يقال إنك لو أردت اختبار تأثير البيئة على الفروق بين البشر، فلا عليك سوى أن تغلق محبس المياه في شقتك لمدة عشرة أيام أو أسبوعين فقط، حارما نفسك من الوصول السهل إلى المياه النظيفة كما هو حال ملايين البشر، وفي نهاية هذين الأسبوعين، لاحظ تأثير حرمانك من المياه على حياتك الشخصية، على نظافتك، على صحتك، على حالتك المزاجية، على إنجازك في عملك وعلى علاقاتك الاجتماعية. 

ستكتشف أن حرمانك من عنصر واحد من عناصر الحياة، حتى في ظل توفر العناصر الأخرى كالغذاء والسكن والمال، هو أمر كفيل بإنتاج تأثيرات شديدة السلبية على حياتك، تأثيرات تشعر بها حتى لو انقطعت المياه  ليوم واحد فقط، ومن ثم، فإن إصدار الأحكام على الآخرين، ممن يعيشون ظروفا معيشية صعبة، لا ينبغي أن يتم بدون دراسة تأثير تلك الظروف عليهم، بل وتراكمها عبر السنوات، بما ينتهي بشخصين اختلفت ظروفهما، إلى مكانين مختلفين تماما بعد عدة سنوات. 

لم أستطع منع نفسي من التفكير فيما سبق، وأنا أشاهد كغيري صور وبيانات الازدحام الهائل في الفصول مع بداية العام الدراسي الجديد، متسائلا مع المتسائلين؛ أي تعليم يمكن أن يحصل عليه هؤلاء المكدسون في الفصول، وأي مهمة مستحيلة تنتظر المدرس الذي يتولى المهمتين، التعليمية والتربوية، في ظل زحام يليق بمحطة حافلات لا بفصل دراسي.

كانت كلمة الازدحام المدرسي في الأيام التي كنت فيها طفلا بالمدرسة، قبل ثلاثة عقود، تعني أن يزيد عدد التلاميذ عن 60 أو 70 تلميذا في الفصل الواحد، وكانت هذه الأرقام تعد هائلة وعقبة حقيقية أمام العملية التعليمية، وكنت أسمع وأقرأ في كل عام عن بناء المدارس الجديدة لاستيعاب الزيادة السكانية التي ظننت ساذجا أنها ستبقي نسبة ازدحام الفصول في نفس المعدّل، طالما أننا نلاحق الزيادة بالإنشاءات، إلى أن فوجئت أننا، رغم بدء مشاريع التابلت و”تطوير التعليم”، إزاء فصول يزيد فيها عدد الأطفال عن 100 طفل! وأقول كلمة “طفل” لا “تلميذ” لأنه لا  يمكن تصوّر أن تتم أي “تلمذة” في ظل هذا “الحشر”، وحتى لو كانت المناهج رائعة ومتطورة، والمدرسون على أعلى مستوى، والتكنولوجيا فائقة السرعة، فإن ذلك الطفل الجالس في الفصل، بين أكثر من مئة أو مئة وعشرين طفلا آخرين، لا يكمن أن يتم عملية التواصل المطلوب مع معلمه، ولا يمكن للمعلم أن يحفظ أسماء أطفال الفصل.

ومن المؤكد، إنه ليس من الممكن أن يطرح نصف هؤلاء الأطفال أسئلتهم على المعلم، لأن هذا سيستغرق اليوم الدراسي بأكلمه، إنها تجربة تعليمية شبه مستحيلة، تفتقر إلى عنصر الانتباه اللازم للتعلم، تماما كما يفتقر  الانسان إلى عنصر أساسي إذا أغلق محبس المياه، والفارق أن “تجربة الماء” تستمر أسبوعين، أما ازدحام الفصل فيستمر لسنوات، وفي نهايته يكون الطفل شخصا مختلفا تماما عن زميله الذي نشأ في مدرسة آدمية، فليس عجيبا أن نرى طلبة في الثانوي والجامعة لا يعرفون كتابة جملة سليمة أوشبه سليمة.

والمشكلة في الكتابة هي مجرد تعبير عن مشاكل أكبر في التفكير، لقد رأينا – مثلا –  تعليقات الناس على حادثة حريق أحد مسارح حريق الجونة، وكيف انقسمت بين الشماتة في الفن والفنانين، أو  الاعتقاد أن الحسد هو سبب الحريق. إن تلك هي بالضبط تعليقات أناس قضوا عمرهم التعليمي في وسط زحام لا يّسمع فيه شيء، ولا أقصد – للأسف- أن ثمة مناهج لو كانوا انتبهوا إليها لكانوا ابتعدوا عن الخرافات أو الشماتة، بل أقصد أن أساسيات تعليمية لم يحصلوا عليها قد منعتهم من تحصيل أي مستوى ثقافي فيما بعد. وكيف يمكن لهم ذلك، إذا كان منهاج الوزارة هو ربط تسلم الكتب بدفع المصروفات، وكأن التعليم – حتى الأساسي منه – سلعة أو مكافأة، وكأن هؤلاء الذين لن يحصلوا على تعليم جيد، سوف يختفون من الوجود ولن يتحولوا إلى حرائق في كل مكان.