيها مكونات وطوائف أخرى.
بلاشك لعب حزب الله دورًا بطوليًا في تحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000، وصحيح أنه لا زال يمثل قوة ردع لإسرائيل تجعلها تفكر أكثر من مرة قبل استباحة لبنان، إلا أنه وظف قوته العسكرية في الداخل اللبناني من أجل الهيمنة الكاملة على المنظومة السياسية/الطائفية، وفي الخارج لدعم الميلشيات الطائفية في العراق أو اليمن أو دعم النظام السوري، ولم يدخل في مواجهة مسلحة مع إسرائيل منذ 2006.
وإذا كان ليس مطلوبًا من حزب الله أن يحارب إسرائيل مثل باقي النظم العربية، فإنّ المطلوب منه أن يتعايش مع الآخرين ويقبل أن يكون جزءًا من معادلة سياسية فيها مكونات وطوائف أخرى.
فوق الطاولة وليس تحتها
الخطاب المزدوج الذي يرفعه حزب الله يحتاج إلى مراجعة جذرية، فجريمة مرفأ بيروت التي راح ضحيتها 218 شخصًا وحوالي 7 آلاف مصاب هناك شبهات قوية بأنه متورط فيها بتخزينه نترات الأمنيوم التي أدت للانفجار، والمطلوب في هذه الحالة عدم اتهام قاضي التحقيق بأنه مسيّس وعميل ومدفوع؛ لأنه استدعى شخصيات محسوبة على الحزب، إنما يجب أن يذهب التحقيق إلى نهايته حتى لو أدان حزب الله، الذي يجب ألا يتعامل مع مرافق الدولة على أنها “ضَيعة خاصة” له ولمناصريه.
الواقع يقول، وكما يشير قادة حزب الله أنفسهم، أن الحزب هو أحد الأدوات الإيرانية في المنطقة، ومع ذلك حين ينتقده أحد يصرخون في وجهه: “أصمت نحن حزب مقاوم”. فالسؤال الذي يجب أن يطرح ما هو موقع حزب يمثل أداة إقليمية لدولة أخرى في داخل كيان هش مثل لبنان، تعبث به إرادات دول أخرى أيضًا، وفي الوقت نفسه أجمعت غالبية الطوائف والأحزاب الأخرى على رفض “النموذج الإيراني”، فكيف يكون التعايش بدون هيمنة أو إقصاء؟
بالمقابل هناك مخاوف شيعية مشروعة من جماعات التطرف والإرهاب السنية التي استهدفتهم في أكثر من مكان، ويكفي أن العراق عاش خطاب الدواعش وأنصارهم على تبرير استهداف الشيعة، كما أن بلدًا مثل أفغانستان شهدت في “جمعتين” متتاليتين استهداف مصليين شيعة، الأولى سقط فيها 50 شهيدًا واليوم سقط 33 شهيدًا، بما يعني أن اعتبار البعض أن نماذج مثل حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق هي مصدر حماية لهم، في مواجهة استهدافهم، وهي جزء من أزمة الأقليات الدينية والمذهبية في العالمين العربي والإسلامي.
إن كل النقاشات والمخاوف التي تقال تحت الطاولة يجب أن تخرج فوقها للعلن بعيدًا عن قمع الناس بورقة المقاومة والممانعة التي هي في الحقيقة تخفي مصالح وأطماع حزبية وسياسية، وتجعل اشتباك الأمس في بيروت يتكرر في الغد.