تتحدد ملامح “الشرق الأوسط الجديد” -ذلك المفهوم الذي بات شائعا في أدبيات الكتابة عن المنطقة- نتاج تقاطع سلوك ثلاثة أنواع من الفواعل: دولية، وأخرى إقليمية، وثالثة تخص تفاعلات قوى التغيير والقوى المضادة له.
فمع تقليص الولايات المتحدة لطموحاتها في الشرق الأوسط، عادت روسيا إلى المنطقة، كما أن مشاركة الصين في ازدياد، والاتحاد الأوربي -على ما يبدو – قد خرج من التوازنات.
تؤدي هذه التحولات في مشاركة القوى العظمى إلى زيادة عدم الاستقرار الإقليمي، فضلاً عن تعزيز قدرة الصين وروسيا على تشكيل النتائج، وعلى الرغم من المدى الذي يمكن أن يكون لعدم الاستقرار في المنطقة تداعيات خطيرة على أوروبا، نظرًا لقربها الجغرافي وروابطها المجتمعية مع المنطقة، فإن الاتحاد الأوروبي أقل وضوحًا نسبيًا كطرف فاعل من الولايات المتحدة أو روسيا أو حتى الصين.
سلوك القوى الإقليمية وتفاعلاتها المختلفة في المنطقة المحدد الثاني في رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد، وهنا يحسن أن نشير إلى نقطتين الأولى أن الفواعل في الإقليم لم تعد قاصرة على الدول فقط بل ضمت عديد الحركات دون الدولة والعابرة لها، أما الثانية فإن مفهوم الكتل والمحاور الإقليمية الذي نشأ كمنهج نظر في إطار المؤسسات الأمنية الإسرائيلية.
لم يعد صالحا لفهم سلوك وتفاعلات الفواعل التي توزعت على محاوره الأربعة (القطري التركي ومعه الإخوان، والسعودي الإماراتي المصري، والإيراني بامتداداته في الإقليم، وحركات السلفية الجهادية بتنوعاتها). فنموذج المعسكرات الأربعة يستند إلى جذور مفاهيمية خاطئة لوصف المنافسين وتصنيف التهديدات. إن تقديم الممثلين على أنهم “محور” أو “معسكر” يجعلهم يبدون موحدين/ متجانسين للغاية، وبالتالي يؤدي إلى صورة غير دقيقة للشرق الأوسط، كما يركز نموذج المحاور على الاختلافات الدينية والأيديولوجية بين المعسكرات، بينما يتجاهل السمات والاعتبارات المهمة الأخرى، بما في ذلك الواقعية والاستراتيجية الجغرافية، التي تحمل وزنًا أكبر للفاعلين أنفسهم وثالثا: فإن النموذج يميل إلى تسليط الضوء على قوة النظام في الشرق الأوسط؛ بينما يبدو أن المنطقة لامركزية إلى حد كبير، وأن الطبقة الأكثر أهمية من التحليل هي الجهات الفاعلة نفسها – سواء الدول أو الكيانات التابعة للدولة أو العابرة لها، وأخيرا: فإن النموذج يغطي المنطقة جزئيًا فقط ولا يساهم في فهم عدد الجهات الفاعلة التي تحافظ على مواقعها ووظائفها خارج المخيمات مثل المغرب والجزائر.
ما يجب التأكيد عليه وأثبتته تحولات سلوك الفواعل المختلفة (التقارب الإماراتي التركي، والحوار السعودي الإيراني، والمصري التركي …إلخ ) أن الشرق الأوسط فوضوي، حيث يتصرف العديد من الجهات الفاعلة وفقًا لأسباب منطقية مختلفة ويشكلون بشكل ديناميكي تجمعات مؤقتة.
المحدد الثالث: هو تطلعات شعوب المنطقة خاصة الفئات الشابة منها نحو العدالة والكرامة والحرية، أو ما يمكن أن نطلق عليه “حالة الربيع العربي” التي تتوقع عديد دراسات الشرق الأوسط استمرارها بحكم أن المظالم التي أشعلتها لم تتم معالجتها حتي الآن.
تراجع أمريكي مع حضو ر صيني وروسي
تتكشف ثلاثة اتجاهات جيوسياسية واسعة بشكل متزامن في الشرق الأوسط بما يفرض على أوروبا أن تكافح معها لتعزيز مصالحها في المنطقة.
أولاً، بدأت الولايات المتحدة إعادة صياغة طويلة المدى لمشاركتها الإقليمية، مما يترك مجالاً أكبر لكل من القوى الإقليمية والقوى الكبرى لممارسة نفوذها.
ثانيًا، عادت روسيا إلى الشرق الأوسط وهي تتدخل ببراعة لملء الفجوات التي خلفتها الولايات المتحدة.
ثالثًا ، أصبحت الصين لاعباً اقتصادياً متزايد الأهمية في المنطقة. على الرغم من أن بكين تفضل الاستمرار في بناء بصمتها الاقتصادية واستيراد الطاقة مع عدم تحملها أية أعباء لتوفير الأمن في المنطقة استنادا إلى قيام الولايات المتحدة بذلك، إلا أن المصالح الاقتصادية الصينية والأمريكية في المنطقة قد تتعارض وتؤدي إلى التصعيد بينهما. تؤدي هذه الاتجاهات الثلاثة إلى زيادة التقلبات الإقليمية التي تزيد من قوة روسيا والصين لتشكيل النتائج بطرق تقوض قدرة الاتحاد الأوروبي على حماية مصالحه وتعزيز أجندته المعيارية في الديموقراطية والحكم الرشيد والتنمية بالقطاع الخاص. يخاطر الاتحاد الأوروبي بالتهميش على نحو متزايد في المنطقة.
بدأت الولايات المتحدة في إعادة ضبط نهجها في المنطقة في ظل إدارة أوباما (2009-2017). على الرغم من أن معارضة الولايات المتحدة لطموحات إيران النووية ظلت ثابتة لعقود من الزمن، إلا أن تغيير المصالح الأمريكية أوقف إعطاء المنطقة أولوية مختلفة للاهتمام والموارد. مع صعود الصين، بدأت واشنطن في تركيز اهتمامها على منطقة آسيا والمحيط الهادئ، المعروفة الآن باسم “التحرك إلى آسيا”، كما أن زيادة الإنتاج المحلي من النفط والغاز الصخري حررت الولايات المتحدة من الاعتماد على تدفقات النفط الخام من الخليج (وإن ظلت أسعاره مهمة لحلفائها)، والتي كانت محركًا رئيسيًا لانخراطها في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، فإن التهديد الذي تشكله القاعدة علي الوطن الأمريكي أقل، وأمن اسرائيل بات مؤكدا في ظل اتفاقات التطبيع التي تم توقيعها مع بلدان عربية مختلفة بما يمكن معه الحديث عن دمج أمن اسرائيل في الأمن الإقليمي للمنطقة. نتيجة لذلك كله أصبحت واشنطن أقل استعدادًا لمراقبة النظام الإقليمي كما فعلت من قبل.
اعتمدت الولايات المتحدة بشكل متزايد على حلفائها، سواء من الدول أو من غير الدول، للتدخل في النزاعات الكبرى في المنطقة، وعملت خلف الكواليس لتعزيز توازن القوى بين الكتل التي تقودها السعودية وإيران على أمل تعزيز الاستقرار الاستراتيجي الإقليمي، كما تضاءلت شهية الأمريكيين لمبادرات بناء الأمة بشكل كبير في أعقاب الصعوبات التي تمت مواجهتها في تحقيق الاستقرار في أفغانستان والعراق بعد عام 2003، بينما أصبح تركيز الولايات المتحدة الضيق على مكافحة الإرهاب أكثر وضوحًا.
لذا فمن غير المرجح أن تنخرط الولايات المتحدة في تدخلات عسكرية واسعة النطاق في المستقبل المنظور. إن تغيير المصالح الأمريكية في المنطقة والمعارضة العلنية الواضحة لمثل هذه التدخلات العسكرية تعني أنه ما لم تتم مهاجمة أرض الولايات المتحدة بشكل مباشر، فلن يكون هناك إقبال على هذا النوع من الاشتباك المباشر في الوقت الحالي، ويبدو أن بايدن قد يتخذ نهجًا أكثر مبادأة تجاه مغامرات الحلفاء الإقليميين، كما هو الحال بالفعل فيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية في اليمن، كما سيعمل ضد حدوث قطيعة جذرية في علاقات الولايات المتحدة الأمنية الثنائية مع حلفائها في المنطقة في ظل منافسة القوى العظمى. هكذا تغيرت أولويات الاهتمام الأمريكي ومصالحها، وبرغم ذلك فإن المنطقة بما تتسم به قادرة على إعادة جذب الولايات المتحدة من انسحابها كما جرى مع داعش (٢٠١٤-٢٠١٦) أو في انتفاضة القدس ٢٠٢١.
في تقويم دور روسيا وباختصار، فمن المستحيل إنكار أن روسيا الآن لاعب رئيسي في الشرق الأوسط. لقد استخدمت بفعالية مشاركتها في الصراع السوري لتعزيز صورتها كقوة عظمى، بينما تمكنت ببراعة من الحفاظ على علاقات متوازنة مع دول المنطقة. علاوة على ذلك، من المرجح أن يستمر الوجود الروسي في المنطقة لبعض الوقت. هناك حوافز اقتصادية قوية لروسيا لمواصلة تعزيز علاقاتها مع دول الشرق الأوسط، من خلال الأسلحة والطاقة ومبيعات الحبوب، فضلاً عن بناء المنشآت النووية والاستثمارات في قطاعي النفط والغاز، وإذا ظهرت فرص لتحسين صورتها كوسيط إقليمي للقوة، فمن المرجح أن تستفيد موسكو منها.
لكن يظل هناك حدود لهذا الدور الروسي فبقدر ما تستطيع أن تأخذ في الاعتبار تأثير جائحة فيروس كورونا على اقتصادها. على الرغم من أن التدخل العسكري الروسي في سوريا لم يكن مكلفًا للغاية، فقد يتعين أن يتحول انتباه الكرملين إلى الداخل. قد يؤدي التباطؤ الاقتصادي في روسيا بسبب الوباء، إلى جانب تقلبات أسعار النفط العالمية، إلى تقييد طموحات السياسة الخارجية لموسكو على المدى القريب. علاوة على ذلك، فإن البعد الأمني البارز لدور روسيا في الشرق الأوسط يقف على النقيض من دور الفاعل الدولي الآخر الذي نمت صورته في المنطقة بنفس القدر -أي الصين.
الطاقة في قلب مصالح بكين في الشرق الأوسط؛ فحوالي 40 في المائة من وارداتها من النفط الخام من المنطقة ، لذا يجب أن تكون الطاقة في صميم علاقاتها مع دول الشرق الأوسط خاصة في الخليج، وأن تكملها البنية التحتية وكذلك التجارة والاستثمار، وأن تعززها التعاون في مجالات مثل الطاقة النووية والأقمار الصناعية ومصادر الطاقة المتجددة.
إن استثمارات الصين، وارتفاع عدد المواطنين الصينيين في الشرق الأوسط، والاعتماد على واردات الطاقة من المنطقة، تؤدي بطبيعة الحال إلى دور أمني إقليمي أقوى.
إجمالاً، تُرجمت اهتمامات بكين الكبيرة في المنطقة إلى شكل من أشكال المشاركة له مكون اقتصادي أقوى من روسيا، بالإضافة إلى بُعد أمني متواضع ولكنه متزايد. في الوقت الحاضر ، تدرك بكين أنها غير قادرة على توفير نوع الضمانات الأمنية التي تتمتع بها الولايات المتحدة منذ عقود، كما أن دول الشرق الأوسط تعرف ذلك أيضًا. علاوة على ذلك، فإن العلاقات العسكرية والأمنية الثنائية للصين والبنية التحتية العسكرية في المنطقة تتضاءل مقارنة بالولايات المتحدة.
قد يكون من الصعب تجنب التوتر بين الصين والولايات المتحدة في الشرق الأوسط؛ فالمشاركة الصينية في مشاريع البنية التحتية التكنولوجية والمادية في المنطقة تثير القلق بالفعل في واشنطن، ومن المرجح أن يتعرض الشرق الأوسط لضغوط متزايدة من الولايات المتحدة “للاختيار” بين الضمان الأمني الأمريكي والعلاقات الاقتصادية مع الصين، علاوة على ذلك، من شبه المؤكد أن الولايات المتحدة ستعارض تعميق التعاون الأمني العسكري بين الصين وحلفائها الإقليميين.
في ظل هذه القوى الخارجية الثلاث توجد أوروبا التي علي ما يبدو أنها قد ضعفت أو خرجت من موازين القوى الكبرى في المنطقة. إن انخراطها الإقليمي في الشرق الأوسط مدفوع بمخاوف بشأن حركات اللاجئين والهجرة، والتطرف، والإرهاب، وأمن الملاحة، والحاجة إلى الحفاظ على استقرار أسعار النفط، وعلى الرغم من المدى الذي يمكن أن يكون لعدم الاستقرار في المنطقة تداعيات خطيرة على أوروبا، نظرًا لقربها الجغرافي وروابطها المجتمعية مع المنطقة، فإن الاتحاد الأوروبي أقل وضوحًا نسبيًا كطرف فاعل من الولايات المتحدة أو روسيا أو حتى الصين في المنطقة.
سيحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تقييم كيفية تأثير الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق على قدرتها على تعزيز نهجها التحويلي لتحقيق الاستقرار المستدام في الشرق الأوسط. تقدم الصين نموذجًا للنجاح الاقتصادي جنبًا إلى جنب مع الاستبداد الذي يجذب العديد من القادة في المنطقة. علاوة على ذلك، يمكن أن تساعد استثماراتها في المنطقة في الحفاظ على الاتجاهات الاستبدادية، على سبيل المثال، من خلال تصدير تقنيات المراقبة. نتيجة لذلك، قد يصبح تعزيز الإصلاحات السياسية التي يعتبرها الاتحاد الأوروبي محوريةً لممارسات الحكم الرشيد والاستقرار طويل الأمد أكثر صعوبة بالنسبة لبروكسل.
من المؤكد أن البيئة الإقليمية الأكثر تعقيدًا ستشكل تحديات ليس فقط لأوروبا، ولكن للغرب بشكل عام. يؤدي تقليص الطموحات الأمريكية في المنطقة إلى زيادة عدم الاستقرار الإقليمي حيث تستجيب دول الشرق الأوسط بتبني سياسات خارجية أكثر حزما، مما يعقد الصراعات القائمة وربما يغذي صراعات جديدة، وفي حال توجه دول المنطقة إلى تقليل وتخفيف حدة الصراعات فيما بينها فإن ذلك سيأخذ وقتا بما يؤدي أيضا إلى استمرار عدم الاستقرار في ظل عدم بدء حوار جاد حول صيغة للأمن الإقليمي.
العمارة الإقليمية
السمة المميزة للنظام الإقليمي في العقد الماضي كانت صراعًا متناميًا حول شكل الشرق الأوسط يتحرك على مستويين: صراع بين المعسكرات المتنافسة التي تسعى إلى تشكيل معالم ومميزات مهيمنة على الشرق الأوسط، ومواجهة داخل الدول بين الجماهير والنخب الحاكمة حول القضايا الأساسية الاقتصادية والحكمية والمتعلقة بالهوية.
كانت العمارة الإقليمية القديمة هي التي كانت فيها الدول القومية هي الجهات الفاعلة المهيمنة (على عكس الكيانات أو المعسكرات غير الحكومية)، وكانت الأفكار عبر الوطنية مثل القومية العربية ضعيفة (خاصة بعد عام 1967)، وكانت الأجندة الإقليمية تمليها إلى حد كبير الدول العربية الأساسية؛ مصر وسوريا والعراق.
في أعقاب ذلك نشأت ظواهر ثلاث: نهاية الحرب الباردة، والربيع العربي، والطريقة التي كان يُنظر بها إلى الانسحاب الأمريكي؛ بما أدى إلى ثلاث عواقب: أولا، كان هناك “استقلال ذاتي” للجهات الفاعلة الإقليمية: ألقى السعوديون والإماراتيون أنفسهم في مغامرة اليمن بدون شبكة أمان، وأرسلت تركيا جيشها إلى سوريا، كل واحد يذهب بمفرده مع سياسته تجاه العراق، والسياسة السورية وأخيرا سياستهم تجاه ليبيا، إلخ. ثانيًا، قدمت الاضطرابات الإقليمية والطريقة التي كان يُنظر بها إلى الانسحاب الأمريكي فرصة لروسيا لتحقيق عودتها الكبرى- كما قدمت. ثالثاً، كان فراغ السلطة الذي خلفه إضعاف سلطة الدولة وفك الارتباط الأمريكي مؤشراً على أن الوقت قد حان من أجل صعود قوة حركات إرهابية مختلفة: القاعدة وداعش وغيرهما.
مفهوم النظام الإقليمي العربي الذي درسناه في أوائل الثمانينيات في كلية الاقتصاد -جامعة القاهرة ينبع من الافتراض بأن النظام يعني أن التطورات فيه يجب أن تكون دائمًا متصلة أو تتكشف وفقًا لمنطق داخلي واحد وموحد ولكن أحداث العقد الماضي تعزز الفكرة القائلة بأن السمة المهيمنة في الشرق الأوسط اليوم ليست أي نوع من النظام بل بالأحرى الفوضى والتشرذم واللامركزية.
قدمت أن مفهوم المعسكرات والكتل والمحاور لم يعد يصلح لفهم وتفسير تطورات المنطقة وتحولاتها الدائمة وحالة السيولة التي تحكمها، كما أن مفهوم النظام الإقليمي العربي لم يعد صالحا ومنذ حرب الخليج الثانية ١٩٩٠ /١٩٩١، وهذا يتطلب متابعة للسلوك الفعلي للفواعل الكثيرة في المنطقة التي يغلب عليه البراغماتية.
إن البراغماتية تعني أن الدول تميل إلى تشكيل تحالفاتها بناءً على تصورات التهديد الفوري والقدرات المتاحة بدلاً من الأهداف الإستراتيجية طويلة المدى والتوجهات الجيوسياسية المشتركة عند اتخاذ قرارات السياسة الخارجية. وبرغم ذلك فلا يمكن بحال أيضا تجاوز تأثيرات التوجهات الاستراتيجية في أحيان حيث يظل التنافس قائما ومستمرا حول شكل الشرق الأوسط “الجديد”، كما يغذيه اختلاف الرؤى والتصورات حول بعض القضايا ذات الطابع الايديولوجي مثل تعريف الإرهاب والجماعات التي تنضوي تحته، والعلاقة مع الكيان الصهيوني في ظل تصاعد اتفاقات التطبيع، والموقف من الغرب وأخيرا العلاقة مع جماعات الإسلام السياسي.
وهكذا فمن المتصور استمرار التنافس بين الفواعل الإقليمية وفي الوقت ذاته تسعي لايجاد أطر لإدارة التنافس بما يسمح بتخفيف حدة الصراع الذي ميز العقد الماضي.
تطلعات الجماهير العربية
تواجه الأنظمة -ولا سيما القادة السياسيون والنخب ومؤسسات الدولة التي لا تزال تمثل حصونًا لبقائها – جماهير محبطة وخيبة أمل وتسعى جاهدة لاحتواء عدم الاستقرار المحلي الناشئ عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية المستوطنة، والتي تشمل البطالة والفساد وعدم المساواة والاعتماد المفرط على الاقتصاد الريعي المبني علي مبيعات النفط والغاز أو المساعدات والديون الخارجية، فضلاً عن الضغوط المتعلقة بالهوية في شكل صدامات قبلية وانقسامات طائفية ومعاملة الأقليات العرقية والدينية.
في العقد المقبل، يؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي – سواء بسبب عدم الاستقرار، أو تداعيات جائحة كورونا، أو الحروب الأهليه، أو انهيار مؤسسات الدولة الأساسية، إلى ارتفاع مستويات البطالة، بحيث أنه عشية تفشي COVID-19 ، كان ثلثا سكان المنطقة قد تأثروا، خاصة ممن تقل أعمارهم عن 35 عامًا، وبلغ معدل البطالة بين الشباب 25 في المائة (البنك الدولي ، 2020). كما زاد الفقر بشكل ملحوظ خلال هذه الفترة (حتى في الدول المنتجة للنفط حيث من المفترض أن يكون احتياطي عائدات الهيدروكربون قد خفف من هذا الاحتمال)، كما تستمر المنطقة في التفاخر بأعلى مستويات عدم المساواة في الدخل في العالم.
وكما يرى الباحثان الاسرائيليان Itai Brun, Sarah Feuer في مقالهما الهام “في البحث عن نظام إقليمي”In Search of a Regional Order: The Struggle over the Shape of the Middle East – INSS: “أن البلدان التي تمكنت فيها أنظمة ما بعد عام 2011 من قمع احتجاجات إضافية، يعلم القادة والحكومات أنهم يواجهون تهديدًا مستمرًا من الجماهير المتحمسة التي تطالب بالإطاحة بها.” ويضيفا أنه “في غياب حل، ستستمر هذه المشاكل في تأجيج التوقعات المتباينة بشكل متزايد بين الأنظمة والشعب، وهي ديناميكية من شأنها أن تثير موجات مستقبلية من الاحتجاج الشعبي و / أو الهجرة من المنطقة، والتي يمكن أن تؤدي إلى نفس النتائج المزعزعة للاستقرار”.
نختم فنقول: إنه في الخطاب السائد حول مشهد ما بعد الربيع، ظهرت ثلاث مقاربات عامة لفهم الشرق الأوسط. يفترض الأول أن النظام الإقليمي قد تبلور في نظام جديد ومستقر نسبيًا، والذي يختلف اختلافًا جوهريًا عن النظام الذي تم استبداله في عام 2011. بينما يؤكد النهج الثاني أن الشرق الأوسط قد عاد إلى نظام ما قبل عام 2011 وسيظل هناك لمدة المستقبل المنظور. نهج ثالث يؤكد أن المنطقة لا تزال في فترة انتقالية، ولم تستقر بعد في أي نظام، وستتسم في السنوات القادمة بعدم اليقين وعدم الاستقرار والتقلب. في رأيي فإن انهيار نظام ما قبل 2011 لم ينتج عنه نظام جديد في الشرق الأوسط، ولا المنطقة عادت إلى النظام القديم، بدلاً من ذلك -حتى مع وجود عناصر من نظام جديد إلى جانب جزر قديمة -تظل المنطقة في فترة انتقالية طويلة، حيث تواصل الفواعل المتعددة والمتنافسة الصراع من أجل الهيمنة، والنتيجة لم تُحسم بعد، لذلك، سيظل الشرق الأوسط عرضة لمزيد من الاضطرابات وعدم الاستقرار وعدم اليقين الكبير. إن فكرة الاضطرابات المستمرة تعززها أوجه القصور الاقتصادية الأساسية في المنطقة (على سبيل المثال، بطالة الشباب، والفساد، واقتصاديات الظل، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والاعتماد المعوق على النفط)، وصراعات الهوية (سواء كانت دينية أو عرقية أو قبلية) التي تفاقمت في كثير من النواحي منذ عام 2011، ولا سيما في ضوء الوباء.