لازالت الصورة الذهنية للمجتمع المصري عن المرأة الريفية حبيسة معطيات قديمة، تنطلق من واقع لم يعد موجودًا، تَغفَل عن ما طرأ على مجتمع الريف من تغيير جذري في التركيبة الطبقية وأنماط الإنتاج،  وهي صورة تتجاهل أيضًا ما اكتسبن نساء الريف من مهارات وما حصلن عليه من معرفة عبر وسائل مختلفة غزت الريف كما غزت مصر كلها، وما طالهن من تغيير طال المجتمع بأسره. 

بقدر ما تتمتع هذه الصورة بجهل كبير بالظروف الآنية للمرأة الريفية، فإنها مُغلفة بخطاب اجتماعي ورسمي غاية في النفاق – يتسم بالبؤس والركاكة، دائمًا ما يشيد بالنساء الريفيات ودورهن في تربية الأطفال ومساعدة أزواجهن في الزراعة.. إلخ، متجاهلًا مساهمتهن الحقيقية في الاقتصاد، بالقدر الذي يعمى عن جوهر أزماتهن. 

في اليوم العالمي للمرأة الريفية، والذي يوافق اليوم الخامس عشر من أكتوبر، نحاول في هذا التقرير، رسم صورة جديدة عن النساء في الريف المصري تتسق بشكل أكبر مع الواقع.

تغير التركيبة الطبقية

ما إن تُذكر المرأة الريفية حتى يقفز إلى أذهان الغالبية خاصة سكان المدن، صورة قديمة عن امرأة تجلسن أمام الفرن البلدي تصنع الخبز والفطير المشلتت، تجهز الطعام، وتربي الطيور، وتحلب الجاموس والأبقار، لتصنع الجبن والزبد ثم تذهب لبيع منتجاتها في سوق القرية أو القرى المجاورة كل أسبوع، وتشارك زوجها في الحقل في مواسم الزرع والحصاد فضلًا عن تربية أبنائها. وهي امرأة داخل مخيلتهم بالضرورة طيبة “على نياتها” لا تعرف الكثير عن الدنيا ولا تسعى لهذه المعرفة.

غير أن هذه الصورة قد طرأ عليها تغيرات عظيمة، لأسباب عديدة، لدرجة أنها تكاد تتلاشى، وبات الوضع أسوأ.

تقلصت مساحة الأراضي الزراعية القديمة والمعروفة بأراضي الوادي والدلتا، لأسباب عديدة، فانخفضت إلى 5 ملايين فدان،  في المقابل زادت الأراضي الزراعية الجديد (مملوكة لمستثمرين مصريين وأجانب)، في الظهور الصحراوية على طريق الإسكندرية بداية من أبو غارب، وفي منطقة وادي النطرون، وفي الإسماعيلية والصالحية،  وعلى طول طريق أسيوط الغربي ابتداء من الفيوم وبني سويف، من 1.5 مليون فدان عام 2001 إلى نحو 4 ملايين فدان عام 2017 بحسب الكتاب الإحصائي للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2019.

لقد أدى هذا التقلص إلى تقزم شديد للمساحات الزراعية المملوكة للأسر الريفية الفقيرة، والكثير منها أصبح لا يملك شيئًا. نشأ جيل جديد في الريف المصري رجالًا ونساء على هذا الواقع، وأصبحوا أمام أزمة مزدوجة، فلا هم يملكون مساحات من الأراضي الزراعية يُمكنهم إنتاجها من العيش وتربية أبنائهم، ولا حصلوا على قدر لائق من التعليم يتيح لهم العمل في مجالات اقتصادية أخرى. خاصة النساء.

هذا الواقع أحدث تغيرًا جذريًا في التركيبة الطبقية لرجال ونساء الريف، لقد حولهم إلى عمال أجراء (موسميين غالبًا) في الإقطاعيات الجديدة للمستثمرين الزراعيين على أطراف المحافظات، وفي الصناعات المرتبطة بالزراعة مثل مصانع تجفيف وتعبئة التمر ومنتجاته، ومعاصر الزيتون، وتجفيف النباتات الطبية والعطرية وتعبئتها، ومعامل الألبان، وهذه الصناعات نسبة العمالة النسائية فيها أكثر من الرجال.

عاملات زراعيات غير معترف بهن

حَول هذا الوضع أكثر من 3 ملايين امرأة ريفية طبقًا للكتاب الإحصائي للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، إلى عاملات، ليس فقط يعانين ما يعانيه العاملات في القطاع الصناعي بل لم يتم الاعتراف بهن  كعاملات زراعيات أصلًا.

فبحكم المادة 97 من قانون العمل الموحد 12 لسنة 2003، “يستثنى من تطبيق أحكام هذا الفصل العاملات في الزراعة البحتة” والمقصود “بهذا الفصل” هو الفصل الثاني من باب تنظيم العمل، المتعلق بتشغيل النساء وضمان حقوقهن لدى صاحب العمل، فحرم القانون النساء العاملات في الزراعة من حق شمولهن تحت مظلة قانون العمل وبالتالي لم يعد لهن الحق في إقامة أية علاقة تعاقدية مع أصحاب الأعمال، ما يؤدي إلى حرمانهن من الحقوق الاقتصادية والتأمينية. وهو تمييز تشريعي صارخ ضد النساء.

ضعف الأجور

هذا الوضع أحدث تدني كبير في الأجور بالنسبة للنساء مقارنة بالرجال في قطاع العمل الزراعي، وهو تمييز أكبر بكثير مما تعانيه العاملات في القطاع الصناعي.

تقول صفاء (اسم مستعار) 40 عامًا، أم لطفلين، إنها تعمل في جني محصول الزيتون بمزرعة تقع على حدود محافظة بني سويف، يوميتها 70 جنيهًا وهو نصف ما يتقضاه الرجال الذين يعملون بجانبها رغم أن ما تنتجه مساويًا لما ينتجه أقرانها من الرجال.

“صفاء” والتي اضطرت للعمل لضعف دخل زوجها عامل البناء، تلفت إلى أنها رغم العمل في الحصاد بشكل موسمي، إلا أنها تعمل طوال العام لدى نفس الشخص، فهو يملك كما تقول مزارع زيتون، وخضروات ويقوم بزراعة مساحات من البطاطس، ولديه أيضًا مزارع برتقال.

تشاركها الحديث والهم، “دنيا” ذات الـ33 عامًا، والتي تعمل (طوال العام) في تعبئة النباتات العطرية لحساب إحدى شركات التصدير بالفيوم، فيوميتها لم تتعدى الـ50 جنيهًا.

أمراض الواقع الجديد.. انهيار المنظومة القيمية

رغم النسبة الكارثية للنساء اللائي يتعرضن للتحرش في مصر فإن الإحصائيات تشير إلى أن المرأة الريفية ظلت محمية من التحرش بشكل أكبر بكثير من المرأة في المدن، يُرجع علماء اجتماع، هذا، إلى منظومة قيمية لا زال الريف المصري يتمتع بها حتى وإن كانت منظومة هشة ومهلهلة.

صورة نمطيلة للنرأة في الريف

فهل لا زال الوضع بهذه الصورة للمرأة الريفية؟

تروي صفاء ما تتعرض له داخل مزارع الزيتون من مضايقات زملائها من الرجال والمشرفين، والذين حاول بعضهم لمس جسدها في أماكن حساسة، تقول صفاء إنها حذرت أحدهم بإبلاغ زوجها فتراجع خاصة أنه من نفس قريتها، لكنها لا تعرف بماذا تهدد الآخرين.

أسماء أيضًا (اسم مستعار) صاحبة الـ18 عامًا تحكي لنا ما تتعرض له يوميًا خلال عملها بمعصرة زيتون بالقرب من قريتها، فتقول: “كل يوم خناقة مع واحد من العمال علشان بيمد إيده عليا مرة يمسك دراعي ومرة ظهري، اشتكيت للمشرف ما عملشي حاجة، ما اقدرشي أقول لابويا، هيقعدني من الشغل، واحنا محتاجين المرتب، أبويا عنده 5 قراريط بيزرعهم خضار، بس اللي جي مش بيكفي اخواتي الأربعة.

الريف المصري أصبح به نسبة كبيرة من عاملات المصانع، ففتيات ونساء قرى الفيوم يعمل عدد كبير منهن في مصانع الملابس والمواد الغذائية بمدينة 6 أكتوبر، كما تعمل نسبة كبيرة من فتيات قرى الشرقية والمنوفية في مصانع السادات والعاشر من رمضان، وهكذا كل منطقة صناعية تجد في مصانعها نسبة كبيرة من فتيات ونساء ريف المحافظات القريبة منها، وبالطبع يرجع هذا أيضًا إلى نفس الظروف الاقتصادية وإلى تغير التركيبة الطبقية للريف المصري. وهن يعانين كذالك من مشكلات تدني الأجور والتحرش وغيرها من المشكلات، ولكن بشكل أقل بكثير من العاملات الزراعيات، فعاملات المصانع على الأقل قد يتمتعن بعقود عمل ولو سنوية، كما أنهن يصبحن مع الوقت قادرات بنسبة أكبر على صد الاعتداءات الجنسية عليهن بإبلاغ الإدارة وبزيادة وعيهن وتنظيمهن وهو ما ليس متاحًا للعاملات الزراعيات.

التكنولوجيا تضاعف معاناة الريفيات

غزت ثورة وسائل الاتصال،  الريف  المصري كما غزت الشرائح والطبقات الاجتماعية المختلفة، فمن النادر أن تجد فتاة أو سيدة ريفية خاصة من هن دون الأربعين، لا تحمل هاتفًا “اندرويد” وأغلبهن أصبحن يستخدمن منصات التواصل الاجتماعي، تشير إحصائيات شركات المحمول إلى زيادة مستخدمي خطوط المحمول والانترنت في الريف، وإن كان الاستخدام لخدمة “الواتس آب” أكبر من “فيسبوك” و”تويتر”.

  هذا ما لاحظه كاتب هذا السطور من خلال حديثة مع 8 سيدات من ربات البيوت بإحدى القرى، حيث أكد جميعهن استخدام “الواتس آب” بينما قال 4 من نفس المجموعة إنهن يمتلكن حسابات على “فيسبوك”. لا نستطيع أن نعتبر هذا الاستبيان البسيط إحصائية وأن نبني عليها النتائج، لكنها ربما مؤشر بسيط للتوسع في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بين نساء الريف.

استخدام النساء الريفيات، لوسائل التواصل الاجتماعي عرضهن للكثير من المشكلات، تروي عزة (اسم مستعار) 30 عامًا، ما تعرضت له عندما أرسل إليها أحد الأشخاص عبر “الواتس آب” صور إباحية وكيف عاشت في رعب من أن يشاهد زوجها هذه الصور لأنها لم تكن تعرف كيف تقوم بحظره إلى أن دلتها صديقة لها على الطريقة. 

واجه أيضًا سيدات ريفيات تحدثنا إليهن يعملن في تجارة الطيور، مضايقات عبر “واتس آب” أثناء محادثات مع زبائن وتجار من الرجال، كما رصدت وسائل الإعلام حوادث ابتزاز لسيدات ريفيات نتيجة لاستخدامهن لوسائل التواصل الجديدة.

لسنا نقول هنا إنه لا يتعين على الريفيات استخدام وسائل التواصل الجديدة، فهذا الطرح يحمل عنصرية شديدة ضد نساء الريف، ما نريد قوله إنه لا يتاح لنساء الريف سبل النفاذ الصحيح إلى هذه الوسائل والتعرف على  طرق استخدامها، وكيفية حماية أنفسهن من الجرائم الإليكترونية التي تحدث من خلالها.

وهنا نلفت إلى عجز المؤسسات المعنية بالمرأة سواء كانت حكومية أو التابعة لمنظمات المجتمع المدني من التوجه إلى نساء الريف، واقتصار أنشطتهم  على فعاليات شكلية فضلا عن أنها لا تطرق لمثل هذه المشكلات.

المشكلات القديمة لا تزال باقية

أظهرت دراسة أجرتها الدكتورة سلوى العنتري، الخبيرة الاقتصادية، عام 2016، بعنوان “عمل النساء في السوق بدون أجر العمل لدى الأسرة في الاقتصاد غير الرسمي بمصر”، أن العمالة غير مدفوعة الأجر تبلغ نحو 34% من حجم العمالة داخل الاقتصاد غير الرسمي، 80% منها من النسا، وهو نتيجة لنمط الاقتصاد الرأسمالي في مصر والذي ركز الاستثمارات في المشـروعات كثيفة رأس المال وكثيفة الاستخدام للطاقـة، بمـا يتناقـض مـع الخصائـص الرئيسـية للمجتمـع المصري، والذي يتمتع بوفرة الأيدي العاملة، وارتفاع معدلات البطالة.

 إضافة إلى أن تطبيق شروط صندوق النقد الدولي من تقليص التشغيل والاتجاه للخصخصة وتسريح العمال، أدى إلى توسع الاقتصاد غير الرسمي، والذي تتركز فيه ظاهرة العمالة غير مدفوعة الأجر، يمكن هنا أن نطالع تقرير “مصر 360” عن عمالة النساء غير مدفوعة الأجر.

كما تمتلئ وسائل الإعلام المختلفة بعشرات التقارير والقصص عن حرمان المرأة في الريف من حقها الشرعي والقانوني في الميراث، كما أن هناك تقارير كثيرة عن العنف ضد المرأة الريفية، وغيرها من المشكلات.

الصورة التي حاولنا رسمها في هذا التقرير للواقع الجديد للمرأة الريفية، لا تعني أن المشكلات القديمة للمرأة الريفية، كالحرمان من الميراث، وحرمانها من اتخاذ القرار داخل الأسرة، والعنف الأسري ضدها، والعمل دون أجر، وانخفاض نصيبها من التعليم، قد اختفت، ما أردنا قوله إن هذه المشكلات اتخذت أبعادًا مختلفة، وأضيف عليها أشكال جديدة بعضها بني  في الأساس على مشكلاتها القديمة، وبعضها نتيجة تغير واقع الريف المصري والتركيبة الطبقية داخله وثورة الاتصالات التي اجتاحت الريف.