مبكرًا، بدأت السينما المصرية في تناول قضايا المرأة الريفية عندما قدم المخرج الرائد محمد كريم، عام 1930، فيلمه الصامت زينب. الذي أعاد تقديمه بعد 22 عامًا لكن كفيلم ناطق حمل نفس الاسم. ثم توالت الأعمال السينمائية خلال العقود التالية. التي قدمت نماذج وصور مختلفة للنساء في الريف. بعضها اقترب من واقعهن، بينما رسم البعض الآخر صورة زائفة لا تمت لهن أو لواقع الريف المصري بصلة. بينما سيطرت السياسة في كثير من الفترات على رسم هذه الصور.
زينب.. صورة رومانسية زائفة لنساء الريف
كان فيلم زينب عن رواية محمد حسين هيكل باشا. بنسختيه الصامتة بطولة بهيجة حافظ وسراج منير والممثل الفذ زكي رستم. والناطقة بطولة راقية إبراهيم ويحيى شاهين وفريد شوقي في أحد أدواره المبكرة. بداية لتحول كبير في صناعة السينما الناشئة بقوة آنذاك. التي كان يسيطر عليها أجانب لم ينشغلوا كثيرًا بموضوعات الريف والمرأة الريفية. فاستطاع فيلم زينب الخروج بالسينما من إطار الموضوعات التقليدية. إلى قلب الريف المصري لتقدم السينما أعمالًا أبطالها أبناء هذا الريف. كما ترى الناقدة السينمائية ناهد صلاح، في كتابها “الفلاحة في السينما المصرية.. الواقع يهزم الخيال”.
إلى أي مدى استطاع فيلم زينب أن يقدم صورة متقاربة عن الريف المصري وعن قضايا نسائه؟
رسم الفيلم صورة أنيقة للريف المصري بدأت بتعليق صوتي: “في هذه الساعة من النهار حين تبدأ الموجودات ترجع إلى صوابها ويقطع الصمت المطلق الذي يخيم على بيوت الفلاحين آذان المؤذن. يهرع الناس إلى أداء فرض ربهم شاكرين له نعم الحياة في هذا اليوم الجميل. ونعمة الجمال والإشراق في مطلع هذا الصبح الباسم. ويملأوا أعينهم من هذه المناظر الخلابة التي يفيض بها نهرهم العظيم على أرضهم الطيبة. فتتمثل خضرة كالزمرد ونخيلا كالعرائس وأشجارا كالعذارى مرخيات الشعور وأنهارا تنساب فضة ذائبة وأريجا عطرا يملأ الجو”.
تجعلنا الكلمات التي تضمنها التعليق الصوتي في مفتتح الفيلم نتساءل: أي نهار جميل وأي صبح باسم يملأ جوه أريج العطور. يريد الفيلم أن يخبرنا عنه! لنفترض قبل حتى أن نرى أول المشاهد أننا بصدد عمل رومانسي بعيدًا عن واقع الريف المصري، وقضايا رجاله ونسائه، خلال مطلع القرن العشرين. تلك الفترة الزمنية التي تقع فيها أحداث الرواية.
مع مشاهدتنا للفيلم نتيقن من هذا الافتراض، منزل زينب المرتب وملابسها الجديدة، مرآتها الأنيقة وضحكات أخويها التي تملأ المنزل. رغم أنهم يعملون جميعا بـ”الأجرة” في أرض الباشا.
أما الباشا الذي يؤدي دوره الفنان الجميل سليمان نجيب، فهو رجل بشوش طيب، يعطف على عماله وفلاحيه يُحضر الطعام من سرايته، ليجلس يتناول “الغداء” في وقت الراحة مع زينب وأخويها و”خولي” أرضه – الشاب إبراهيم “يحيى شاهين”.
صورة بعيدة عن الحقيقة
تنشأ بين إبراهيم وزينب قصة حب. يقف أهلها في وجه حبهما، فيرفضوا زواجهما. ليزوجوها إلى حسن ميسور الحال، تتزوج زينب من حسن، يتطوع إبراهيم في الجيش هاربًا من صدمته. ثم يعود ليجد زينب مريضة بالسل يحاول إنقاذ حياتها بمساعدة الباشا. بعد طلاقها من حسن، لينتهي الفيلم وهو يودعها بقبلة على خدها بعد أن أودعها إحدى المستشفيات.
هذا الصورة البعيدة عن الريف ومشكلات نسائه ورجاله الحقيقية. ظلت مسيطرة على الأعمال السينمائية طوال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات وحتى ثورة يوليو 1952. وهي أعمال تعبر عن هيمنة الطبقات والشرائح البرجوازية المسيطرة على الاقتصاد آنذاك وفي القلب منه السينما.
يدعم هذه الرؤية إشارة الناقدة ناهد صلاح في كتابها. إلى اعتماد صناع السينما المصريين على أثرياء الريف وتجار القطن في إنتاج أفلامهم. فمن غير المعقول أن تُظهر السينما التي أنتجها هؤلاء البؤس الذي كان يعيش فيه الفلاحين جراء العمل في إقطاعياتهم، ولا ما ذاقوه من فقر بسبب نهبهم لعرقهم.
الفلاحون كانوا أحد أهم ركائز مشروع ناصري السياسي. لذا سعت السينما التي أممت الدولة صناعتها في الستينيات إلى طرح أعمال تصور ما تعرضوا له من قهر خلال عصر الإقطاع. وتُبرز الدور المقاوم للفلاحين والفلاحات في مواجهة الظلم. ورغم أن هذه الأعمال قد وظفت سياسيًا لخدمة المشروع الناصري. فلا يمكن إنكار الواقعية التي تميزت بها، ورسمها لصورة دقيقة عن حياة الريف خلال الفترات السابقة ليوليو.
الحرام.. المرأة تعاني مرتين
في عام 1965 قدمت فاتن حمامة أحد أهم أدوارها. في فيلم الحرام، مع الرائعين عبد الله غيث وزكي رستم. الذي أبدع في دور “ناظر الوسية”، قصة يوسف إدريس وسيناريو وحوار سعد الدين وهبة، وإخراج هنري بركات.
استطاعت فاتن بعبقرية شديدة أن تجسد “عزيزة” الشخصية المحورية للفيلم، وهي امرأة اضطرت للعمل مع عمال التراحيل في أحد الوسايا. بعد مرض زوجها “عبد الله غيث”.
يرصد الفيلم معاناة عمال التراحيل وأجراء الريف. كما يرصد واقع النساء الريفيات في تلك الفترة، واللائي يواجهن في شخص “عزيزة” قمعًا مزدوجًا، فقر وبؤس يضطرها للعمل في التراحيل مقابل ملاليم في ظروف تشبه السخرة. وسطوة ذكورية تضاعف بؤسها، حين تتعرض للاغتصاب فتخاف أن تحكي عما حدث لها، لتقتل في النهاية وليدها وتموت محمومة.
يوجه الفيلم في فلسفته نقدًا شديدًا لعادات الريف وتقاليده الذكورية. التي تلوم الضحية وترفض الانتصار لها. من خلال شخصية “عزيزة”. ولكنه يقدمها داخل إطارها الاقتصادي والاجتماعي العام وليست بمعزل عنه. وهي صورة استطاع بركات بحرفيته الشديدة وأداء ممثليه المبهر، أن يظهرها ببساطة وواقعية شديدة.
الزوجة الثانية.. مقاومة المرأة
في رائعة من روائع صلاح أبو سيف “الزوجة الثانية”. قصة أحمد رشدي صالح، نرى نموذج للمرأة الريفية، أبدعت سعاد حسني في أدائه. عندما قدمت شخصية الفلاحة الفقيرة “فاطمة” التي يعجب بها العمدة عتمان (صلاح منصور)، ويريد أن يتزوجها رغم أنها متزوجة بـ”أبو العلا” (شكري سرحان) فيجبره على طلاقها بمساعدة ناظر عزبته وشيخ الجامع، في مشهد غاية في القهر جسده شكري سرحان ببراعة شديدة.
تستطيع “فاطمة” بعد زواجها بالعمدة. أن تقاومه رافضة الاستسلام له، لتقدم نموذج للمرأة الريفية التي ترفض الخضوع لجبروت “العمدة عتمان” مستخدمة ذكائها الفطري الذي وضع أيديها على نقاط ضعفه لتنجح في التلاعب به والانتصار عليه في النهاية.
هنا لا يكتفي صلاح أبو سيف كـ”بركات” برصد الواقع وتجسيد مدى البؤس والاستبداد بل يقود مقاومة ضد هذا الاستبداد ويجعل شخصياته تنتصر عليه.
فؤادة.. المرأة/الوطن
“شيء من الخوف” هو أحد أهم أفلام السينما المصرية. لكن الإسقاط الشديد الذي تضمنه الفيلم، يجعلنا ربما نستبعده كأحد الأفلام التي ناقشت قضايا المرأة الريفية حتى داخل السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام مثل الحرام والزوجة الثانية. فشخصية “فؤادة” التي قدمتها شادية بإبداع ومصرية شديدة، تحمل الكثير من الإسقاطات السياسية. ما تحمله أيضًا شخصية “عتريس” المقابلة لها في العمل، والتي أداها الفنان العظيم محمود مرسي.
فـ”فؤادة” تجسيدًا لوطن غازله عتريس الطفل البريء الذي كان يحمل داخل قلبه أحلاما كبيرة، ورقة شديدة، وهو يختلف عن جده/سلفه هذا المستبد الذي أذاق البلد الذل ونهب ثرواتها وقهر أهلها. لكنه عندما أخذ مكان جده مارس الاستبداد ذاته، أخذ فؤادة عنوة، تزوجها زواجًا سياسيًا غير مشروع. أبت أن تخضع له، حتى ثار الناس فـ”زواج عتريس من فؤادة باطل”. وهي أول من يرفضه، حاصروا عتريس/السلطة، حتى أحرقوه داخل قصره.
الفيلم والذي أخرجه حسين كمال، عام 1969. لم تحمل قصته التي كتبها ثروت أباظة، هذا الكم من الإسقاطات السياسية. لكنها كانت رؤية الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي كتب السيناريو والحوار بمشاركة صبري عزت.
النداهة.. المرأة الفريسة
في فيلم النداهة الذي أُنتج عام 1975 إخراج حسين كمال وقصة يوسف إدريس. وأدت فيه ماجدة دور الفتاة الريفية التي حلمت بالعيش في القاهرة بشكل يشبه الهوس. قدم نموذجًا مختلفًا للمرأة الريفية عن النماذج التي قدمت خلال الستينيات. ولو أن القصة تحمل أيضًا الكثير من الإسقاطات السياسية والاجتماعية. فهي تظهر التفاوت الطبقي والثقافي والاجتماعي الكبير بين شرائح المجتمع المصري، حيث يفشل الريف في الاندماج مع المدينة والتي تسخر منه وتستغله ثم تستدرجه كفريسة سهلة.
الثمانينيات والتسعينيات.. ندرة الأعمال
خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات. ورغم ضعف السينما المصرية متأثرة بالكثير من العوامل. قُدمت بعض الأفلام التي حاولت أن تطرح مشكلات المرأة لكن نصيب المرأة الريفية من تلك الأفلام كان قليلًا.
هذا ربما يكون مفهومًا في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي العام في مصر خلال هذين العقدين. فقد أدت سياسات الانفتاح ورفع الدعم عن شرائح كبيرة من المجتمع إلى بروز شريحة كبيرة مهمشة، فرضت نفسها على رؤية بعض مؤلفي ومخرجي السينما في ذلك الوقت.
من بين هذه الأفلام الجراج بطولة نجلاء فتحي وإخراج علاء كريم، ويوم حلو ويوم مرة بطولة فاتن حمامة وإخراج خيري بشارة، وأحلام هند وكاميليا بطولة نجلاء فتحي وعايدة رياض، من إخراج محمد خان، ورائعة السيناريست محمد حلمي هلال “يا دنيا يا غرمي” بطولة إلهام شاهين وليلى علوي وهالة صدقي، وإخراج مجدي أحمد علي.
رغم قلة الأفلام عن المرأة الريفية خلال الثمانينيات والتسعينيات إلا أننا يمكننا أن نشير إلى بعض الأفلام الجيدة التي ناقشت المشكلات العصرية لنساء الريف. من بينها فيلم لحم رخيص عام 1995 إخراج إيناس الدغيدي وبطولة إلهام شاهين. الذي ناقش قضية تجارة الجسد في الريف المصري، وظاهرة زواج الفتيات القصر من الأثرياء العرب.
قضايا المرأة الريفية.. طرح جديد
منذ مطلع الألفينيات خلت السينما المصرية التي اعتمدت أساسا على أفلام الكوميديا من أي طرح جاد لقضايا المرأة الريفية. فيما قدمت بعض الأفلام صور سطحية عن فتيات الريف.
ما تمر به المرأة الريفية من تغيرات كبيرة، نتيجة للواقع الاجتماعي والاقتصادي الجديد للريف المصري بحاجة إلى طرح سينمائي جديد، عبر كتاب ومخرجين ومنتجين مهمومين بقضايا المرأة الريفية وواعين بما طرأ عليها وعلى المجتمع كله، طرح بعيد عن “الأكليشيهات” المحفوظة والأفكار المعلبة، والتي لم تتغير منذ عقود طويلة.