لم تكن صدفة فوز قصص الإنسان الفلسطيني الأكثر صدقًا ومعاناة من غيره دون مزايدة بالجوائز، نتيجة قصصه الحية التي تقدم بصورة أكثر طازجية عن غيرها، لكن كل ذلك لم يمنع تحسس الخوف المنتشر قبل مشاهدة فيلم أميرة الذي عرض في الدورة الخامسة من مهرجان الجونة السينمائي.
السينما وفلسطين
كان الحصان الرابح منذ العام الماضي هو الأفلام الفلسطينية بقصصها الحقيقية الملفتة شديدة المصداقية والتوحد التي جذبت أكبر قدر ممكن من الجمهور، جميعها كانت وليدة قصص حية يعانيها أبناء فلسطين الأم: إحدى الصدف التي قد لا تتكرر كثيرًا أثناء تواجد الصياد الفلسطيني جودت أبو عراب على ساحل دير البلح بقطاع غزة، عثر على تمثال برونزي رجل عارٍ منتصب.
كانت تلك الفكرة ملهمة لعمل واحد من أفضل أفلام العام الماضي، هو فيلم: غزة مونامور، الذي عُرض في مهرجان فينيسيا السينمائي، وحاز إعجاب النقاد، ليعيد الحماسة مرة بعد مرة في ثقة الفنان الفلسطيني بفنه.
وفاز الفيلم خلال عرضه بمهرجان الجونة السينمائي أيضا، بأكبر عدد من الجوائز: جائزة مينا مسعود الخيرية، جائزة لجنة تحكيم الفيبريسي، جائزة سينما من أجل الإنسانية، كما حصل على إعجاب وإشادة نقدية واحتفاء استمر على مدار عرضه للجمهور العام.
فلسطين المحتلة كمنطقة وحكاية هي قصة طويلة بِكر قماشة مطّاطة تتحمّل كل الحكايات عن الألم والأمل والمعاناة والصمود غير المنطقي، أيًا كان وسيط عرضها المسموع والمقروء والمرئي، قصة تحكي الظلم البشري في أوضح صوره.
دولة محتلة علنًا لعشرات السنوات، يمارس عليها كافة أنواع التعذيب والسلب والاحتياج دون أن تسقط كاملًا، سترى فيها حكايات عن الصمود يمكنك أن تراهن بما تملكه على ألّا يحصيها أحد، لكنها بلا شك ستفوز كل عام.
فيلم غزة مونامور .. فلسطين ما بعد شريط الأخبار
أميرة.. فلسطين بعيون مصرية
هذ العام أيضا، يحصد فيلم أميرة المصري الأردني على جوائز مرموقة عندما عُرض للمرة الأولى عالميًا في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي مؤخرًا؛ منها جائزة لانترينا ماجيكا وجائزة المخرج انريكو فيليجوني وجائزة إنتر فيلم.
تقول اللجنة: المخرج خلق قصة تصل للأعماق حيث يكون الضحايا، مرة أخرى، الأصغر سنًا الذين يكبرون وينضجون في الكراهية كما لو كانت هذه سمة وراثية دون أن ينكر إمكانية الاختيار المختلف.
يتتبع الفيلم الذي يقوم ببطولته كل من المصرية صبا مبارك والفلسطينيان: علي سليمان وتارا عبود، البطلة أميرة المراهقة المفعمة بالحياة، التي كبرت معتقدة أنها جاءت إلى الدنيا، بواسطة تهريب السائل المنوي لأبيها السجين، يتزعزع حسها بالهوية عندما يحاول والدها تكرار تجربة الإنجاب، فتُظهر التحاليل المعملية عقمه.
عُرض الفيلم لأول مرة عالميًا في مهرجان فينيسيا السينمائي 2021، ويعرض للمرة الأولى عربيًا في الدورة الخامسة من مهرجان الجونة السينمائي.
لم أتوقف عن تهنئة مخرجه محمد دياب، المعني بقضايا الحريات في أغلب أفلامه، لكني بالطبع لم أنكر سؤالي له عن رغبته في عمل قصة فلسطينية بالرغم من عدم احتكاكه المباشر بالقصة.
فجاءت الإجابة: كانت القصة مصدر إلهام كبير عندما قرأ عنها في الجريدة، وجد بها دراما تكفي لعمل فيلم ممتع، وقرر صناعة ذلك مع زوجته السيناريست سارة جوهر.
في لقطة الفيلم التأسيسية الأولى نشاهد “أميرة” الفتاة الصغيرة التي تعشق التصوير تمارس عادتها الأثيرة، مما يبدو بتصوير نفسها وحيدة في الغرفة واستخدام برامج تعديل الصور لتضع نفسها بجانب نجوم تحبهم، أو تصنع صور لوالدها الأسير في سجون الاحتلال الإسرائيلي في أحضان والدتها (صبا مبارك).
الأحلام التي تشكّلها أحلام هذه اللقطة ستمتد معنا إلى النهاية، بجانب أحلامها نتابع لهفة والدتها لخروج الزوج من المعتقل وأحلام لم الشمل التي لا تتحقق، والرغبة المستمرة للزوج (علي سليمان) للإنجاب مرة أخرى عن طريق التلقيح الصناعي، لأنه يدرك يشعر أن “كل جزء يخرج من داخله خارج هذا السجن يشعره بالحرية نوعًا ما”.
المفارقة المخجلة التي يمكن أن نضحك عليها حد البكاء أن ممثل الدور علي سليمان ذاته الذي اعترف المخرج محمد دياب أكثر من مرة أنه بجانب المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، ربما لم يكن ليخرج هذا الفيلم لم يستطع حضور فيلمه في الجونة مثلما مُنع العام السابق أثناء عرض فيلمه “200 متر”، تمامًا كما لم يستطع الحضور المخرج الفلسطيني محمد بكري، مصداقية الدور الذي يقدمه سليمان على الشاشة بشكلٍ آثر تمامًا ربما لأنه لا يعتبره تمثيلا من الأساس في وقت تعيش فيه بلده مرحلة متدنية من التعامل مع الإنسان.
تقف أزمة الفيلم عند لحظة يتشكك فيها الجميع من صحة نسب “أميرة”.
يسير “أميرة” في خط درامي مشدود جيدًا بطريقة تكاد تختلف قليلًا عن أسلوب مخرجه المعتاد على الحركة السريعة والتنقل السريع، نقف هنا لأوقات نشعر فيها بما تشعر به هذه الأسرة التي يفصلها الظلم قدر ما يوحدها الحب.
ثمة سقطة يمثّلها الفيلم بالنسبة إليّ تخص اختيار دياب خط درامي يسلكه الأبطال ومحيطهم مع تخمينهم للموضوع، هذه السقطة تمثل انطباعي الشخصي عن أبناء فلسطين المدركين لحدود تصوراتهم عن العالم أكثر مما رأيت عند أبطال دياب.
قصة مذهلة بالرغم من كل شيء لا يؤخذ عليها سوى ذلك، تضع فلسطين في خريطة سينما هذا العام كما سابقه.
ربما نتوقع فوز تارا عبود بجائزة تخص دور “أميرة” الفتاة الصغيرة شديدة التألق بالرغم من كونه أولى أفلامها الطويلة.
قابلت تارا قبل الفيلم لتهنئتها، فتاة فلسطينية خجولة تسير بجانب والدتها غير معتادة على الأضواء، كان الحديث الأول الذي يدور بيننا بعيدًا عن الفيلم قريبًا من مشقة الرحلة لتصل إلى هنا لحضور فيلمها وسط الجمهور.
الفيلم الذي يحكي عن حرية الإنسان الفلسطيني، الذي يتحايل على أسره وظلمه والتنديد به غير بعيد كثيرًا عن كافة صنّاعه. ثمة شيء شديد الجرأة من المخرج المصري محمد دياب الذي قرر أن يخوض تلك التجربة بحكايات تفوق واقعيتها والتعاطف معها أو مع الإنسان بشكلٍ عام، دون غيره.