تحولت مصر من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري في 18 يونيو 1953 م، وتعاقب على حكمها عدد من الرؤساء، لم يرثوا السلطة عن آبائهم، ولم تنتقل عنهم لأبنائهم، وبالقطع لم تتزين أسماؤهم بألقاب الملوك، ولم تتزين رؤوسهم بتيجان الملوك، لكن فيما عدا ذلك فإنهم -باستثناء نجيب ومرسي- فإنهم كانوا من حيث الشكل الدستوري رؤساء لكنهم من حيث المحتوى والمضمون مارسوا المقادير ذاتها من السلطات التي مارسها أسلافهم في الدولة الحديثة من محمد علي وخلفائه سواء في ذلك من حمل منهم لقب الباشا أو لقب الخديو أو لقب السلطان أو لقب الملك..

لم يختلف أي رئيس -من زاوية الاستحواذ على السلطة كاملة- عن أي باشا أو خديو أو سلطان أو ملك، فكل رئيس من رؤساء الجمهورية هو -في الوقت ذاته- باشا وخديو وسلطان وملك من زاويا: الأولى أن سلطته غير محدودة ولا مقيدة، الثانية: أنه يدخلها بنية عدم الخروج منها وهو على قيد الحياة، الثالثة: أنه لا يتوانى ولا يتورع عن اتخاذ ما يلزم من التدابير ليبقي في موقعه إلى اليوم الأخير في حياته، الرابعة: أنه لا يتردد في إحداث وإدخال تغييرات جذرية على النظام السياسي والاقتصادي بما يضمن له ذلك، ثم الخامسة والأخيرة أنه في كل ذلك لا يخرج عن مقتضيات الشكل الجمهوري متمثلة في الحصول علي إذن الشعب وموافقته ورضاه عبر استفتاءات بلا مصداقية أو انتخابات بلا معنى أو مؤسسات بلا أدنى قدر من الحياد أو الاستقلال عن نفوذه وسلطانه وتأثيره.

الملك فاروق
الملك فاروق

ما يجمع بين النظامين الملكي والجمهوري أن الحكام -في كلا العهدين- يعتبرون الحكم حقا لهم، ويترتب على ذلك عدم استعدادهم لأفكار مثل: مشاركة غيرهم لهم في السلطة سواء كانت سلطة الحكومة أو البرلمان أو القضاء أو الصحافة والإعلام والرأي العام أو أي سلطة شعبية في أي شكل كانت، ورفضهم للمشاركة في السلطة -من حيث المبدأ- تجعلهم يستثقلون ما يمهد الطريق لمثل هذه المشاركة مثل حرية التعبير والنقد والمعارضة والعمل النقابي والحزبي والأهلي المستقل عن توجيه الحاكم وتغلغل أجهزته وأدوات نفوذه .

وطالما أن الحكم حق للحاكم، فليس للشعب حق في محاسبته ولا مراجعته ولا محاكمته ولا عزله، كان هذا هو الوضع قبل أن نستورد الدساتير من أوروبا ومازال هذا الوضع رغم الدساتير ورغم الثورات، إذ يتم النظر إلى ثورة 25 يناير 2011م وما ترتب عليها من عزل ومحاكمة الحاكم على أنها غفلة من غفلات الزمن وغلطة من غلطات التاريخ ولا يجوز للغفلة أن تتكرر ولا يجوز للغلطة أن تُغتفَر.

لقد كانت الجمهورية في مصر ومازالت -من 1953 م إلى حين كتابة هذه السطور في أكتوبر 202١ م- أقرب ما تكون إلى الملكية من زاوية تضخيم مكانة الحاكم وإطلاق يده وتعظيم سلطاته، وذلك في مقابل إطفاء روح الشعب والتشكيك في وعيه والتهوين من نضجه والتقليل من جدارته والحط من استحقاقه للديمقراطية وكل ما يشير -بالتلميح والتصريح- أن الشعب مازال قاصرا عن أن يأخذ حريته كاملة أو يتصرف في حقوقه كاملة.

هذه المعادلة الظالمة بطرفيها -تضخيم مكانة الحاكم وتقزيم مكانة الشعب- هي المسؤولة عن إخفاق المجهودات الجبارة التي بذلها المصريون من أجل التحديث على مدى قرنين من الزمان. هذه المعادلة -بهذا الاختلال- سمحت أن يأتي الحكام في العهد الجمهوري إلى السلطة ويبقون فيها عبر استفتاءات فارغة وانتخابات شكلية لا تعبر تعبيرا أمينا عن إرادة الشعب في لحظة الاختيار.

مجلس قيادة ثورة يوليو
مجلس قيادة ثورة يوليو

تأسست الجمهورية منذ اللحظة الأولى على قاعدة الشك في الشعب، الشك بمعنى عدم الثقة، وهو شك شامل ربما لا يستثني غير النساء: شك في وطنية وانتماء وولاء الأغنياء على أساس أنهم كانوا أعوان الملك والإقطاع وخدم الاستعمار، شك في نضج وفهم ووعي الفقراء وأنهم قابلون للـتأثر بالدعايات الضارة بالوطن، شك في الطبقة الوسطى باعتبار أن ولاءها غير مضمون إلا لمصالحها ومطامحها وامتيازاتها، شك في المثقفين باعتبارهم قوة مضادة للعمل الجاد والمنضبط وباعتبارهم قوة منتجة للكلام وبلبلة الأدمغة وليس عندها أكثر من ذلك، شك في البيروقراطية باعتبارها مافيا مستترة للفساد والرشوة وطبائع التملق وأخلاق التلون، شك في الأحزاب باعتبارها تجمعات لمصالح خاصة علي حساب المصالح العامة ثم باعتبارها مخالب قط للاختراق الأجنبي، شك في النقابات باعتبارها قوة كامنة لصناعة الفوضى وإثارة القلاقل، الشك في الريف والفلاح باعتبارهما قوة مكر ودهاء لا تتردد في أن تأخذ وتتردد في أن تعطي، شك في المؤسسات الدينية -من أي دين كانت- باعتبارها سلطة دنيوية تستتر وتتخفي تحت أثواب الدين، شك في الجامعات والشباب باعتبار الجامعات قوة استعلاء وباعتبار الشباب قوة شغب وهكذا.

ربما تكون المرأة هي الاستثناء الوحيد فقد حظيت بإنصاف استثنائي بالذات في الحقوق السياسية منذ منحها الدستور الأول في 1956 م حق المشاركة في الانتخابات بالتصويت وحق الترشح لعضوية مجلس الأمة، واستمرت هذه الثقة في النساء في ازدياد بصورة ملحوظة في حقبة ما بعد 2013م حيث أدرك القمع والترويض جميع الفئات باستثناء النساء.

وبسبب من هذه الشكوك، فإن تأسيس الجمهورية في يونيو 1953م سبقه تأسيس وزارة فريدة وغير مسبوقة في تاريخ مصر، هي وزارة الإرشاد القومي في 10 نوفمبر 1952م، حيث تأسست معها نظرة الحكام الجدد إلى الشعب، فمهمة الوزارة حسبما يذكر المؤرخ الأستاذ عبد الرحمن الرافعي هي: “توجيه أفراد الأمة وإرشادهم إلى ما يرفع مستواهم المادي والأدبي، وتقوية روحهم المعنوية وشعورهم بالمسؤولية، وحفزهم إلى التعاون والتضحية ومضاعفة الجهد في خدمة الوطن، وبصفة عامة ما يعين على جعلهم مواطنين صالحين”. صحيح هذه الوزارة لم يعد لها وجود، لكن فكرتها لا تزال قائمة، ويقوم على تنفيذها أجهزة رسمية لا حصر لها، وتكلف الشعب أمولا طائلة، وكل ما يعنيها هو كيف يكون المواطن صالحا في نظر الحاكم وليس العكس -كما هو المفترض في النظام الجمهوري- أي كيف يكون الحاكم صالحا في نظر الشعب.

من تناقضات التاريخ المصري المعاصر أن إلغاء الملكية ثم إعلان الجمهورية كان نوعا من الاحتجاج الصريح على المعادلة الظالمة التي سبقت الإشارة اليها: تضخيم الحاكم وتقزيم الشعب، سواء كان لقب الحاكم باشا أو خديو أو سلطان أو ملك، على أساس أن هذه المعادلة تعني أن الحكم حق لهؤلاء لا يشاركهم فيه الشعب.

ووجه التناقض أن هذه المعادلة بقيت في العهد الجمهوري كما كانت في سابقه مع اختلاف في الشكل وليس في المضمون. مع فارق أن تكلفة استمرار وبقاء هذه المعادلة في النظام الجمهوري دفعته لممارسة ألوان من القمع المعنوي والقهر المادي تفوق مليون مرة ما كان في العهد السابق عليه تكميما وتعتيما وتأميما وإسكاتا وتخويفا وترهيبا وملاحقة وتهديدا ووعيدا ومصادرة وسجنا وتعذيبا.

طموح المصريين لإقامة الجمهورية بما يعنيه من إسدال الستار على 150 عاما من استعمار محمد على وسلالته لم يكن وليد اللحظة التي شهدت قيام ثورة 23 يوليو 1952م، إنما كانت ثمرة كفاح شاق لمجموع المصريين منذ تكون لديهم وعي ناضج بهويتهم الوطنية وحقوقهم القومية على مدى الـ 150 عاما السابقة على ثورة يوليو، وهي فترة كافية لتشكيل الوعي المصري الحديث، فليست ثورة 23 يوليو 1952 هي أول محطات الوعي ولا هي خاتمته، والقول ذاته يقال على الطبعة الأخيرة من طبعات النظام الجمهوري 2013 م وما بعدها، فهي ليست أول محطات الوعي القومي وليست خاتمته، فوعي المصريين سابق عليها ومتجدد بعدها، ولو كان لها أن تستفيد من حكمة التاريخ لاستمعت لوعي المصريين ولتوقفت عن تلقينهم الدروس في مقررات الإرشاد القومي.

يغفل الكثيرون من المصريين عن وثيقة هامة من وثائق الدولة المصرية، وهي الوثيقة التي اشتهرت في حينها باسم “تقرير لجنة الخمسة عن النظام الجمهوري”، وهي لجنة فرعية من لجنة كتابة الدستور التي صدر قرار تشكيلها في 13 يناير 1953م، وكان الغرض من لجنة الخمسة هو دراسة أيهما أصلح لمصر: استمرار النظام الملكي؟ أم إعلان النظام الجمهوري؟، وأما الأشخاص الخمسة فكانوا: عبدالرزاق السنهوري، عبدالرحمن الرافعي، مكرم عبيد، الدكتور السيد صبري، الدكتور عثمان خليل عثمان .

يمكن تلخيص تقرير اللجنة في عدة نقاط موجزة:

رقم واحد: قامت الملكية -في أصلها التاريخي- على زعم الملوك أنهم يستمدون سلطتهم من عند الله .

رقم اثنين: النظام الملكي يقوم على إنكار سيادة الشعوب وعلى أن فردا واحدا -بالصدفة – صالح لرئاسة الدولة طوال حياته .

رقم ثلاثة: بين النظام الملكي والديمقراطية مجافاة وتعارض .

رقم أربعة: الملوك لا يستشعرون حق الشعب في توليتهم ولا في محاسبتهم ويتملكهم شعور الاستعلاء على الشعب .

رقم خمسة: رؤساء الجمهوريات يتخرجون من مدرسة الشعب، بعد أن تعركهم الأحداث، وتصقلهم التجارب، ويحسون بآلام الشعب، وتختلج نفوسهم بآماله، ويشعرون بأن الشعب هو الذي اختارهم، وبأنهم مسؤولون أمامه، وبذلك يتحقق مبدأ سلطان الأمة، الذي هو أساس الحكم الديمقراطي .

رقم ستة: النظام الملكي أصبح غير صالح لمصر بعد أن تعذر ترويضه وفقد هيبته وانحطت قيمته الأدبية .

رقم سبعة: من أجل ذلك، رأت اللجنة بإجماع الآراء، ترك النظام الملكي، والأخذ بالنظام الجمهوري .

هذه الوثيقة -التي يغفلها كثيرون- لا تكشف فقط عن أن المطلب الجمهوري كان مطلبا مصريا أصيلا، لكن تكشف -بما حدث بعدها – عن التواء حركة الأحداث في مسارات غير مستقيمة كان من شأنها الخروج عن منطق وروح الفكر الجمهوري، بصورة جعلت ميلاد الجمهورية ولادة سهلة ولكن لمولود معوق ومليء بالإعاقات في تكوينه الجسدي والعقلي والروحي، فولدت الجمهورية معوقة ومشوهة من لحظة ميلادها الأولى في 18 يونيو 1953م وماتزال هذه الإعاقات والتشوهات البدنية والعقلية والنفسية تلازمها حتى اليوم والغد.

قرار حل الأحزاب
قرار حل الأحزاب

الذي حدث بعد هذه الوثيقة هو: حل الأحزاب بعد ذلك بأربعة أيام بدعاوى ظاهرها صحيح وحقيقتها باطلة، وبهذا تم تقويض فكرة الجمهورية من جذورها وتم إطفاء نورها من اللحظة الأولى، ثم بعد قرار حل الأحزاب صدرت وثيقة دستورية انتقالية لمدة ثلاث سنوات، وهذه السنوات الثلاث كانت كافية لتأسيس ديكتاتورية أشد بأسا مما سبقها من ديكتاتوريات، وهنا أكتفي بالإشارة إلى محطتين تاريخيتين مهمتين:

– الأولى: هي نص قرار إعلان الجمهورية ويمكن إيجازه كالتالي :

– هدف ثورة 23 يوليو 1952 م هو القضاء على الاستعمار وأعوانه، والملك من أعوانه لهذا تم خلعه، والأحزاب كذلك من أعوان الاستعمار لهذا تم الغاؤها.

– تاريخ أسرة محمد علي في مصر كان سلسلة من الخيانات التي ارتكبت في حق الشعب.

– فاروق -الملك الأخير- فاق كل من سبقوه من أسرته فأثرى، وفجر، وطغى، وتجبر، وكفر .

– آن للبلاد أن تتحرر من كل أثر من آثار العبودية التي فُرضت عليها نتيجة هذه الأوضاع.

– نعلن اليوم باسم الشعب:

أولا: إلغاء النظام الملكي وإنهاء حكم أسرة محمد علي مع إلغاء الألقاب من أفراد هذه الأسرة

ثانيا: إعلان الجمهورية وتولي الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب قائد الثورة رئاسة الجمهورية مع احتفاظه بسلطاته الحالية في ظل الدستور المؤقت .

ثالثا: يستمر هذا النظام طوال الفترة الانتقالية، ويكون للشعب الكلمة الأخيرة في نوع الجمهورية واختيار شخص الرئيس عند الإقرار على الدستور الجديد .

– ثم اختتم إعلان الجمهورية بهذه الفقرة: “فيجب علينا أن نثق بالله، وبأنفسنا، وأن نحس العزة التي اختص الله بها عباده المؤمنين، والله المستعان، والله ولي التوفيق” .

– الموقعون على بيان إعلان الجمهورية هم اثنا عشر عسكريا: محمد نجيب، جمال عبدالناصر، صلاح سالم، عبدالحكيم عامر، أنور السادات، زكريا محيي الدين، حسن إبراهيم، كمال الدين حسين، جمال سالم، حسين الشافعي، عبداللطيف البغدادي، خالد محيي الدين .

وهنا لا تفوتك ملاحظة أن الذين كتبوا تقرير اختيار الجمهورية وإلغاء الملكية كانوا خمسة من المدنيين، بينما الذين أعلنوا ذلك بالفعل فكانوا اثني عشر من العسكريين من تنظيم الضباط الأحرار الذين كانوا يشكلون مجلس قيادة الثورة .

– النقطة الثانية والأخيرة التي أود الإشارة اليها هي: الاستفتاء على أول دستور للجمهورية، والاستفتاء على أول رئيس فعلي للجمهورية، وقد كان مضمون الدستور، ثم مغزى الاستفتاء الرئاسي، كان كلاهما معا نقطة الارتكاز التي انطلقت منها وسارت عليها الجمهورية في كافة عهودها وعلى اختلاف ما توالى عليها من رؤساء وعلى اختلاف ما انتهجوه من سياسات تصل إلى حد التناقض، فكل دساتير واستفتاءات وانتخابات الرئاسة في كل حقب الجمهورية تم تصميمها لتكفل: تعظيم الحاكم وتضخيم سلطاته والاطمئنان إليه والثقة فيه، وذلك في مقابل تقزيم الشعب والتهوين من شأنه والحذر منه والشك فيه.

باختصار شديد:

– أول دستور للجمهورية جعل شخص الرئيس هو كل شيء في هيكل النظام السياسي.

– أول استفتاء لرئاسة الجمهورية منح الرئيس نسبة تسعة وتسعين وتسعة من عشرة في المائة من إجمالي الأصوات.

ثم تعددت الدساتير والاستفتاءات والانتخابات وبقي الجوهر واحدا: الحاكم هو كل شيء وبأعلى الأصوات، غاب من غاب وحضر من حضر .

كان ذلك عند ميلاد الجمهورية ومازال قائما حتى اليوم والغد وإلى أجل لا يعلمه إلا الله العليم الخبير .