أمام عشرات الكاميرات، صعد الفنان أحمد السقا على مسرح الجونة، ليتسلم تكريم “الإنجاز الإبداعي”. في افتتاح الدورة الخامسة من المهرجان، ويُلقي بضع عبارات عفوية أثارت غضب الكثيرين.

تحدث الممثل الأكثر “جدعنة” بين أبناء جيله، كما يصفوه، حول تاريخ السينما المصرية. وصفها بأنها “كانت مخنوقة” منذ نكسة 1967، وحتى سيادة أفلام المضحكين الجُدد في نهاية التسعينات. والتي بدأت بفيلم “إسماعيلية رايح جاي”.

 

 

ورطة الارتجال

أثار حديث أبرز ممثلي الأكشن المصريين غضبًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي. حيث سارع روادها بتناقل منشور طويل. يضم مجموعة كبيرة من الأفلام، التي تم إنتاجها خلال عقدي السبعينات والثمانينات. والتي تم تصنيفها ضمن أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية.

دفعت موجة الغضب السقا للتراجع سريعًا عن حديثه الارتجالي، في المؤتمر الصحفي الذي قدّمه مدير المهرجان انتشال التميمي. قال: “لم أقصد أن ألغي تاريخ السينما ما قبل “إسماعيلية رايح جاي”، ما كنت أقصده التقنيات وظروف العرض كانت مخنوقة، وأن الأفلام خلال فترة 1967 وما بعدها لم تأخذ حقها بسبب ظروف الحرب”.

وأضاف: “لم أنتقص من الصناعة ولا أجرؤ على ذلك. فما أقصده أن الإمكانيات المتاحة كانت أقل من قدرات النجوم. واعتذر إذا تم فهم كلامي بطريقة خاطئة”.

 

السقا في المؤتمر الصحفي بعد التكريم

هبوط السبعينات

لم يلتفت السقا إلى عقود من المحاولات في عبارته الارتجالية. فقد وصف أستاذ السيناريو والمخرج الراحل محمد كامل القليوبي، سينما السبعينيات، في أحد دراساته، بأنها “شكّلت الموجة الأكثر هبوطًا في تاريخ السينما المصرية”. حيث شهدت إنتاج غزير، دون الاهتمام بجودة العمل.

أرجع القليوبي هذا الإغراق السينمائي للأموال المتدفقة مجهولة المصدر، والتي استخدم جزء كبير منها في عمليات غسيل أموال، كنتيجة لثلاثة مصادر للثروة غير المشروعة في مصر. وهي، وفق مركز البحوث الاجتماعية، تجارة الآثار، والسلاح، والمخدرات.

وسواء قبل أو فى أعقاب الحرب، اشتهر الكثير من الأفلام التى يصفها البعض بـ”الخفيفة”، والتى ساد الجنس والعرى أغلبها؛ كان أشهر هذه الأفلام على الإطلاق “سيدة الأقمار السوداء” من إنتاج 1971 وإخراج سمير خوري. وهو نفسه مخرج “ذئاب لا تأكل اللحم” من إنتاج 1973، والذي صدمت بطلته ناهد شريف الكثير من جمهورها بظهورها عارية الصدر.

في الفترة نفسها، كانت السندريلا الراحلة سعاد حسنى تجمع ما بين الإثارة والجمال، فتربعت على عرش السينما المصرية دون منازع.

 

سيدة الأقمار السوداء من أجرأ الأفلام التي شارك فيها مصريون

 

إعادة إنتاج

شهدت السبعينيات كذلك منافسة بين أفلام مأخوذة عن أعمال أدبية شهيرة، منها “ثرثرة فوق النيل” من إنتاج 1971 عن قصة وسيناريو نجيب محفوظ وإخراج حسين كمال. والذي أخرج أيضًا فيلم “أنف وثلاث عيون” 1972 عن قصة إحسان عبد القدوس، وحصل على جائزة الإخراج في المهرجان القومي للسينما.

كان القاسم المشترك في هذه الأفلام، عكس الصراع الطبقي بين المجتمع الخارج من الأحلام الناصرية. ومجتمع آخر يسعى السادات إلى بنائه ليندمج مع الغرب في مواجهة الأصولية والتيارات المتطرفة النابعة التي حاولت زعزعة عرشه.

في الفترة نفسها، اكتسبت ما وصفها بعض أنصار التيار الناصري بـ “الرأسمالية الطفيلية” ملامح أكثر شراسة، انعكست على الإنتاج السينمائي. لتتم إعادة إنتاج الأعمال الميلودرامية القديمة بنفس موضوعاتها ولكن بالألوان هذه المرة. مثل حسن الإمام الذي أخرج “وبالوالدين إحسانًا” 1976، وهو نفسه فيلم “غضب الوالدين” من إنتاج عام 1952. والمخرج أحمد ضياء الدين أعاد إخراج فيلم هنري بركات “ارحم دموعي” 1954 تحت عنوان “عاشق الروح” عام 1973.

 

مشهد من فيلم “ثرثرة فوق النيل”

ضد ناصر

على الصورة السياسية، استبدل كُتّاب السيناريو بأشرار الأربعينيات، ذوي الروب الحريري والسيجار الضخم والضحكات الرخيصة. مراكز القوى في عهد الرئيس عبد الناصر.

وبعد نصر أكتوبر، انفجرت موجة من الأفلام التي انتقدت عصر الرئيس الراحل، مثل “الكرنك” 1975 من قصة نجيب محفوظ وسيناريو ممدوح الليثي وإخراج على بدرخان. و”احنا بتوع الأتوبيس” 1979 من إخراج حسين كمال، عن قصة حقيقية نشرت في كتاب “حوار خلف الأسوار”.

هناك أفلام أخرى ناقشت القضية نفسها، مثل “طائر الليل الحزين” من إخراج يحيى العلمي. و”امرأة من زجاج” 1977 من إخراج نادر جلال، و”أسياد وعبيد” 1978 من إخراج على رضا و”وراء الشمس” من إخراج محمد راضي.

 

 

أحلام الثمانينات ممزوجة بالأعباء

شهدت الثمانينيات أول موجة تغيير حقيقية في السينما المصرية. حملت اسم “الواقعية الجديدة”، لجيل من المخرجين امتلأ بأحلام ممزوجة بالأعباء والانكسارات والانتصارات على المستويين الاجتماعي والسينمائي.

في تلك الحقبة عرف الجمهور داود عبد السيد، ومحمد خان، وعاطف الطيب، وخيري بشارة، ورأفت الميهي. اتخذ هؤلاء طريقهم، مُحدثين ثورة ليس فقط على مستوى السرد والموضوعات وكسر التابوهات، ولكن كذلك على مستوى تقني منهجي.

هكذا شاهد الجمهور عادل إمام بعيدا عن الكوميديا في فيلم “الحريف” 1983 على يد محمد خان. وعاد الأدب للامتزاج مع السينما في “الطوق والإسورة” 1986 المأخوذ عن قصة الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله وكتب له السيناريو والحوار الشاعر عبد الرحمن الأبنودي. وترك أحمد زكي شادر السمك ليصير “منتصر” في “الهروب” 1988.

الفنتازيا والخوارق

شكّلت سينما الفنتازيا مشروع المخرج رأفت الميهى بأكمله. فأحب الجمهور فيلمه الأشهر “الأفوكاتو” 1983، واستمتع بما هو مُخالف للطبيعة في فيلمين أخرجهما في نهاية العقد نفسه وهما “سمك لبن تمر هندي” و”سيداتى آنساتي” 1988. وكلاهما من بطولة الساحر محمود عبد العزيز.

وشهد عقد الثمانينيات أيضًا توجهًا مُحاكيًا للسينما الغربية. تمثل في محاولات صناعة الأفلام الغرائبية، والتطرق إلى عوالم الخوارق والغيبيات في بعض الأفلام. واهتم بعض أصحاب التجارب السينمائية بتناول الموضوعات التي تتصل بعوالم ما وراء الطبيعة. مثل الأرواح والجن، من خلال أساليب متباينة.

هكذا ظهرت محاولات مثل فيلم “أنياب” 1981، وهو فيلم نادر يجمع بين الرعب والموسيقى، من تأليف وإخراج محمد شبل، وبطولة على الحجار، ومنى جبر، وأحمد عدوية. و”الإنس والجن” 1985 من إخراج محمد راضي.

 

سينما المقاولات

الحقبة نفسها ظهرت فيها “سينما المقاولات” التي نتجت عن هجرة الكثير من المصريين إلى دول الخليج العربي للعمل. وهي الفترة التي ظهرت فيها شركات توظيف الأموال والسمسرة.

مع صعود طبقة أصحاب الحرف الأدنى اجتماعيًا مع عودتهم من الخليج، ظهر منتجون جدد على الساحة يصنعون أفلامًا لديها هدف وحيد هو “تمرير الوقت”، من خلال تقديم ترفيه لا يزعج أحد ولا يقول شيئًا. وربما امتلأ بالتهريج والإسفاف كما قال بعض النقاد.

هذه الموجة ظهرت مثيلاتها في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك بعد هزيمة يونيو 1967. وتميزت بدورة رأسمال سريعة، من أجل توفير الأموال اللازمة لصناعة الأفلام، واعتمد منتجوها على الأسماء المغمورة، أو الاستعانة بمن هم خارج المجال أساسًا، وكان مخرجو هذه الأفلام لا يفهمون شيئًا عن الإخراج إلا بما يخدم الخلطة المقدمة.

وكان امتلاك هؤلاء لأغلب أموال الساحة السينمائية، قد دفع بعض الممثلين للانخراط فيها. مثل سعيد صالح ويونس شلبي.

 

مشهد من فيلم “إسماعيلية رايح جاي”

السينما النظيفة

شهد العقد الأخير من القرن العشرين مولد جيل جديد من الممثلين الشباب، الذين حاولوا إثبات وجودهم على الساحة. ما جعل المنتجين يبحثون عن تركيبة فنية جديدة تتلاءم مع تغييرات السوق.

في تلك الفترة، برزت موجة “المُضحكين الجُدد” كما أطلق عليهم النقاد، والتي بدأت بفيلم “إسماعلية رايح جاي” 1997، واستمرت كمرحلة أساسية في تحول السينما المصرية، التي تحدث عنها السقا على منصة تكريمه بمهرجان الجونة.

شهدت تلك الفترة انطلاقة لجيل جديد من أبطال حصدوا إيرادات شباك التذاكر، كان أغلبهم يظهر في أدوار هامشية. على رأسهم محمد هنيدي والراحل علاء ولى الدين وأحمد آدم. إلى جوار هؤلاء ظهرت نجمات أخريات، مثل منى زكى وغادة عادل. الفترة نفسها شهدت صعود نجوم بعيدين عن الكوميديا، مثل كريم عبد العزيز وأحمد السقا.

وبالرغم من نجاح تلك النوعية من الأفلام جماهيريًا، إلا أن جودتها وعمقها السينمائي ظلا محل نقاش. حيث تجنبت تناول القضايا الاجتماعية، ورافقها مصطلح “السينما النظيفة”، حيث اعتمدت موجة الأفلام الجديدة صعود التيار الاجتماعي المحافظ، وتناول موضوعات تصلح للعرض على جميع أفراد الأسرة دون المخاطرة بوجود مشاهد جنسية صريحة.