بعد مرور عشرين عاما على تفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك في 11 سبتمبر 2001. وإعلان الولايات المتحدة “الحرب على الإرهاب“، أصبحت أفريقيا بمثابة مركز عالمي للحركات الجهادية. ففي العام الماضي 2020 فقط قتل أكثر من 13 ألف شخص فيما يقارب 5 آلاف عملية مسلحة نفذتها 17 منظمة مسلحة في 22 بلدا من بلدان القارة.

هذه الأرقام كانت في السابق مقصورة على المراكز التقليدية للعنف الجهادي مثل أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا. لكنها تأتي الآن من أفريقيا التي برزت كمركز جديد للجهاديين، مما دفع مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية. إلى السعي لتوجيه السياسة الأمريكية لمكافحة الإرهاب نحو إعطاء أهمية أكبر لأفريقيا في استراتيجيتها “لمكافحة الإرهاب”.

مركز مكافحة الإرهاب (Combating Terrorism Center) نشر دراسة لاثنين من كبار الباحثين والمرتبطين بمراكز صنع السياسة الامريكية. هما “تريشيا بيكون” مديرة مركز مكافحة الإرهاب وأستاذة علم الجريمة بالجامعة الأمريكية ووزارة العدل. و”جيسون وارنر” الأستاذ المساعد في قسم العلوم الاجتماعية في الأكاديمية العسكرية الأمريكية (ويست بوينت).

وتناولت الدراسة التي نستعرض أبرز محاورها وما استنتجت في التقرير التالي. أربعة أقسام رئيسية تمثلت في حجم انتشار العنف الجهادي بأفريقيا في السنوات العشرين الأخيرة. وأسباب تصاعد العنف المسلح في القارة، والأسباب التي توجب اهتمام الولايات المتحدة بالتهديد الجهادي في أفريقيا. وأخيرا يقدم المؤلفون اقتراحات لصانعي السياسة الأمريكيين لمواجهة التهديد الجهادي للجماعات المسلحة في أفريقيا.

أفريقيا من الركود إلى قلب الحدث

تركزت الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة الإرهاب في أفريقيا بعد عام 2001 على السعي لمنع تدفق الجهاديين على أفريقيا بعد فرارهم من أفغانستان والعراق.

وعملت على تجهيز ستة مجموعات من قوات مكافحة الإرهاب في 4 دول إفريقية تشكل معا ما يسمى دول الساحل الصحراوي. وهي مالي وتشاد والنيجر وموريتانيا، بالإضافة إلى إنشاء قاعدة عسكرية دائمة في جيبوتي. وإطلاق مبادرة “شرق أفريقيا” لتدريب الشرطة والقضاء على الإرهاب في كينيا وتنزانيا وأوغندا وإثيوبيا واريتريا.

ولم تفشل السياسة الأمريكية في منع تدفق الجهاديين على أفريقيا فقط، بل إنها دفعت تلك الجماعات للاعتماد على فروعها المحلية في التجنيد والانتشار. وهو ما جعلها أكثر تغلغلا في مجتمعاتها وصاحبة جذور قوية في هذه البلدان.

وبحلول عام 2007 عززت الولايات المتحدة من وجودها العسكري في القارة ليصل عدد جنودها العام الجاري 2021 إلى 5100 مقاتل. و100 من الاستشاريين المدنيين والمتعاقدين، في 15 قاعدة دائمة و12 قاعدة غير دائمة. يقومون بمهام الدعم والتدريب في أكثر من 40 بلدا أفريقيا.

كما تغيرت الاستراتيجية الأمريكية بدءا من العام 2018، ليصبح “التنافس مع القوى العظمى” الصاعدة مثل الصين وروسيا. هو الخطر الآني على الأمن القومي الأمريكي بدلا من “الإرهاب”. وتبع ذلك سحب قواتها من الصومال، وتخصيص جزء منها للتدريب والمساعدة في مواجهة “حركة الشباب”.

المركز الجديد للحركات الجهادية

تصاعد العنف الجهادي في القارة الأفريقية بشكل كبير في العشرين سنة الأخيرة منذ بدء الحرب على “الإرهاب”. وكان آخر ازدهار له بالقارة في السودان بين عامي 1991 و1996 حين استقر بن لادن وأيمن الظواهري هناك لقيادة عملياتهم ضد مصر. وتزامن ذلك أيضا مع الحرب الأهلية في الجزائر والتي شنها الجهاديون ضد الدولة طوال التسعينات. وهدأت الأمور برحيل بن لادن والظواهري إلى أفغانستان، ونجاح الحكومتين المصرية والجزائرية في حربهم على الإرهاب.

عاد الأمر للتصاعد بعد عشرين سنة، وفقا لأرقام (ACLED) وهو مشروع أمريكي لجمع بيانات حوادث العنف. فشهد عام 2020 حوالي 4958 هجوما مسلحا نظمته 18 جماعة جهادية مقارنة بـ 288 هجوما فقط عام 2009. كما ارتفع عدد الضحايا ليبلغ 13059 شخص في أكثر من 22 دولة أفريقية.

وعادت أفريقيا لتتصدر لائحة العنف الجهادي خلال عام 2021، بعد إعلان التحالف العالمي المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية أن أفريقيا هي المركز الجديد للجماعة. واقتراحه إنشاء تحالف جديد لمحاربة التنظيم في أفريقيا مع ضرورة ضم أعضاء أفارقة جدد إلى هذا التحالف.

أسباب تصاعد العنف الجهادي في أفريقيا

بحسب الدراسة هناك عدد من العوامل ساهمت في ارتفاع وتيرة العنف الجهادي في أفريقيا. على رأسها الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في دول القارة، والتي ساعدت القاعدة وتنظيم الدولة على ترسيخ جذورها هناك.

ويمكننا أن نستعرض باختصار بعض من أنشطة وتحركات التنظيمات الإرهابية الأكثر تواجدا على الساحة الإفريقية على النحو التالي:

القاعدة الحاضر الدائم والقوي في قلب الحركات الجهادية

وفرت فروع القاعدة في أفريقيا وجودا قويا للتنظيم في شمال وشرق القارة ودول الساحل، عبر حركة تجنيد دؤوبة وراسخة. وقدم التنظيم الدولي لفروعه الخبرات والموارد اللازمة والصيت الكبير بين الجهاديين. ووفرت لهم حرية التصرف وفقا لظروفهم المحلية والإقليمية.

رسخت القاعدة وجودها عبر تحالفات مع جماعات أخرى قائمة بالفعل، مثل “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” في الجزائر والتي أعادت تسمية نفسها ليصبح “قاعدة بلاد المغرب الإسلامي”. وفي الصومال انتسبت حركة الشباب للتنظيم الدولي قبل أن تعلن نفسها رسميا فرعا للقاعدة في شرق أفريقيا خلال عام 2012. وعززت القاعدة وجودها في دول الساحل بتشكيل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين من اندماج أربع مجموعات جهادية محلية.

ومثلت حركة الشباب الفرع الأنجح دائما للقاعدة على مستوى الانتشار والعمليات الأكثر عددا في القارة. ورسخت الجماعة وجودها من خلال نظام قضائي يمتلك سمعة في الكفاءة والفعالية والإنصاف من الحكومة.

واستخرجت “القاعدة” الأموال من كل قطاعات الاقتصاد سواء في المناطق التي تحكمها أو خارجها. وتفرض الجماعة رسوما على العبور عند نقاط تفتيشها على الطرقات وتوفر ايصالا بالمدفوع. بينما تفرض نقاط التفتيش الحكومية مبالغ تعسفية وبدون إيصالات في الأغلب، ونجحت الجماعة في التوسع خارج الصومال بجناح قوي في كينيا المجاورة.

وبعد مرور 20 عاما على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا تزال الجماعات التابعة للقاعدة راسخة بعمق، واستمرت تحالفاتها على الرغم من الشدائد، كما تلقوا دفعة معنوية وأيديولوجية من سيطرة طالبان على أفغانستان.

ظهور وانتشار تنظيم الدولة الإسلامية

أعدت القاعدة مسرح الجهاد في القارة لسنوات قبل أن يتولى تنظيم الدولة قيادته، وعمل التنظيم على دعم التجمعات الإقليمية بنشاط. فيما أصبح يسمى ولايات دولة الخلافة، ومن عام 2014 بدأت جماعات جهادية عديدة في إعلان ولائهم “للخليفة أبو بكر البغدادي” لتعمل على ممارسة العنف ضد خصومها والسعي للسيطرة على الأراضي.

وبحلول سبتمبر من العام الجاري 2021 أصبح للدولة الإسلامية ست ولايات رسمية في أفريقيا. مع أجنحة أخرى في موزمبيق والكونغو، وقدم التنظيم الدعم لولاياته الأفريقية عبر المبعوثين من العراق وسوريا. للتدريب وتنظيم مخططات حكم المناطق المستولى عليها والتحويلات المالية فضلا عن مجموعة من النصائح بشأن الاستراتيجية والتكتيك.

داعش في أفريقيا

 

شرعية الرواية الجهادية في مواجهة التحديات الاجتماعية في أفريقيا

عملت الجماعات الجهادية على الفراغ الذي تخلفه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل الدول الأفريقية. وجمعت المواطنين الغاضبين من إخفاق الحكومات ونقص الفرص الاقتصادية، والصراعات العرقية والقبلية. وطرحت روايتها الخاصة في تلك الصراعات وإرساء شرعيتها بين السكان.

ويعد أنجح تلك الجماعات “بوكو حرام” التي نشطت في المناطق الشمالية والشرقية من نيجيريا حيث يقع 40% من السكان تحت خط الفقر. سعت الجماعة إلى جعل السكان في وضع أفضل اقتصاديا متفوقة على فساد وابتزاز الحكومة للمواطنين وقطاع الأعمال. حتى أصبح قطاع واسع من السكان ينسب للجماعة الفضل في خلق بيئة أفضل للأعمال خاصة تجارة الأرز والأسماك والفلفل المجفف، كما تقوم بجمع الزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء.

واستغل تنظيم الدولة أيضاً انهيار ليبيا لفرض سيطرته على بعض المدن الساحلية ومنها سرت. ونهبت خلالها ترسانات الدولة من الأسلحة التي استخدمت لاحقا لزعزعة الاستقرار في منطقة الساحل.

استراتيجية غير فعالة لمواجهة الإرهاب

يعتقد كاتبا الدراسة أن جهود مكافحة الإرهاب في القارة قد ساهمت بشكل فعال في صعوده وانتشاره بصورة أكبر. وتركزت تلك الاستراتيجية على الضربات الجوية ومهام العمليات الخاصة، بالإضافة إلى دعم تدخل تشكيلات عسكرية أخرى من بعض الدول. وتقديم المستشارين العسكريين وتدريب للقوات الأمنية.

وقضت العملية الفرنسية “سرفال” على زعيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وعدد من كبار قيادات الجماعة. كما أنهت الغارات الأمريكية في الصومال على أبرز المقاتلين من ذوي الخبرة والقدرات القتالية في حركة الشباب الصومالي. وساهمت الغارات الأمريكية بليبيا في إسقاط تنظيم الدولة في معقله “سرت” الغنية بالنفط. ومع ذلك كان هناك تقدم ضئيل على المستوى الاستراتيجي، وبدون إجراء تحسينات سياسية ومكافحة للفساد وتنمية اقتصادية لن تؤدي الأعمال العسكرية وحدها لأي تقدم.

استغل شركاء الولايات المتحدة من الحكومات التركيز الأمريكي على مكافحة الإرهاب لتعزيز سلطتهم وحصار المعارضة. متجنبين كل الضغوط المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الانسان. وتم تجاهل انتهاكات الحكومات الحليفة مثل الجزائر في مواجهة التمرد الجهادي في التسعينات وتم الترجيب بها باعتبارها حصنا إقليميا ضد الجهاديين.

كما اتهمت الأمم المتحدة في تقرير لها عام 2020 قوات الحكومة في مالي ونيجيريا بعمليات قتل بدون محاكمة. وأكدت منظمة العفو الدولية اعتقال الجيش النيجيري ما لا يقل عن 20 ألف بشكل تعسفي على أساس الهوية الدينية منذ عام 2009. وهو ما يدفع بالعديد من السكان للانضمام للجماعات الجهادية ردا على انتهاكات القوات الأمنية والجيوش.

لهذه الأسباب يجب الاهتمام بأفريقيا

تسلط الدراسة الضوء على تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع الأمريكية في ديسمبر عام 2019. الذي يكشف أن نمو العنف المرتبط بالجهاد أصبح خارج السيطرة.

وأكد قائد القوات الأمريكية في أفريقيا الجنرال “ستيفن تاونسند” أن “التهديد من الجهاديين في القارة الأفريقية تفاقم بشكل كبير منذ أن بدأت الجهود التي تقودها الولايات المتحدة للحرب على الإرهاب قبل 20 عاما”.

وطرحت الدراسة 5 أسباب لضرورة اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالتهديدات الجهادية في القارة الأفريقية. أهمها التأثير المباشر على الأمريكيين والمصالح الأمريكية، والمتمثل في زيادة عدد ضحاياهم ولعل أبرزهم قتل السفير الأمريكي “كريستوفر ستيفنز” في سبتمبر 2012 ضمن أربعة أمريكيين. وكذلك الكمين الذي نصبه تنظيم الدولة لقافلة أمريكية في النيجر وأسفر عن مقتل أربعة جنود أمريكيين من القبعات الخضراء. وارتفاع كلفة حماية المسؤولين الأمريكيين في أفريقيا المضطرين للبقاء معزولين في أماكن شديدة التحصين. مما يحد من قدراتهم على التواصل مع الحكومات والمنظمات الأهلية والقيادات المحلية التي يمكنها لعب دور كبير في مواجهة الجهاديين.

كما أن ترك الجهاديين دون رادع يعرقل القدرة الأمريكية على المنافسة بفاعلية مع القوى الأخرى. وترك شركائها المحليين المتضررين من العنف الجهادي وحدهم سيدفع بهم بعيدا نحو المنافسين الحاضرين بقوة لتقديم الدعم.

مع ضرورة الحفاظ على استقرار دول القارة التي أصبح أكثر من نصفها (22 دولة) معرضة لمخاطر واسعة من الجماعات الجهادية.

الدول العشرين الأكثر هشاشة في العالم

ويصنف تقرير “صندوق السلام” العالمي لعام 2020، نحو 14 دولة أفريقية بين الدول العشرين الأكثر هشاشة في العالم. وهو ما يزيد من أهمية الوجود الأمريكي للحفاظ على أمن واستقرار القارة اللازم لمصالح وأمن أمريكا.

وأصبحت أفريقيا جزءا هاما ضمن مخططات استثمار المحافظ المالية للشركات الأمريكية. والعديد من دولها يأتي بين الدول الأسرع نموا اقتصاديا في العالم. وكما أوضح مساعد الرئيس الأمريكي السابق “جرانت هاريس” بين عامي 2011-2015. “ستعتمد قوة الاقتصاد الأمريكي على قدرة الشركات الأمريكية على العمل في أفريقيا”.

ويمكن للجهاديين تعطيل تلك القدرة، وأثبتوا ذلك في شمال موزمبيق حيث تتعرض خطط شركات الطاقة الأمريكية والأوروبية. التي تستثمر نحو 50 مليار دولار في الغاز الطبيعي للخطر بسبب تمرد يقوده فرع موزمبيق التابع للدولة الإسلامية.

بالإضافة إلى الاعتبارات الجيوسياسية الواسعة بأهمية احتفاظ أمريكا بعلاقات قوية مع الكتلة الأفريقية البالغة 54 دولة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن. إذا أرادت الحفاظ على مكانتها الدولية، وعدم التضحية بالفرص الاقتصادية الهائلة في القارة. التي تزداد أهميتها الجيوسياسية والاقتصادية بمرور الوقت.

مواجهة الجماعات الجهادية في أفريقيا

تخلص الدراسة إلى ضرورة تعديل الاستراتيجية الأمريكية نحو ضرورة تعزيز الاستثمار في مواجهة الجماعات الجهادية. مع إعادة تقييم جاد للسياسات الأمريكية في القارة وشركائها المحليين، وطرح أهداف واقعية للمواجهة. فالاعتقاد بالقدرة على القضاء التام على تلك الجماعات قد أثبت فشله. وبدلا من ذلك تقترح الدراسة “احتواء مستوى العنف من تلك الجماعات عند مستوى مقبول” وتقليص التهديد لمستوى تستطيع قوات الأمن المحلية مواجهته.

كما شددت الدراسة على ضرورة حصول الحكومات الأفريقية على شرعيتها من السكان المحليين لتتمكن من مواجهة الجماعات الجهادية التي تجند أعضائها منهم. وتعمل على توفير سبل العيش المستدامة والفرص الاقتصادية لقطاع أوسع من السكان، وسيلتها في مواجهة جاذبية تلك الجماعات.

فضلا عن الاهتمام بتشجيع الحكومات الأفريقية على التفاوض مع تلك الجماعات واحتوائها داخل النظام السياسي لتقليل نزعاتها نحو العنف. ورغم تجربة أفغانستان السلبية حيث أسفرت اتفاق الولايات المتحدة مع طالبان عن سقوط كل البلاد في أيديها وهو ما اعتبر انتصارا للجهاديين.