شئ جانبي يمكن الانطلاق منه والاعتماد عليه كمرجع استفهامي لما أريد قوله ذكره الباحث باسم حنا في كتابه “ألبير قصيري والسخرية: التهميش إجابة على الحداثة”. حينما راهن على عملية تحويل الهامش إلى صورة خيالية في أدب ألبير الذي يطرح سؤالًا واحدًا في أشكال محتلفة. كيف يتصور لذاته مكانًا في الحداثة؟ كيف يحدد موقع الفرد في عالم هو فريسة للتقدم المادي؟ ما نمط الفرد الذي يمكنه إعلان هذا التحدي؟ إذا كان هذا الفرد، فقير، مهمّش، لا يملك الاختيار.
كنت أجلس في المقعد الخلفي مباشرة للكرسي الذي كان يجلس عليه عدد من النجوم. من بينهم الممثل المصري شريف منير استعدادًا لمشاهدة فيلم “ريش” الحائز على الذي حصد الجائزة الكبرى وجائزة الفيبرسي (الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين) لأفضل فيلم في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان. وهي أول جائزة يحصل عليها فيلم مصري طويل في تاريخ المهرجان، يعرضه مهرجان الجونة السينمائي في دورته الخامسة.
كانت معادلة حصول الفيلم على جائزة كتلك من أرفع مهرجانات العالم تقديرًا في صالح الفيلم تمامًا دون النظر من الأساس إلى قصته أو سياقه أو مفهومه، كأن يشاهدك أهلك على شاشة التلفزيون. ستقابل بالمديح بعدها أيًا كان حديثك الجاهل أو المتعلم؛ ظهورك على التلفزيون مبهر في ذاته دون سياق وكذلك الحصول على جائزة دولية لم تراها مصر قبل ذلك.
الملاحظة الأولى التي كانت في ذهني باعتباري أذهب يوميًا لمشاهدة فيلم السهرة في “البلازا” قبل “ريش” هي أنه الفيلم الوحيد الذي كان كامل العدد، ما يعني وجود قرابه الـ 1500 متفرج أو أقل قليلًا، وقف الخلق ينظرون ما الشيء الذي استطاع أن يلفت نظر “الناس في بلاد برا” بكل مشاعرهم؛ استنكار وشوق ولهفة وترقب. وغالبًا لم يقرأ عدد ليس قليل منهم حتى ملخص الفيلم التوضيحي البسيط المكون من سطر واحد قبل أن يستثمروا وقتهم فيه، ستظهر نتيجة ذلك بعد قليل.
بدأت النهنهات مع مرور الربع ساعة الأولى، ولم تكد تنتهي حتى انسحب عدد من كبار الفنانين المصريين احتجاجًا على ما يمثله الفيلم من “إساءة لمصر”، لينسحب النجوم يسرا وشريف منير وأشرف عبد الباقي وأحمد رزق والمخرج عمر عبد العزيز وغيرهم إلى جانب عدد من الجمهور.
بعد ذلك، سأستمع إلى شريف منير يقول عن الفيلم أن “صورة الفيلم لم تعجبه، حيث يعيش أبطال الفيلم واقعًا قاسيًا يمثّل عذاباً غير طبيعي، وشكل مؤذٍ يزيد عن الحد المقبول” متجاهلا مبادرات “حياة كريمة” و”تكافل وكرامة” وغيرها من المبادرات التي تحارب الفقر والعشوائيات، وتكفل حياة كريمة للمواطنين في مصر، في ظل “جمهورية جديدة”.
يمثل رأي شريف منير عدد لا يمكن التقليل منه على الإطلاق. بعد خروجي من الفيلم استمعت إلى عدد من التعليقات التي يقول أن أغلبها أن الفيلم أصابهم بالاكتئاب.
في مقابل موقف النجوم و”وطنيتهم” سيقف نجوم ونقاد مذهولين أمام فيلم شديد الذكاء والنباهة والتفرد. وتأييد “وطني” سابق كانت احتفلت خلاله وزارة الثقافة المصرية ذاتها بصناع الفيلم بعد فوزه في مهرجان كان. وأشخاص قرأت على مواقع التواصل وقوفهم بجانب الفيلم “العظيم” دون مشاهدته. بمنطق سياسي تمامًا معارض لموقف مؤيدي الدولة، لا علاقة حقيقية للسينما التي تعرضها ريش من عدمها، فماذا يعني كل ذلك للفيلم؟
في النهاية كل هذا النقد والاتهامات بسوء السمعة بدأت مع بداية السينما في مصر. عندما تقرأ ستجد أول رواية بالمعنى الحديث للرواية التي كتبها محمد حسين هيكل رواية “زينب” التي أخرجها للسينما محمد كريم، رواية تدور في ريف مصر وقتها، كتب محمد كريم في مذكراته، أنه هو ذاته من قراره نفسه قرر عمل ستديو مصنوع للتصوير بعيدًا عن الفقراء الذين يحكي عنهم، “أردت صناعة عالم عن القرية التي في خيالي” ليست كما شاهدتها” لأنه كان يراها “أقبح” من تصويرها، الأمر ليس جديد.
لماذا كل هذا الجدل؟ ما الذي يجعله استثنائيا؟
من بين حوالي 4000 فيلم مصري بين الروائي والتسجيلي الطويل والقصير لم يحالف الحظ أحدهم لحصد تلك الجائزة من “كان”، يصنع التاريخ وحده لجيل سينمائي جديد يمثله المخرج عمر الزهير الذي يقدم أول الأفلام الروائية الطويلة له، بالشراكه في تأليفه مع السيناريست، أحمد عامر، وهو من إنتاج الفرنسيين جولييت لوبوتر وبيير مناهيم، بالمشاركة مع “فيلم كلينك” والمنتج محمد حفظي والمنتجة شاهيناز العقاد.
شيء مثير للانتباه كان يحكيه في حوار جانبي مخرج الفيلم عمر الزهيري. يقول كلاما معناه أن عرض الواقع بكل قسوته في فيلم سينما شيء فج، كل فن يحتاج إلى خلق، إلى خيال، أحتاج إلى أن يتلقى المشاهد أكبر قدر ممكن من المشاعر، لم تعتد السينما المصرية على صناعة أو مشاهدة هذه القصص بتلك الطريقة العجائبية، ستجد محاولات قليلة من “رأفت الميهي والكاتب ماهر عواد لكنها ليست بتلك المجازقة والجرأة والتجرد.
لا يوجد أسماء، دون سياق مكاني أو زماني محدد يجعل ارتباطه بمصر أو غيرها سمه مميزة، بطلة جامدة الملامح، نشاهد الفيلم بعيونها، فتاة غير مدركة لأي شيء، تشعر بالأشياء فقط، ربة منزل تعيش حياة قاسية مع زوجها المتسلط المسحوق في حياته لجني لقيمات يقتات عليها مع أسرته. تضطر الزوجة لمواجهة العالم وحدها تمامًا في لحظة خيالية يتحول فيها زوجها على يد ساحر إلى دجاجة، تنتطق الزوجة إلى إنقاذ زوجها.
هذا ليس سياق ميلودرامي، هو كوميديا عبثية لم نستخدمها، زوج تظهر عليه القوة البدنية، والقدم المحفور عليها قسوة العمل المستمر، صوت رخيم يصرخ في منزله أغلب الوقت، يتحول إلى دجاجة، وما يقرب من عشرة أغاني قديمة موظفة عكسيًا مع إيقاع الصورة المعروضة، تخلق عبث تُحتمل خفته، ما هذا؟ هل تصدق أن هذه قصة فيلم مصري؟
“ريش” هي صفات الأبطال ليس اسم الفيلم فقط، “ريش” هي تسمية عبثية مضحكة يمكن السخرية منها قبل حتى مشاهدة الفيلم، أبطال فيلم جميعهم دون استثناء أشبه بالصفة التي يحملها الريش: هش للغاية وخفيف ويمكن التنازل عنه بسهولة داخل حياة قد لا تصدّق قسوتها وحدتها وما يمكن أن تخلقه في من يشاهدها من اكتئاب وغضب واشمئزاز من مجرد التفكير في وجودها من عدمه.
صراع الطبقة التي يمثلها عدد من الساخطين على الفيلم في مقابل الصرخة التي يمثلها الفيلم للفقراء والمهمشين ربما لا تخص جوهره، لا يبحث عمر الزهيري على عرض قضية الفقر المصري في المحافل الدولية، أذكى قليلًا من أن يقف في موقف الدفاع الذي يسلكه طوال الوقت أصدقاءنا الطيبون الساذجون الذين يغضبهم كلام شريف منير أو غيره دون أن يقفون لمناقشته.
فيلم ريش حدث استثنائي يعلم أهميته كل مهتم بالسينما، مذهل، يحكي عن كل شيء دون التورط في شيء بعينه، المرأة التي تكتشف قوتها وحدها في مواجهة العالم دون زوجها المسيطر، أو الزوج المسحوق أمام آلة العمل التي لا تنتهي، أو العبثية التي يعيشها الإنسان عمومًا، إنسان الفيلم غير المحسوب على مكان أو زمان بعينه أو ربما أشياء أخرى.
بعد العرض كنت أقف مع أحد الأشخاص الذين استلموا سيناريو الفيلم قبل تنفيذه، كان يقول أن ملخص الفيلم الذي قرأه وقتها هو الشيء ذاته الذي رآه على الشاشة ولا يفهم لماذا الحديث عن المؤمرات أو الفقر أو غيره، “الهدف من القصة هو حدوتة المرأة المقهورة أمام زوجها ولا تتخيل مواجهة العالم ثم تضطر لمواجهته دون رغبتها”.
من يستحق الإشادة في أزمة “ريش”؟
بعد كل ذلك، بالطبع سيأخذ كل عمل فني أصيل تأويلات اجتماعية وسياسية تتجاوزه، سيغضب البعض من إظهار الفقر في ذاته، وكذلك سيغضب البعض من إخفاءه مهما حاول المخرج الهروب من الأمر، بالتالي بعد سرد موجز عن سياقه الفني ومبررات الاحتفاء به فنيًا ربما من الأفضل مط الحديث لما هو أبعد من ذلك، لمن يستحق الإشادة فعلًا؟
لماذا تصنع أفلام عن الفقراء والمهمشين؟ لماذا تحصد هذه الأفلام جوائز؟ لأنها سينما مستقلة، لم تجد أساسًا من يستثمر فيها أمواله، شيء شديد البديهية أن تأت حكايتها من هامشية صناعها أنفسهم، لم نجد ثمة مؤامرة في القصة، بديهي تمامًا، لن نتوقع صناعة فيلم مستقل يحارب صناعه يوميًا لخوض صراعه يحكي عن صعوبة وصول أبناء التجمع في مصر أثناء وصولهم إلى وسط المدينة والعودة منها، تحصد الجوائز ربما لأنها أكثر صدقًا ومغامرة وجرأة، لأنها في قلبها كل ما يحتاج الفن إليه ليصبح أصيل.
إذا كان الفرد فقير لا يملك الاختيار، بالطبع ستصبح نظرته تجاه ذاته تمامًا مثل نظرة الآخرين له، في داخلها ما يدعو للخجل والغضب والاشمئزاز، وهي أشياء لا يحتملها الكثير.
تحية واجبة وأخيرة كُتب هذا المقال لأجلها، خارج كل السياقات الاجتماعية والسياسية والفنية التي دار حولها صراع فيلم “ريش”، لن تكون للمخرج المذهل عمر الزهيري أو شريكه الكاتب أحمد عامر، لكنها بالأخص إلى شركات الإنتاج الثمانية التي استثمرت فيه، صدقته قبل الجميع.
تحية شكر إلى المنتجة المصرية شاهيناز العقاد والمنتج المصري محمد حفظي اللذان استثمرا في خيال مخرج شاب لم يكن يملك فرصة، في عمله الأول المغامر، المتوقع مهاجمته. وربما عدم فهمه كفاية، واحتمال الدخول في صراعات كان يمكن تجنبها كعربون محبة لمجهولين يكرهوا الجدال والحراك الذي يخلقه “ريش” يتطاير بين الطبقات في مصر، حراك يجدد الدم والفكر نحو كل شيء، ومناقشات هي الهدف الأسمى وراء كل فن حقيقي، في بلد يملك آلاف مثل عمر الزهيري، لديهم فنهم وأسلوبهم المتفرد في انتظار منتجون مثلهم.