كلما اقترب موعد الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل، ألقت الأطراف الليبية “تروسًا” أمام عجلة العملية السياسية. حتى تكاد تفقد الفرصة المتاحة أمام عملية انتخابية يمكنها إزالة كل التوترات وتؤسس لمرحلة استقرار وإنهاء الفترات الانتقالية. ملخص الأسابيع الماضية التي شهدت تحولات في البنية السياسية للمشهد الليبي، ما بين محاولة شق الحكومة إلى نصفين. فضلاً عن تمسك الأطراف الدولية ببقاء قواتها في ليبيا إلى حين اتضاح الرؤية، مرورًا بتغيرات في خريطة التحالفات.

التطورات الحالية في الملف الليبي مع ضآلة فرص إجراء انتخابات غير فوضوية، تشير إلى أن ‏عملية الاقتراع المنتظرة عبر نجاح المجتمع الدولي في فرض إقامتها، تعني تصويتًا على استبعاد الأسوأ أكثر منها اختيار الأفضل، وهي الحالة المجتمعية المكلومة بأوجاع الماضي وفوضى ما بعد 2011، والتي ملّت ونفرت من كل متصدري المشهد الحالي.

مؤتمر استقرار ليبيا

خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة انتقلت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش إلى العديد من العواصم العربية والغربية، لحشد حضور دولي نادر إلى العاصمة طرابلس دعمًا لمؤتمر “استقرار ليبيا“، الذي يحمل مبادرة بالاسم نفسه، ويمثل فرصة أخيرة لإنقاذ المشهد.

المؤتمر يتخذ مسارين، وفق المنقوش، أمني واقتصادي، الأول يؤمن فرص تنفيذ مخرجات لجنة (5+5) وإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، والتمهيد لإجراء الانتخابات المرتقبة، والثاني يجمع تنافسًا دوليًا على إعادة الإعمار ودعم التنمية الاقتصادية في ليبيا، وفق برنامج “عودة الحياة” الذي أطلقته حكومة الوحدة الوطنية مؤخرًا.

خلاف الدبيبة والقطراني.. الانقسام على باب الحكومة

على الصعيد المحلي، وصلت حدة الخلاف بين رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة ونائبه حسين القطراني إلى مرحلة اللاعودة. وذلك بعدما خرج الأخير في اجتماع مذاع على الهواء وحوله لفيف من وزراء ومسؤولي الحكومة الممثلين عن إقليم برقة، يتهمون الدبيبة وممثلي المنطقة الغربية بالاستئثار بالحكومة وإقصاء برقة، ويشككون في التوزيع العادل للثروة والسلطة.

الدبيبة والقطراني
الدبيبة والقطراني

القطراني بدأ حديثه باتهام الدبيبة باتخاذ القرارات دون العودة لمجلس الوزراء، ثم ألقى بورقة الانشقاق على الطاولة، وطالب الدبيبة بتصحيح المسار. لكن الأخير تجاهل الأمر كلية ورفض الرد على نائبه، ثم ما انقضت ساعات حتى خرج القطراني مرة أخرى يطالب مؤسسة الدولة في نطاق برقة بعدم تنفيذ أوامر الدبيبة، ورفض أية تغيرات في الجهاز الإداري للدولة، كان الحديث يدور حول نية الدبيبة إقالة رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للاتصالات ورئيسها فيصل قرقاب المدعوم من القطراني والمتهم من أطراف بالفساد.

تقاسم السلطة والثروة

كان القطراني ينتظر تحركًا من الدبيبة لشرح موقفه أمام الرأي العام، وتكذيب نائبه، لكنه لم يفعل، فاضطر القطراني لجمع قبائل إقليم برقة وشرح كواليس الخلاف على الهواء مباشرة، راميًا الدبيبة بكل نقص ومتبرئًا من فرص التناغم مع ممثلي الغرب في الحكومة الذين اعتبرهم صناع الفشل في إدارة الثورة والحكم، كأنه لم يكن شريكًا لهم.

يتقاذف الطرفان دفتي الحكم، فبينما يدفع القطراني بأسباب تبدو جوهرية يتمسك الدبيبة بالعناد والصمت حيال الاتهامات التي كالها نائبه القطراني، ما دفع الأخير لإخراج كواليس الغرف المغلقة للعلن. القطراني سرد بشكل دقيق أحاديث دارت بينه وبين الدبيبة والتي كانت شرارتها نصيب مناطق الشرق من خطة إعادة الإعمار، ومن ثم سحب الثقة من الحكومة. جاءت كلمات القطراني قاسية في الاتهام بقوله إن الدبيبة لا يمتلك خبرة إدارية وبات دمية في يد من يتخذون القرار ومن وصفهم باللوبي الملتف حول رئيس الحكومة يقررون له، حينها قال القطراني إن الدبيبة طالبه بالإشراف على خطة “عودة الحياة بالمنطقة الشرقية” لكن “بدون مخصصات مالية”، فرد عليه القطراني بأنه ليس منبرًا إعلاميا لتسويق مشروعات وهمية.

اقرأ أيضًا| “فورين بوليسي”: لا أطراف جادة في ليبيا تسعى للتسوية

فشل الوساطة الغربية

الدبيبة اتهم نائبه بتعطيل مشروع “عودة الحياة” (إعادة الإعمار)، وهنا كانت بداية التوتر الذي تصاعد في غضون أيام، بعدما فشلت تدخلات بعثة الأمم المتحدة وسفارات أجنبية لمنح الانقسام، وفق القطراني، الذي قال إنه أبلغ المبعوث الأممي والسفراء الغربيين بأن مطالبه واضحة: تقاسم السلطة والثروة.

تمثل اتهامات القطراني نقطة تحول في طبيعة العلاقة مع الغربيين أو حكومة الدبيبة التي رأى فيها تغولاً في مسارات الحكم التشاركية، باعتبارهم فرّطوا في منهج تقاسم السلطة والثروة. ثم جاءت الضربة القاصمة لوحدة الحكومة بتغيير الدبيبة مجلس إدارة شركة الاتصالات القابضة. ومع احتدام الموقف بات الطرفان يتعاملان مع الأزمة بطريقة سيئة فالقطراني يُجمّع القبائل حوله ويستغل موقفه الجهوي للضغط على الدبيبة،  بينما الأخير لا يفرط في عناده حتى اللحظة الأخيرة ويرفض الالتفات لمطالب نائبه والتي رآها مجلس الدولة الداعم لـ الدبيية “مطالب مشروعة وتستحق التنفيذ والنظر فيها”.

الدبيبة: أنا ابن جنيف.. القطراني: جنيف لا تحمي من الفساد

جانب من الشجار الذي دار بين الدبيبة والقطراني في اجتماع مغلق للحكومة، وفق ما سرد الأخير، كشف عن صعوبة اجتماع الطرفين على كلمة سواء. القطراني قال للدبيبة في أول اجتماع عقب سحب الثقة إنه السبب الرئيس في هذه الخطوة، لكن الأخير رد عليه بقوله: “ماحدش يقدر يسحب مني الثقة، أنا نابع من جنيف ومعي الجماهير”، فرد القطراني: “الثقة لو سُحبت فأنت سببها وجنيف ماتحميش من الفساد”.

خريطة تحالفات جديدة

رغم أن تقاسم السلطة كان مخرجًا مثاليًا في الحالة الليبية، لكنها تسمح في بعض الظروف كتلك الحالية بأن ينشق طرف على أساس مناطقي بممثليه من التركيبة الحكومية؛ وهو ما يخلق انقسامًا إضافيًا، منبعه الانقسام السابق. وإذا كانت تجربة تقاسم السلطة غير صالحة، فإن التجربة البديلة هي إجراء انتخابات يمكن أن تنتج طرفًا مختلطًا من التحالفات بين الشرق والغرب؛ وهي فرصة لمنع انقسام مناطقي.

الدبيبة يجتمع بأعيان وقبائل من المنطقة الشرقية
الدبيبة يجتمع بأعيان وقبائل من المنطقة الشرقية

بشكل أوضح، فإنَّ تحالف قبائل الشرق مع آخرين في غرب البلاد والعكس يمكن أن ينتج نظام حكم قائمًا على أساس قبائلي منتشر في أغلب المناطق، وهو ما يمكن أن يجعل للقبائل دورا مؤثر في الوساطة مستقبلاً لاحتواء أي تململ بين المكونات السياسية المناطقية.

اقرأ أيضًا| لماذا حكم سيف الإسلام لليبيا لن يكون سهلاً؟

الأطراف الفاعلة في المشهد الليبي خلال السنوات الأخيرة المتمثلة في المكونات السياسية والعسكرية في شرق ليبيا والإسلاميين في غرب البلاد وأنصار القذافي، باتوا جميعًا على يقين بأن فرصهم في مستقبل العملية السياسية شبه منعدمة؛ نظرًا لحالة نفور شعبي من أدائهم؛ وهو ما دفعهم للتفكير في بديل تحالفي، وهنا يبقى وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا بديلاً مثاليًا للشرق بينما يتمتع  رئيس الحكومة الحالي عبد الحميد الدبيبة بالفرصة نفسها لدى أنصار النظام السابق.

الشرق الليبي بين الدبيبة وباشاغا

خلال الأسابيع الأخيرة اتضحت هذه الخريطة، من خلال تحركات الدبيبة إلى مناطق أنصار النظام السابق، وتدشين مشروعات وحل أزمات خدمية، والحديث عن المصالحة الوطنية، وجدت خلالها دعمًا كبيرًا لمشروعه السياسي والاقتصادي، وفي إحداها ألمح الدبيبة إلى نيته السياسي في الأمر، حين قال إن منحة الزواج والقروض وغيرها من الميزات المالية التي أقرها مؤخرًا بأن الهدف منها ليس “الانتخابات أو صناديق الاقتراع”، كان الدبيبة يعرّج من بعيد، ففهمه الحاضرون، عندما جمع قبائل من شرق ليبيا في طرابلس.

اللقاء الذي تحدث طرح فيه الدبيبة ما يمكن اعتباره برنامج انتخابي، جاء عقب عودته من الزنتان، وهناك أطلق مشروعات واستجاب لمطالب تنموية، وأمر بإرسال دفعة من السيولة النقدية، وصلت الزنتان بعد أقل من 24 ساعة من زيارته. أما باشاغا الذي جاءت مواقفه السياسية مؤيدة لشرق البلاد، خاصة قوانين الانتخابات، يسعى هو الآخر لتأمين موضع قدم له هناك، يضاف إلى كتلته التصويتية في غرب البلاد. هكذا يبدو من تسارع الأحداث أن المنطقة الشرقية وأنصار القذافي يبحثون عن بديل لهما في المشهد السياسي، وهم بذلك أمام خيارين، الدبيبة وباشاغا.

https://www.youtube.com/watch?v=CfOWERUJjcU

مهمة المنفي

عندما احتدم الموقف بين الدبيبة وبرقة، حاول رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي اختراق الأزمة، لاسيما أنه يمتلك تواصلاً مع الإقليم بخلاف الدبيبة المرفوض هناك، منذ تولى مهامه.

وفي طبرق عقد المنفي عدة لقاءات مهمة في الأحداث الجارية، من بينها لقائه القائد العام المكلف الفريق عبدالرازق الناظوري اليوم، وظهر الناظوري يعطي التحية العسكرية للمنفي. في لافتة بالغة الدلالة، بشأن مكانة المنفي لدى الشرق الليبي، وهو ما يجعله خيارا مثاليا لاحتواء الانقسام الحالي.

المنفي يتحول من رئيس إلى وسيط
المنفي يتحول من رئيس إلى وسيط

كما التقى المنفي في طبرق رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب طلال ميهوب، بالإضافة إلى عدد من منظمات المجتمع المدني بطبرق، لاستعراض مشروع المصالحة الوطنية. ثم التقى أعيان وحكماء الجبل الأخضر ببلدية الأبرق. حتى الآن لم يعرف ماذا توصل المنفي في جولته ولقاءاته الأخيرة، لكنها تبقى اختراق مهم يمهد لمؤتمر دعم استقرار ليبيا المزمع عقده الخميس المقبل.

وقبل أن يذهب إلى طبرق استمع المنفي لرؤية المجلس الأعلى للدولة عندما استقبل نائب رئيسه عمر بوشاح، وطالبه بضرورة تقبل نتائج الانتخابات. ثم تحدث الطرفان عن الآليات القانونية والدستورية للانتخابات، خاصة أن مجلس الدولة يرفض قوانين الانتخابات التي أقرها مجلس النواب ويعتبرها “غير دستورية”. كما استمع لرد الدبيبة على بيان ممثلي برقة.

ماذا لو فشل المسار السياسي الحالي؟

هنا السؤال: ماذا لو فشلت كل تلك المساعي؟ كان هذا حاضرًا في دفاتر الأطراف الدولية المؤثرة والمتأثرة بالمشهد الليبي. البعض تحدث عن إجراء انتخابات مجزأة وليست متزامنة، لاستدراك الموقف، لكن هذه النقطة تحديدًا أشد خلافًا لدى الأطراف الليبية.

انتخابات مجزّأة

الانتخابات الرئاسية أولا البرلمانية؟ المنطقة الشرقية (مقر البرلمان) تريد الانتخابات الرئاسية أولاً، ويدفعون بأن ممثلي المنطقة الغربية يريدون انتخاب البرلمان أولاً حتى يقر المجلس الجديد قانونا جديدا لانتخاب رئيس الدولة، وهو اتهام بمحاولة السيطرة على مستقبل العملية السياسية بطريقة تبدو ديمقراطية، بينما “الغربيين” يقولون إن أهل الشرق يتهربون من موعد الانتخابات بتأجيل تشكيل برلمان جديد من شأنه إقصاء النخبة البرلمانية الحالية، كما أن انتخاب الرئيس بوجود السلطة التشريعية الحالية مرفوض لذلك يطلبون انتخاب البرلمان أولاً؟

اقرأ أيضًا| هل تستطيع ليبيا انتخاب الرئيس؟

فكرة الانتخابات المجزئة تلقى رواجًا لدى بعض الأطراف الإقليمية والدولية، وإن كانت بشكل غير علني، لكنها تبقى خيارًا أخيرًا لاستدراك الموقف في حال فشل التوافق على قوانين موحدة للانتخابات، أو أعلن القطراني وحشد برقة الانشقاق عن حكومة الدبيية.

خطة بديلة

في هذه الأثناء، يتداول البعض مقترح خطة بديلة بإمكانها إنقاذ الموقف في حال فشل إجراء الانتخابات، تتمثل في تفعيل مؤتمر الحوار السياسي ومنحه صلاحيات تشريعية محددة خلال المرحلة الانتقالية وحل كل الأجسام السياسية القائمة، بالإضافة إلى تحويل لجنة 5+5 العسكرية التي تضم ممثلين عن الشرق والغرب، إلى مجلس أمن قومي ترأسه شخصية عسكرية متقاعدة، وهو الطرح الذي جرى تقديمه في السابق على طاولة مفاوضات توحيد الجيش ولم يلقى رواجًا لدى الأطراف الليبية.

اقرأ أيضًا| هل يحقق “القانون الأمريكي” استقرار ليبيا؟

كما يتضمن المقترح تشكيل حكومة طوارئ، تكون مهمتها إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت، وهي النقطة التي لن تكون مجدية أمام موقف الانقسام باعتبارها لن تغير من الأمر شيئًا فحكومة الطوارئ هي حكومة الوحدة هي حكومة الوفاق مع تغيير المسميات والانقسام واحد.

يمكن قراءة التسريبات الأخيرة بشأن تجزئة الانتخابات أو حل الأجسام السياسية الحالية على أنها رسالة تهديد للنخب السياسية الحالية بأن المجتمع الدولي بإمكانه تمرير خطة تستبدل كل الوجوه المتحكمة في المشهد الليبي حاليًا، في حال عدم تفريطهم في الفرقة والتشرذم.