يمثل التمتع بحقوق الإنسان بأنواعها المختلفة متمثلة بشكل رئيسي في مجموعة الحقوق المدنية والسياسية ومجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما تتضمنه المجموعتان من عناصر مختلفة وأنواع متفرقة من الحقوق، لكن في واقع الأمر تمثل كل تلك الأنواع مسألة مترابطة، فعلى سبيل المثال، كثيراً ما يكون من الأصعب على الأفراد الذين لا يستطيعون القراءة والكتابة أن يشاركوا في نشاط سياسي أو أن يمارسوا حريتهم في التعبير.

وبالمثل، يكون من الأقل احتمالاً أن تحدث مجاعات عندما يكون بوسع الأفراد أن يمارسوا حقوقهم السياسية، مثل الحق في التصويت. وبناء على ذلك، فإن فئات الحقوق مثل “الحقوق المدنية والسياسية” أو “الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، عند تمحيصها بدقة، لا يكون لها معنى كبير. ولهذا السبب، فإن من الشائع على نحو متزايد الإشارة إلى الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

لكن جاءت الاتفاقيات والمواثيق الدولية لهاتين المجموعتين من الحقوق بصيغة مختلفة حين النص على كلا منهما، فتجد عند النص على مجموعة الحقوق المدنية والسياسية تأتي النصوص بصيغة الإلزام أو شبه الإلزام، إذ تجد معظم نصوصه تدور بين ألفاظ لا يجوز للدول، أو تتعهد الدول، أو لكل فرد الحق في..

ولكن تدور معظم نصوص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ما بين تتعهد الدول، وأن تكفل الدول، أو أن تقر الدول بالحق في الوصول إلى. وهذه الصيغة المختلفة لا توحي بالإلزام بشكل قاطع الدلالة على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الرغم من ضروريتها للحياة.

ومن الملفت للنظر أن تكون الصياغة في الدستور على ذات المنوال، وعلى سبيل المثال في الدستور المصري الأخير نصت المادة 17 على أن تكفل الدولة خدمات التأمين الاجتماعي، وتعمل على توفير معاش مناسب، والمادة 18 قالت على أن تكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية، ثم جاءت المادة 19 بعد أن نصت على إلزامية التعليم فقالت “تكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية”.

 

الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

فكيف يمكننا التبرير لهذه السياقات المختلفة في معالجة نوعي الحقوق حين الصياغة عليها، فإذا كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يُنظر إليها على أنها تتطلب مستويات مرتفعة من الاستثمارات، بينما يقال إن الحقوق المدنية والسياسية تتطلب ببساطة من الدول الامتناع عن التدخل في الحريات الفردية. صحيح أن كثيراً من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتطلب أحياناً مستويات مرتفعة من الاستثمار – المالي والبشري على السواء – لضمان التمتع الكامل بها.

بيد أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تتطلب أيضاً من الدولة الامتناع عن التدخل في الحريات الفردية، مثل الحريات النقابية أو الحق في البحث عن عمل يختاره المرء بنفسه. وبالمثل، فإن الحقوق المدنية والسياسية، وإن كانت تتضمن حريات فردية، تتطلب هي الأخرى استثمارات من أجل الإعمال الكامل لها. وعلى سبيل المثال، فإن الحقوق المدنية والسياسية تتطلب هياكل أساسية مثل شبكة محاكم تؤدي مهامها، وسجون تحترم الحد الأدنى من الأوضاع المعيشية للسجناء، وتوفير المعونة القانونية، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وما إلى ذلك.

إذن لماذا تتعمد النصوص النظر حين المعالجة اللفظية أو النصية على هذه الطريقة من اللغة التي لا تحمل في غالبيتها إلزاماً يقع على عاتق الدولة، ذلك على الرغم من أن تمثّل حزمة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مصدراً للحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية للبشر عموماً. فهي تقوم على توفير المتطلبات الأساسية كالغذاء والتعليم والصحة والسكن المناسب والحصول على الخدمات وحماية الأسرة والمساهمة في الحياة الثقافية. وهذا ما يجعلها من أهم حقوق الإنسان، نظراً لكونها تلبّي احتياجات حيوية لا بد منها في حياة الإنسان تمنحه الطمأنينة والاستقرار كي يصبح قادراً على المساهمة في حركة التنمية والتطوير. كما أن تلك الحقوق تشكّل في الواقع منطلقاً أساسياً للحقوق المدنية والسياسية حيث لا يمكن للإنسان أن يمارس حقوقه السياسية وهو يعاني البطالة والفقر والتشرد والجهل والمرض.

الحقوق الاقتصادية للمواطنين

لكن هل تكون تلك الصياغة المفتوحة في النصوص بمثابة ما يعفي السلطات من أي إلزام قانوني نحو تحقيق مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على مستوى عال لجميع الأفراد؟ أم أن النصوص ذاتها بحاجة إلى تحديث في الصياغة اللغوية بما يتناسب مع ضرورة تلك الحقوق، بل وحتميتها لكافة المواطنين؟

أرى أن تلك الإشكالية الفكرية لابد من معالجتها على مستويات مختلفة، حيث يجب إعادة النظر في كيفية صياغة النصوص التي تعالج تلك المجموعة من الحقوق من زوية مبدئية، ولكن الأمر لا يقف عند ذلك الحد، إذ أن مجموعة تلك الحقوق ما هي إلا حالة يومية لحياة المواطنين في صورها المختلفة وأنواعها المتباينة ظاهريا والمرتبطة بعضها البعض في صيرورتها الواقعية، ذلك إذ إن ضمان وجود مستوى معيشة إنساني ومقبول لجميع الأفراد في الدولة و الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة يفترض أن تصل إلى كل شخص يعيش داخل الدولة أي كل من يدير حياته في دولة دون علاقة بمكانته الاجتماعية.

تتعلق الحقوق الاجتماعية بالخدمات الاجتماعية التي تمنحها الدولة للذين يعيشون فيها: خدمات تربية وتعليم، خدمات في مجال الصحة وخدمات في مجال الرفاه، كما أنه من ناحية الحقوق الاقتصادية فإنها تحقق للأفراد العمل المغني عن البطالة، ومستوى دخل يمنعه عن الاحتياج.

وبعيداً عن النصوص الحقوقية أو الدستورية ومدى حاجتها للتعديل لتقارب بعض الصيغ الإلزامية، إلا أن مجموعة الحقوق الاقتصادية تدق قيمتها في الوقت الراهن حال اكتساح حالة السعار العالمي والتكالب الرأسمالي بحثاً فقط عن تحقيق الربح، ومن هنا تبدو القيمة الحقيقية لإعمال الدولة سلطتها لتفعيل تلك النصوص وإنفاذ قدرتها في حماية مجموعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وأخص منها في مجتمعنا ومجتمعاتنا الشرقية الحق في التعليم والصحة والغذاء والمسكن الملائم، إذ يبدو دور الدولة في تخفيف العبء عن المواطنين، وكذلك تبدو قيمتها في تحقيق مصلحة المجتمع في الرقي بالتعليم والصحة لكونهما يعودان على المجتمع بالنفع العام.