لا أعتقد أن خروج بعض الممثلين غاضبين من عرض فيلم «ريش» للمخرج عمر الزهيري خلال مهرجان الجونة، كان مبعثه رفض ظهور فقراء على الشاشة من حيث المبدأ، بل أغلب الظن أن السبب هو أن هؤلاء الفقراء لم يظهروا في الفيلم على الطريقة التي درجت الشاشات المصرية على تقديمهم بها على مر السنين، إنهم لم يكونوا “فقراء الشاشة” الذين اعتاد عليهم هؤلاء الفنانين، سواء في الشاشة الصغيرة أو الكبيرة.
ومن قبل كان أهل الصعيد هم أكثر من يشتكي من «صورتهم على الشاشة»، ومن الأعمال الدرامية التي لم تكتف بأخطاء اللهجة والعادات، بل درجت على تقديمهم في صورة نمطية مكررة، حتى تكاد تصوّر للمشاهد، خصوصا إذا لم يكن مصريا، أن كل صعيدي لابد أنه مطارد بثأر ما، وأنه في أي لحظة قد يهرب «في الجبل»، وأنه عند أدنى خلاف معك سوف «يطخك عيارين». إن هذا التنميط لا تكمن غرابته في المغالطات والمبالغات فحسب، بل أيضا في كونه يتكلم عن قطاع من السكان يقل قليلا عن نصف سكان مصر، وعن مساحة جغرافية تمتد من جنوب الجيزة إلى بحيرة السد العالي، فضلا عن «الصعايدة» المقيمين في العاصمة ومدن الوجه البحري، وقد التقيت بالفعل بعضا من المشاهدين العرب، الذين ظن بعضهم أن الصعيد هو مجرد مدينة أو قرية معينة في إحدى بقاع مصر، وكانوا يندهشون عندما يكتشفون أن هذا الذي يكلمهم – وكذلك الكثير ممن يقابلونه – من الصعيد، لكنه لا يحمل بندقية على كتفه وعمامة هائلة على رأسه ولا يحتفظ برقم خُط الجبل.
أما الفقراء فهم بالطبع في كل مكان من الجنوب إلى الشمال وفي الشرق والغرب، وهم موجودون حتى من خلال العمالة داخل الكمبوندات التي انعزل داخلها كثير من نجوم السينما والتلفزيون، انعزالا بلغ أنهم نسوا أن مصر فيها «مثل هذا الفقر» أو «لا يزال فيها»، ولكن حتى في السنوات التي لم يكن فيها وجود أحياء الفقر والعشوائيات مثار جدل وإنكار، ركزت الأعمال الفنية التي تناولت عالم الفقراء على أخلاقياتهم وصفاتهم الشخصية، وحاولت تجميل عالمهم بالاكتفاء بالإشارة إلى أمانتهم و«جدعنتهم» حتى لو كان بعض شخصيات الأعمال الفنية من مخترقي القانون أو البلطجية، وفي كل الأحوال، وأيا كانت تلك الأعمال الفنية، سعيدة أو حزينة، «هادفة» أو لأجل التسلية، فإنها تجاهلت – باستثناء بعض أعمال مخرجي الواقعية الجديدة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات – تقديم صورة بصرية صحيحة عن عالم الفقر والفقر المدقع، عالم الضيق والزحام والمرض والقذارة، على العكس؛ لازلنا نشاهد في بيوت فقراء المسلسلات مساحات هائلة كأننا في بهو فيلا أو قصر، وغرف متعددة وموائد عريضة، وبالطبع ملابس نظيفة وتسريحات شعر مكلفة وماكياج لا يؤثر فيه الحر والعرق، فالعرق الوحيد المسموح به هو «عرق الجبين» الذي يبذله الأب الشريف أو الأم التي تعمل على ماكينة الخياطة للإنفاق على الأولاد، إنه عرق مجازي لا نراه فعلا على الشاشة، تماما كما كان يفعل أهل السينما في تقديمهم للحارة قبل حوالي 100 عام، قبل أن يصدمهم كمال سليم بحارة حقيقية في فيلمه «العزيمة» 1939.
ومن كمال سليم إلى عمر الزهيري ظل الصدق الفني يربح في المعركة جولة ويخسر جولات، لأن من يتكلمون باسم الدفاع عن الفن والمجتمع، هم الذين سرعان ما يستسلمون لوصفة التسلية وسينما الفيشار حتى يصدمهم في كل حين فيلم حقيقي.