المشهد الثاني

أحيانا كنت أغوص في وسخ بشري خالص، أغوص في أدق تفاصيله، أستمع لقصص شذوذ وجنون وكفر بكل ما هو طبيعي، أسمع دون أي تأفف أستمتع بالتفاصيل وأحياها مع التي تقصها، ترتاح وتتابع تفاصيل أدق، ومشاعر إنسانية بحته، وأحيانا كنت أنتفض هربا مما يدور في خيالي وأبحث عن مخرج من الحياة كلها وليس السجن وحده.

فكرت في الانتحار مرات، وحاولت معادلة الوجع النفسي بداخلي بوجع جسدي يضاهيه حتى الموت، تشوهت أفكاري أيام، وصفت وارتقت ساعات، ترنحت سُكرا مما عرفت، وارتويت من نبع الحياة بكل ما فيها من سموم وعفن ووسخ ونجوت حية بعد كل ما عرفت. وجاء الآن وقت أن أقص عليكم شيئا فشيئا حتى يعود لقلبي انتظام دقاته. حينما أصبح الموت نجاة من الحياة.

في البداية، هؤلاء النساء من هن؟ كيف هن هنا؟ كيف يجب أن أشعر تجاههن؟ من ارتكبن القتل أو احترفن الدعارة؟ مارسن الزنا؟ قتلن أطفالهن أو أزواجهن؟ أو ارتكبن سرقة وتاجرن في المخدرات؟ أو أفسدن المال العام وغير ذلك.. هل أمقتهن؟ أخاف منهن؟، أتعالى عليهن؟ أندمج معهن؟، أرشيهن؟ أتجنبهن؟

وضعت كافة أفكاري جانبا، في النهاية الثابت الوحيد أنني سأتعامل مع نساء ارتكبن خطأ بشريا مهما كانت درجته، هو خطأ، وتلك هي اللقطة الأخيرة من حياة كاملة تستحق أن تحترم تفاصيلها. وأبدا لا يستحق بشر أن ينسى كأنه ميت وهو على قيد الحياة محسوب. هكذا فكرت وأنا أدخل العنبر وفي كل مرة كان يفتح الباب علي في مديرية الأمن لإدخال سجينة -ترانزيت- حتى يتم نقلها لمكان آخر وقبل أن يتم نقلي للانفرادي بشكل تام.

 

رددت بعقلي وعلى الملأ مقولتين لـ”غاندي”:

(أكره الخطيئة، وأحب الخاطئ)

و(هل هناك حاجز لا يمكن للحبّ أن يكسره؟)

 

نساء مواطنات خرجن عن القانون فخرجن عن إطار الزمن والوطن، فلم يعدن يملكن أي شيء من حقوقهن ولا يدرين بالأساس أن لهن حقا، يعتقدن أن عقابهن ليس في سلبهن حريتهن فحسب، بل عليهن أن يدفعن كرامتهن بجانب أعمارهن وقلوبهن وعقولهن ثمنا.

مواطنات لهن حقوق وهناك قانون يحق لهن أن يلجأن إليه ويحميهن، ويبقى واجبا علينا أن نعيدهن للمجتمع ويخرجن سليمات عقليا وجسديا، وأن تكون فترة عقوبتهن لتحسين سلوكهن وعقولهن وليست أي نوع من أنواع الإهانة والتقليل من قيمتهن وزيادة السلوك الإجرامي عندهن بمشاكل أكثر تعقيدا نفسيا وجسديا وتجارب وخبرات يكتسبنها داخل أسوار السجن!

بعد أن وصلت معي في المقال الأول للسجن ودخلت معي الإيراد في الثاني … الآن أنت داخل العنبر فتخيل معي…

حوالي 90 سريرا، “المُلة” الواحدة تحمل ثلاث أسرة حديدية، أي حوالي ثلاثين “ملة” بينهما مسافات تسمى “الباكية” في كل مكان شنط وصناديق تخزين الأكل والملابس ومستلزمات النظافة تحت الأسرة وعلى الحوائط، تلهو معها الفئران والصراصير، قماش يغطي الأسرة من كل جانب لشيء من الخصوصية، يطلق عليها ناموسية ولها جرار وشباك كلهم من القماش.

حوالي 90 فراشا وقرابة مئتي سجينة في العنبر -في وقت احتجازي وصل العدد إلى 230، لكن بعد افتتاح مبنى جديد لاحق بسجن القناطر تم تخفيض العدد إلى 120 – في منتصف العنبر ممر يؤدي إلى حمام واسع كانت تفترشه النسوة ليلا بجانب كافة طرقات العنبر حتى “البواكي” وكل مساحة ممكنة.

سجن القناطر

كان مشهدهن يشعرني بتأنيب ضمير كأني المسؤولة بشكل ما عن بؤسهن كلما شاهدتهن ليلا وأنا أمر فوق الأقدام متفاديةً الرؤوس لأذهب إلى الحمام ناظرة في الوقت نفسه يمينا ويسارا لتجنب تقافز الفئران على حديد الأسرة والحوائط بيننا. في برد الشتاء يرتعشن ويعطسن ويأن أغلبهن ألما ليلا وفي حر الصيف تتسلخ ظهورهن وينقلن أمراضا جلدية لبعضهن من التلاصق والنوم الإجباري.

ويستمر سؤال ساذج مبتذل يقرر ويكرر نفسه: كيف ينام المسؤول عن هذا مرتاحا؟

“هذا الحزن الجارف كيف أسبح معه دون أن أغرق فيه، أحزان تجر أحزانا، موج من البؤس يطفو فوقه قارب أيامي، يثقبه الغضب واليأس. ما كل هذا المرار، إنه ليس كل هذا الهراء يا فشير، بل هو كل هذا البؤس”. هكذا كتبت في كراستي الصغيرة بأول أسبوع في العنبر.

ساكنات العنبر بخلاف السياسيات.. نوعان أساسيان لتصنيف السجينات “الأمهات والبنات”.. هكذا نظام السجن وقوانينه ودستوره الذي يحيا عليه آلاف السجينات منذ عشرات السنوات.

الماما

النبطشية التي يختارها رئيس المباحث والمأمور لتكون صوته وعينه ويده داخل العنابر، وكذلك نبطشيات المستشفى والمكتبة ونبطشية السياسي، يحصلن على دخل رسمي بعلم الإدارة (خرطوشة كيلوباترا مقابل كل زيارة أي حوالي 250 في الشهر في العنبر الواحد يزور ما لا يقل عن خمسين امرأة في الشهر وتتفاوت على حسب العنبر). بجانب هذا يحصلن على “هدايا” أو دعوني أسمي الأشياء بمسمياتها، يحصلون على رشاوى مباشرة من كل زيارة ومن كل سجينة وبعضهن يحول لهن الأموال عن طريق الأهالي في الخارج، وتتفاوت درجة فساد النبطشيات، منهن من تفتعل الخلافات وتكذب على المسجونة وتعرضها للعقاب لأنها لم تهاديها بهدية مناسبة، ومنهن من تكتفي بمعاملة سيئة وترصد الأخطاء لمن لا تدفع لها -من تحت الترابيزة-، وتتغاضى عن شذوذ أو اختراق لوائح السجن لمن تدفع لها.

أما دخلها الرسمي فإنها تتشاجر بقوة للحصول عليه وقد تساعدها -السجانة والمشرفة- وتعاقب التي تتملص من الدفع وتلزمها بسداد الإتاوة للنبطشية.

وغير هذه “الماما” يوجد أمهات أخرى كثيرة داخل العنبر، ويمكن تلخيص المسألة في أن كل من تخدم أخرى لقاء أموال أو سجائر أو طعام فإنها تصبح “ابنة” لهذه السيدة وتصبح الأخرى “ماما” تناديها “بماما أو أمه” وتتحمل تقلبات مزاجها وتخدمها في كل تفاصيل حياتها من تنظيف حمامها إلى تحضير طعامها وترتيب فراشها وكي جلابية السجن وأحيانا تقوم بتدليك قدميها ومساعدتها في خلع جواربها وارتداء ملابسها، وصور استعبادية مختلفة.

الابنة

وصف الأم والابنة هو نوع من التشويه المباشر لحقيقة كون أغلب العلاقات التي رأيتها علاقات قائمة على الحاجة والابتزاز، مسمى (سيدة وأَمَة) هو الأوقع، كما أن بعض العلاقات الجنسية التي تمتاز بالابتزاز الجنسي الواضح للمحتاجة للمأكل والسجائر والملابس وفي الغالب تفوح رائحة تلك العلاقات ويكون ثمن التستر عليها (4 خراطيش سجائر على الأقل للنبطشية).

تمثل هذه الطبقة العاملة حوالي 80% من العنبر. وهن الأقل حظا والأكثر إهمالا لحقوقهن الطبية والإنسانية الأساسية عامة.

أذكر تلك الفتاة الثلاثينية التي أبلغت الجميع أنها مريضة بالذئبة الحمراء، شهور ولا أحد يستمع لشكواها وتخاف أن تكرر طلبها بالذهاب إلى طبيب بعد أن ذهبت مرة للاستقبال وأعطتها “حقنة مسكن” تمشي تستند إلى الجدران وتبكي ليلا فوق فرشتها في الحمام من الألم، حتى توقف جسدها عن الحركة تماما وقضت ليلة كاملة تأن من الألم وفقدت التحكم في البول والبراز. وقضت زميلاتها المجاورات لها في “الفرشة” ليلة مؤلمة وقد بدى على أغلبهن التعاطف وساعدنها دون تقزز أو تأفف حتى أتى الصباح وذهبت للمشفى لتأخذ منها عينة دم وتعيدها محمولة للعنبر، وبعدما تدخلت ورفضت هذا الإجراء وطلبت من النبطشية مقابلة المأمور أو رئيس المباحث لشرح حالتها الطبية له وأنه يجب احتجازها بسرعة في المستشفى، تم نقلها للمشفى وحجزها بالفعل.

أذكر ياسمين التي سرقت تيشيرت من “أمها” لأنها لم تكن تملك سوى واحد فقط تغسله وتجلس بجلابية السجن الخشنة في حرارة الصيف تنتظر أن يجف، وكادت أن تقضي ساعات في الشمس واقفة ثم تلقى في التأديب على أثر فعلتها.

أذكر هبة التي كانت تبكي ليلا جوعا وترفض أن تشحذ أي طعام إلا لو عملت مقابله.

أذكر نوره التي احترفت الدعارة مع من يشتهيها لوجهها الشبيه بالممثلات وجسدها البض وشعرها البني حتى تجد من يحميها ويطعمها وتنام في مكان مريح وواسع أسفل سريرهن.

أذكر أميمة السمراء المؤبدة التي كانت تخدم الجميع لتحصل على سيجارة واحدة وتخاف جدا من كلمة -لا- وتبكي في فراشها كل ليلة تقريبا.

أذكر مديحة التي كان يحبها الجميع وكانت تضحك دائما ومتسخة الجلباب واليدين دوما، تقول إنها جدة وهي في عمر الـ38، وأنها مسجونة بسبب إيصالات أمانة.

وأذكر المسجونة الستينية -الحاجة مديحة- كنت أتغطى ببطانيتها بعدما رُفض إدخال غطاء لي، كانت الحاجة مديحة قد ماتت بعد يومين من حالة إعياء وحقن مسكنات بلا عرض على طبيب ولا تشخيص.

أذكر آية التي دخلت العنبر غنية تنفق كيف تشاء حتى أسموها “آية محشي” لكثرة طهيها للمحشي بكميات ضخمة، ثم توقفت زياراتها وأموالها معها بعد إلقاء القبض على عائلتها -كلهن تاجرات مخدرات- وتحولت لابنة النبطشية تطهي وتبكي وتفكر كيف ستخرج لتبتعد تماما عن عائلتها وتصطحب ابنها صفوت وتحيا بعيدا عن الكل. أذكرها واقفة عند الغروب خلف قضبان الشباك الحديدية تنظر اتجاه السماء وتقول “هتاخد بالك من صفوت يارب والنبي”

أذكر وزة الكوافيرة كانت تتمنى لو تتعلم قراءة القرآن، كانت تنظر لي بعينين جميلتين وتطلب مني بأدب جم: “النبي تقري ليا سورة يس بتفرج الهم، ياريتنى كنت أعرف اقرا.. نفسي أمسك المصحف، ولما تخرجي متنسنيش من دعاكي”.

أذكر فاتن الثلاثينية التي لا تجيب النداء إلا لو ناديتها “شيكابالا” كما اعتادت النسوة مناداتها، والجميع يحدثها بلغة الذكر وهي لا تبدي أي اعتراض بل تستمع بهذا رغم أنها في وقت فراغها تقص حكايتها الجنسية الخاصة مع سبعة عشر رجلا مارست معهن الجنس الكامل بعد زواجها أو الجزئي حينما كانت مازالت “مختومه” كما كانت تصف عذريتها.

أذكرهن كلهن، قصصهن، جمالهن الخاص، وعيوبهن الفجة، قلوبهن المختلفة، وعقولهن الجريئة الناقصة. أغلبهن لا يعرف القراءة والكتابة، أغلبهن اتجه للجريمة بحثا عن لقمة العيش واشتهى الأموال، بعضهن مجرمات محترفات عقولهن مخيفة وقادرات على الشر، لكن الأغلبية بسيطة لو تعلمت ووجدت مصدر رزق لابتعدت تماما عن الجريمة والسجون.

أذكرهن وهن يودعنني سريعا لما فوجئت بقرار إخلاء سبيلي فورا ويرددون من خلفي: ادعيلنا وانتِ فرحانة، ادعيلنا على البوابة والنبي ما تنسي.

التفاصيل ثقيلة، والذكرى لازالت تنبض هناك حية ولم تعد من الماضي لآلاف النساء، تجربتي كانت بين آلاف القصص سواء النسوة اللاتي قابلتهن خارجات من سجن دمنهور يقصصن عن -نومة شبر وقبضه- وعن الفلكة التأديب، وعن الموت المتكرر لسجينات، وبين حجز مديرية الأمن الانفرادي، وبين دهاليز مقرات أمن الدولة، وبين حجز القسم، وبين حجوزات مديرية أمن طنطا ومديرية أمن بنها، وبين حبسخانة التجمع الخامس ومحكمة الإرهاب.

بين الممرات الواسعة المضيئة اللامعة والأقبية المظلمة، في سيارة الترحيلات على الطريق المحطم إلى القناطر أو على حرير التجمع الخامس المعطر بينهما سجلت في ذاكرتي كل تفصيلة ومعنى وفرق.

ألا أنني بين كل هذا وذاك أحيا وأنام وأنا أذكرهن جميعا، وأذكر السياسيات، المعارضات اللاتي أضحين جزءا من هذا المكان الذي خرجت منه ولازالت عالقة فيه، أذكر المجهولات اللاتي لا يذكرهن أحد. أذكر اللاتي عاشرتهن وظهر أمامهن ضعفي ومرضي وقوتي وجنوني.

أذكر خلود سعيد، نجلاء فتحي، نيرمين حسين، د. هدى عبدالمنعم، عائشة الشاطر، حسيبة محسوب، إسراء خالد سعيد، إيمان المحامية وخطيبها، تقوى عبدالناصر، لؤية، مروة عرفة، ونساء سيناء.

أذكر من اتفقت معهن ومن اختلفت معهن. كلهن مكانهن أبدا ليس السجن مهما اشتدت خلافاتنا. “علينا أن نبدع حلولا لحل خلافتنا دون أن نسجن بعض”، كما يقول علاء عبد الفتاح.