هناك فن هابط وآخر رفيع، وهناك سينما تجارية وأخرى جادة، وهناك أفلام الخيال العلمي وغير العلمي، وأخرى شديدة الواقعية، وهناك أفلام العنف والجريمة والحب والرومانسية، وتوجد سينما تصور واقع العشوائيات والمهمشين والفقراء وأخرى تتكلم عن رجال المال وكبار الأثرياء وفق رؤية المخرج الفنية، وهناك من يحبون الناس “الشيك” وآخرون يظهرون الجمال من قلب البسطاء، وهناك أفلام إيطالية لم تعالج إلا قضايا المافيا والجريمة المنظمة دون أن يقول أحد أنها أساءت للشعب الإيطالي أو أن الشعب كله عضو في المافيا، وهناك سينما عالجت قضايا المخدرات والدعارة وكلها كانت أعمال فنية جرى تقييمها وفق معايير فنية أو حتى من خلال شباك التذاكر، ولم تنل أي منها إجماع النقاد ولا المشاهدين مهما كانت درجة الإبداع فيها.
سقف الإبداع
ردود الفعل التي قام بها البعض في مواجهة فيلم “ريش” أثناء عرضه في مهرجان الجونة صادمة خاصة أنها جاءت من أشخاص يفترض أنهم فنانين، فالمؤكد أن أي عمل فني ليس محل إجماع بما فيه أعظم الأفلام السينمائية كما أن التنوع في أذواق الجمهور وأراء النقاد يجعل عملية النقد الفني في حد ذاتها وجهات نظر.
ومن هنا فإن نقد فيلم ريش (لم أشاهده بعد رغم إشادة كثير من السينمائيين بجودته وأهميته) أمر طبيعي من الناحية الفنية والسينمائية، إنما اعتباره عملا يسئ لمصر لأنه صور مشاهد فقر يعيشها ثلث المصريين وفق الإحصاءات الرسمية فهذا أمر لا يمكن تخيله أو قبوله.
مفهوم أن يقال إن هناك تنظيمات أو توجهات سياسية بعينها تسيء لمصر أو تحرض عليها أو تشمت في مشاكلها أو ترى فقط الجوانب السلبية وتتجاهل الإيجابيات، لكن أن نقول على عمل فني إبداعي سواء كان فيلم أو مسرحية أو رواية أو لوحة تشكيلية إنه يسيء للبلد أمر لا يمكن أن نسمعه إلا في مصر.
لا يمكن القول إن قيمة العمل الفني هو أنه يتكلم عن الإيجابيات أو يكرر الجملة التي ترتدي ثوب الموضوعية: وهي عرض الإيجابي والسلبي، وهو أمر مطلوب في بحث علمي أو تقرير التنمية البشرية أو البنك الدولي أو بيانات حكومية، وليس عمل إبداعي محض قد يصور في “كومبوند” او حي شعبي أو منطقة عشوائية، أو يتحدث عن الأغنياء أو البسطاء، أو اللصوص أو الشرفاء، فهذا أمر يخص مخرجه لأن جميعهم أنماط موجودة داخل المجتمع.
صحيح أن هناك جدل دائم في مجتمعاتنا عن “سقف الإبداع” وحدوده، وكانت قضايا الدين والجنس والسياسة محل رقابة وأحيانا منع، فأن تصدم مثلا قناعات الناس الإيمانية أو تمس الذات الإلهية أو تسيء للأديان في مجتمعات تنص دساتيرها على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع كانت دائما محل رقابة ورفض، وأيضا محل جدل بين المثقفين حول من يفسر إذا كان هذا العمل الفني يسئ للأديان أم لا؟ وعن مخاطر تحول سيف الرقابة باسم الدين إلى قيد على حرية الرأي والتعيير. كما وضعت رقابة على المشاهد الجنسية في السينما المصرية وظل هناك تيار واسع بين السينمائيين يري أن معيار الحكم على هذه المشاهد هو توظيفها في السياق الدرامي وألا تكون مقحمة أو مصطنعة وهو الرأي الذي لم تقبله الرقابة ومعها تيار محافظ في المجتمع ودللت أحيانا على أن كثير من الأفلام الإيرانية حصلت على جوائز عالمية والممثلات يرتدين غطاء رأس وبدون قبلة واحدة.
وهناك أيضا الرقابة السياسية على أفلام وصفت “بالثورية” وكثيرا ما تم تعديل سيناريو فيلم أو نهايته أو حتى منع بالكامل لأسباب رقابية.
المشهد الجديد
لم تأت الرقابة هذه المرة من “الرقابة” إنما لأول مرة نري فيها اعتراض من قبل من يفترض أنهم فنانون على فيلم نال جائزة عالمية بحجة أن مشاهد الفقر التي فيه مؤذية وغير واقعية، واعتبار محاربة فيلم عرض الفقر عملاً وطنياً أكثر من محاربة الفقر نفسه.
ورغم أنه لا يوجد عاقل في مصر سواء كان مؤيد أو معارض إلا وسيقر بوجود فقر، وإن اتهام مبدع عرض وفق رؤيته الفنية شريحة من هؤلاء البسطاء (بصرف النظر عن نسبتهم) وقدم واحدة من الشعب وليست فنانة محترفة أو مدعية فن لتقوم بدور البطولة في فيلمه ثم تنال إعجاب النقاد وقطاع واسع ممن شاهدوا الفيلم فهذا في حد ذاته عمل فني وابداعي يستحق الدعم والإشادة.
المؤسف أن الاعتراض هذه المرة لم يأت من الرقابة ولم تكن قضية الفقر أو الغني في أفلامنا السينمائية لها علاقة “بالتابوهات الثلاثة” (الدين والجنس والسياسة) إنما ظلت قضية اجتماعية اختلف الفنانون في التعامل معها.
لم يعتبر أحد أن انحراف سناء جميل نحو الدعارة في دورها في فيلم بداية ونهاية للراحل العظيم صلاح أبوسيف إساءه لمصر ونسائها حتى لوكان هناك آخرون مروا بظروفها الصعبة ولم ينحرفوا، ولا يمكن اعتبار سواق الاتوبيس للراحل العظيم عاطف الطيب أساء لمصر لأنه تكلم عن شريحة واقعية من الناس، ولا إبداع داود عبد السيد في “الكيت كات” أساء لمصر، وهناك عشرات الأفلام الواقعية التي طرحت في ظل عهودنا الملكية والجمهورية دون مشاكل رقابية تذكر وصنع كثير منها مجد السينما المصرية.
تنوع المدارس الفنية هو الذي يصنع ثراء أي مجتمع، وأن الأفلام الاجتماعية والتاريخية والخيالية وحتى التجارية التي عرف كثير منها بتفاهة لافته لا يمكن وصفها بأنها تسيء لمصر فهي كلها أفلام يختلف عليها ومن حق الناس أن تشاهدها أولا تشاهدها.
الصورة الأخيرة تقول إن وصم فيلم “ريش” بأنه يسيء لسمعة مصر لم يأت من قبل الأجهزة الرقابية إنما جاء من قبل من يفترض أنهم فنانون وهذا تحول كبير لم نعرفه من قبل، ويجعل من الضروري رفضه ومواجهة تداعياته.