سيقولون لك: “ده أنت طيب قوي” في إشارة إلى عدم فهمك لموقف ما أو لانخداعك في طبيعة شخص ما.. أو لسوء اختيارك صديق أو لتقربك من إحدى الفتيات، وهي كلمة يبدأ بها – الناصح النبيه – كلماته التي سيعقبها بمزيد من التوضيحات التي تثبت أنك “طيب غلبان” على الرغم من أنه لا توجد علاقة بين صفة الطيبة وفعل الغباء.. فلماذا لا يقال “ده أنت غبى قوى”؟
حسنا، إذا كان هناك ارتباط شرطي بين صفة الطيبة وصفة أخرى تتعلق بطريقة التفكير والفهم فستكون الطيبة مرتبطة ارتباطا شرطيا أبديا بصفة الذكاء.
فالطيبون أذكياء، كلهم كذلك.. حقيقة علمية
الطيب رقم 1: مصطفى بطاطا
” أحلى من ترافع في المحاكم” هكذا يصف نفسه واضعا يده في جيبي بنطلونه أمام حسن أرابيسك.. فلا تعرف هل هو يسخر من نفسه أم يثق في نفسه بمنتهى الإخلاص أم يقصد بكل بساطة أن حلاوته في شطارته التي لم ينكرها حسن مطلقا ولا في أي رد على سؤال آخرين له “أنت ازاي مآمن لمصطفى بطاطا ده وممسكه قضيتين كبار؟ واحدة جنايات والتانية قسمة” فيرد عليهم واصفا بطاطا قائلا: “عشان طيب وبيفهم في القانون كويس هو آه مبهدل ومهيف نفسه.. بس عنده ميزة مش موجودة كتير الأيام دي، عنده ضمير”.
فهو أحلى من ترافع في المحاكم لأن عنده ضمير.. هكذا إذن.
هو حقا “مبهدل في نفسه” يدخل الورشة على حسن مطالبا إياه: “ابعت هات لي أكل من عند ضبة واتنين كيلو عنب بناتي”، هذه هي نقطة ضعفه –الأكل– وهي أيضا أتعابه التي قدرها كمحام.. بينما أحيانا يرضى بعشرين جنيه نقدا.. يخرج من جيوبه أمام الزبائن “علف” ما ويطعم الكتاكيت في كرتونة موضوعة على مكتبه الذي يستقبل فيه الزبائن.. يتعرض للتقليل من شأنه والفصال في الأتعاب هذا إذا وثق فيه أحد وجاءه بقضية يوما ما..
وحده حسن يثق فيه، لأنه يعرف حقيقته، وعلى الرغم من ذلك “يغلس” عليه أحيانا أو يمسك في رقبته فيستعطفه بطاطا: “سيب الكرافتة.. قماشها شايط وهتتفزر فى إيدك” يفلته حسن ليعرف أن مصطفى لن يتحدث ويخبره عن آخر تطورات قضية ابنه ومنصور الدُكش حتى يحصل على أتعابه مقدما والتي هي بالطبع أكلة سمين من عند ضبة.
ينفجر يوما مغتاظا بعدما شاكسه حسن كالمعتاد “أنا محامىي غصب عنك.. أنا كنت جايب جيد جدا، وجه لي تعيين في النيابة، بس فضَّلت أدافع عن الغلابة والمهمشين اللي مش قادرين يدفعوا فلوس للمحامين الكبار اللي مكاتبهم حلوة وفيها سكرتارية”.
هو يعرف أنه يحارب ويدرك تماما أنه طيب في زمن لا تنفع فيه الطيبة.. يصمد كثيرا ويدافع عن الغلابة حقا، حتى إن جارته تصطدم بأحد زبائنه من هؤلاء الغلابة الذين لم يستطيعوا أن يدفعوا مقابلا ماديا لبطاطا ولا حتى أكلة سمين كما يفعل حسن.. بل وطالبه الزبون –الأب- أن يعطيه أي فلوس ليشتري طعاما له ولأطفاله.. تسمع الزبون الذي أخذ “فلوس” من بطاطا وهو جالسا يأكل هو وأبناؤه يدعون له “ربنا يخليك يا أستاذ بطاطا ويكرمك”.. فتحب مصطفى وتتزوجه وتحاول أن تغير من مظهره ومكتبه فينصاع لها مؤقتا تحت سطوة حبها ثم يعود مرة أخرى للكتاكيت والبدلة الزرقاء والكرافتة الشائط قماشها.
بطاطا نموذج للمحامي الطيب الذكي والشاطر والذي يكره نظرة الاستخفاف في عيون الزبائن والجيران.. وطيبته لا تمنعه من رؤية الواقع ورؤية نقاط ضعف الخصم وإدارة قضايا حسن بحنكة وإخراجه من قضية قتل وإعادة ابنه له وإخراجه من عدة مواقف قانونية أخرى هو وحسنى أخوه.. طيبته ليست ضد ذكائه، بل جعلته يرى أكثر، يرتفع فوق الناس ويرى خبثهم وشرهم على حقيقته، ويعرف دروب الخصوم وطرقهم الملتوية فيُجيد ملاعبتهم وهزيمتهم.. لا ينخدع فهو ليس غبيا.
طيب قوي، إذ يدرك أنه يحارب قوى أكبر منه وعلى الرغم من ذلك لا يكف عن طيبته.
الطيب رقم 2 : بطوط
على الرغم من ثراء عم دهب ومثالية ميكي وحظ محظوظ إلا أن بطوط بطيبته بل وفوضويته تربع على عرش قلوب الأطفال ثم الكبار.. هو الشخص المتوازن، ليس منضبطا كميكى ولا في ذكائه وكذلك فهو أيضا ليس شريرا، كل صفاته السلبية تنحصر في كسله وفوضويته، يكره العمل على الرغم من إغراء دهب له دائما بأمواله ليجعله يعمل من أجل سوسو ولولو وتوتو أبناء أخيه.. يعمل احيانا في خزانة أموال عم دهب.. لا يبهره المال ليسرقه ولا حتى ليقتنيه ولا ليعمل من أجله.. يتراجع سريعا عن فكرة العمل ويفضل النوم على كنبته الأثيرة.. يُرضي بداخل كل منا الجانب الكسول “المأنتخ”.. يغار من محظوظ الذي دائما ما يتعثر في صدفة جميلة أو مال أو حب بلا مجهود، بينما بطوط يعاني ليلفت نظر زيزي إليه والتي أحيانا ما تتجاوب إذا ما انضبط في عمل أو اهتم بأبناء أخيه وسرعان ما يخذلها بانطوائه وتراجعه إلى كنبته نومه والمزيد من الرضا عن النفس.
بطوط يحارب إغراءات دهب، بل يحارب نفسه التواقة لزيزي، يحارب غيرته من محظوظ وشطارة ميكي المستفزة.. يفشل في أن يكون شخصا مثلما يريدونه هم –دهب وزيزي وأبناء أخيه– إلا أنه ينجح في أن يتغلب على ميكي بحب الأطفال له.. ربما لأنه يخطئ، ولأنه يبدو طبيعيا بهذه الأخطاء ولأنه يصمد بطيبته الخاصة.
الطيب رقم 3 : أبو نيمو
الفيلم يحمل اسم البطل نيمو “وليس أباه، ولكنني أعتقد أن أبو نيمو هو البط . كذلك اعتقد نيمو نفسه.
طيب ولكنه عكس بطاطا وبطوط لا يحارب شيئا، ضعيف، يخشى من لسعة شعاب مرجانية على الرغم من أنه يعيش بينها.. يخشى على ابنه من العالم الخارجى.. مما يجعله يؤخر ذهابه إلى المدرسة عاما ولا يجد مانع من تأجيله للأبد.. هو طيب لكنه ضعيف.
في رحلة بحثة عن نيمو يواجه ضعفه ويهزمه لكنه يبقى أبا طيبا، يجتاز ظلمات المحيط مع دوري فاقدة الذاكرة المؤقتة –هى أيضا بطلة تدفعه كلما خبا حماسه– تجذبه من يده مترنمة “عوم و اتمختر.. عوم واتمختر” يواجهان أسماك قرش تحاول أن تتحول لقروش نباتية وتفشل وتهاجمهما، يجتاز معها سربا كبيرا من قناديل البحر، ثم يسافر مع السلاحف البحرية عبر تيار أستراليا الشرقي على صدفة “كراوات”.. ثم يتوجه إلى ميناء سيدنى في فم أحد الحيتان.. يتعلم أن طيبته ليست مصدر ضعف كما كان يظن، وأن العالم ليس دائما به أسماك متوحشة تأكل الأسماك الأصغر.
أبو نيمو الذي كان يفكر 100 مرة قبل أن يخرج من شقائق النعمان إلى مدرسة نيمو.. وينظر يمينا ويسارا يجد نفسه في عرض المحيط يبحث عن ابنه.. نعم حركته عاطفة الأبوة والمسئولية تجاهه لكنه اكتشف أنه كان يبحث عن نفسه وعن راحته وثقته في العالم بعد فقد زوجته.. بالطبع هي كلمة مستهلكة دائما “البحث عن الذات” لكن هذا ما حدث مع أبو نيمو.. أدرك أن طيبته ليست ضعفا.
الطيب رقم 4: سيد عبد الوهاب
كثيرون لن يعرفوا الاسم حتى من عشق الشخصية لن يتذكر سوى اسم “أبو أمينة “في فيلم “إنذار بالطاعة”.. يظل طوال ساعتين – وقت الفيلم – وطوال أزمة إبراهيم مع ابنته أمينة وخلال جلسات القضية ذلك الرجل الضعيف الذي يأتمر بكلام زوجته “أبلة اعتدال” كما يناديها حسن خطيب أمينة الغنى والتي تفضله أمها على إبراهيم “الكحيان” ينصاع سيد لاعتدال.. يراها تضرب أمينة فيصمت.. يعود إلى البيت حاملا في يده أكياس الفاكهة، يوزع ابتساماته على بناته، يختص أمينة بطبطة زائدة على ظهرها وهو يضحك لها وحدها.
بالرغم من تأكدها من حبه إلا أنها تشك في قوتهن تخبرها صديقتها: “أبوكي طيب يا أمينة”، ترد عليها بمرارة: “طيب واللا ضعيف؟” أمينة تبحث عن منقذ لها من حسن خطيبها المتحرش، ومن تسلط وطمع أمها.. تستجدي قوة في أبيها تنسى أنها استسلمت لضعفها هي ولم تقاوم كما يخبرها إبراهيم في مرة.
يُصدم سيد في ابنته أثناء جلسات المحاكمة التي يعرف فيها أن ابنته حبيبة قلبه والأقرب إليه على علاقة جنسية بإبراهيم.. يكتفي بالصمت وبالجرح وحيدا.. يأخذها يوما إلى كورنيش النيل ليتحدثا ولينفجر بهدوء: “قاعد باسمع غرامياتك ع الكورنيش واللى يشوفنا يقول بينا غراميات.. لو تاويتك بالموت الناس هتقول عليا راجل.. طول عمرى باشوفك غير إخواتك، سبحان من صبرني وأنا قاعد باسمعك، عمرك شفتي أب بيسمع بنته وهى بتقول أنا نمت مع فلان، مشيت مع فلان أنا وسخت شرفك ودفنتك بالحيا؟
“لو مجنون وسمعت منك اللي سمعته كنت عقلت ولو عاقل كنت اتجننت.. بالك الناس دي كلها بتقول عليا إيه دلوقت؟ بتقول قاعدين نقول كلام حب لبعض”.. يمد يده إليها بكوب حمص الشام ويقول لها “اشربى.. خايفة مني؟ يا بت ما تخافيش أنا ما أقدرش أأذيكي “.
طيبته هي التي منعته عن قتل ابنته، وهي التي جعلته يفكر بهدوء إذ إنه يفاجئ أمينة بتحوله لصالحها في آخر أحداث الفيلم.. يصمد أمام تهديدات الأم بترك البيت إذا زوّجها من إبراهيم.. يذهب لحسن فاسخا الخطبة ويأتي بالمأذون ويكتب كتاب ابنته بينما تخرج الأم في نفس اللحظة حاملة حقيبة ملابسها وتنظر إليهم جميعا ثم تتجه لباب الشقة.. يبتسم سيد لإبراهيم.. طيبته هي التي انتصرت لأمينة ولحبها وتداركت خطأها، الطيبة قوة منحته القدرة على التسامح والحرب من أجل إسعادها.. الطيبة قوة مش ضعف، وهو ما أدركته أمينة في النهاية.
الطيب رقم 5: السيد أبو العلا البشرى
هو أصل الطيبة الخالصة.. المنبع “البيور” للصمود والقوة ومحاربة طواحين هوائه الخاص.. أولاد الست نعمة وعلى رأسهم صفوت بما يمثله من طمع مادي وطموح يدفعه للفساد.. حتى مجدي بطيبته وسلبيته وفساد مراد وتردي الذوق العام يحاربه أيضا من خلال دعم محسن الفنان، يحاول أن يرضي كل الأطراف ويقوّمهم للطريق السليم.. في البداية بنصائحه ثم فيما بعد بأمواله.. يفشل.
الوحيد الذي يفشل ولا ينكسر، فقط يدرك أن الحرب كبيرة عليه وعلى مقوماته ووسائله، يستدر عاطفتي وتعاطفي معه في كل مشهد وكل جملة رومانسية ينطقها، كل نصيحة يُسديها لعمرو أو لصفوت.. على الرغم من أن كثيرين رأوا أنه كان يتدخل في حياتهم، إلا أنني أرى أنه حركته الرغبة القوية في الصلاح.
الطيبون يعرفون ماذا يواجهون ويدركون التناقض بين ما يؤمنون به وما يواجهونه.. يمثلون لنا أيقونة: “هنربي ولادنا إزاي؟ هنقولهم الكدب صح وللا غلط وحرام؟ وبعد ما نقول هيخرجوا يلاقوا العالم يسير بالنفاق والفساد والكدب.. نعمل إيه؟.”
الطيبون أذكياء، فالأذكياء وحدهم يستطيعون التكيف والصمود.. الطيبون أقوياء بالفطرة.