مثّلت القمة الثلاثية التاسعة بين مصر واليونان وقبرص. خطوة جديدة ضمن تحركات القاهرة اللافتة في شرق المتوسط. والتي تحولت، منذ اكتشاف حقول الغاز التي قدرت بنحو 345 تريليون متر مكعب من احتياطات الغاز. إلى منطقة تصعد على تخومها الصراعات الإقليمية. والسرديات السياسية المعقدة والمتفاوتة. على خلفية التنافس المحتدم على الطاقة. 

وقد تسبب ذلك في حدوث نزاعات عديدة ومتباينة بين تركيا واليونان، مثلاً، إثر مواصلة أنقرة عملية التنقيب غير القانونية عن الغاز في المناطق المتنازع عليها تاريخياً بالقرب من الجزر اليونانية. والتي وصلت ذروتها في أغسطس العام الماضي. فضلاً عن بعث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مقولات أيدولوجية، من بينها “العثمانية الجديدة”، للتعمية على سياساته الخارجية العدائية، المرتبطة بتحقيق ما يعرف باستراتيجية “الوطن الأزرق”. والتي تضم مساحات مائية هائلة تمتد من البحر الأسود، وبحر مرمرة، وبحر إيجة، والبحر المتوسط، للحصول على مواردها الطبيعية.

أطماع تركيا في شرق المتوسط

مطلع عام 2019، دشنت تركيا أكبر مناورة عسكرية في تاريخ البحرية التركية. بمشاركة 103 سفينة بحرية، ونحو عشرين ألف جندي تركي. حملت اسم “الوطن الأزرق”. ويرتبط الاسم بطموح تركيا لاستعادة مناطق السيادة البحرية التي فقدتها إثر التوقيع على معاهدة “لوزان” عام 1923.

وفي ظل التحولات الجيوسياسية والتطورات الإقليمية، خلال العقد الماضي. نشطت المواجهات أو بالأحرى الاحتكاكات الخشنة بين دول المنطقة. بينما كانت الشراكة الأورومتوسطية في مجالات التحول الطاقوي. تؤدي دوراً خفياً وغير معلن في تفخيخ الصراعات. وإطالة أمد الحروب في عدة مناطق. كما هو الحال في شمال شرق سوريا وليبيا.

وظهر تنامي الدور العسكري التركي، عبر ميلشياته التي تطوق البلدين، ميدانياً وسياسياً. كما لعبت أنقرة بورقة اللاجئين لابتزاز الاتحاد الأوروبي. مرات عديدة. فضلاً عن إفشال أي تسوية لحل الأزمة القبرصية.

ولذلك، بعث توقيع الدول الثلاث (مصر وقبرص واليونان)، في القمة التاسعة الأخيرة. لاتفاق حول نقل الكهرباء، وزيادة التعاون في مجال الطاقة. برد فعل متشنج من جانب تركيا.

“أمن الطاقة”

ووفق بيان صادر عن القمة، فإنه “تم التأكيد على نجاحها في تكريس التشاور الدوري والتنسيق الوثيق حول الملفات الإقليمية والدولية التي تؤثر على شعوب المنطقة كافة. كما عكست التزاماً متبادلاً بترجمة التوافق السياسي إلى حزمة من المشروعات المثمرة على أرض الواقع في مختلف القطاعات الاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية. فضلاً عما شهدته من تعاون مشترك خلال الآونة الأخيرة للتصدي للتحديات والأزمات الطارئة مثل حرائق الغابات. ومواجهة التداعيات الصحية والاقتصادية لجائحة كورونا”.

وبحسب البيان المشترك فإن “هذا الربط يعزز التعاون وأمن الطاقة ليس فقط بين الدول الثلاث ولكن أيضا مع أوروبا”. كما “سيكون وسيلة لنقل كميات كبيرة من الكهرباء من شرق البحر المتوسط وإليه”.

أطماع تركية في شرق المتوسط

وبدوره، أشار رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، بعد توقيع مذكرة التفاهم مع الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والقبرصي نيكوس أناستاسيادس، إلى أن الاتفاق “يتعلق بإقامة ربط بين بلداننا لنقل الكهرباء”.

 “مصر قد تصبح مصدراً للتيار الكهربائي”

وأكد ميتسوتاكيس أنه “في زمن تنويع مصادر الطاقة، يمكن أن تصبح مصر مصدراً للتيار الكهربائي الذي سيتم إنتاجه أساسا بواسطة الشمس. وستصبح اليونان محطة توزيع نحو أوروبا”.

كما لفت الرئيس المصري إلى أن “الهدف من هذا الاتفاق هو تعزيز التعاون في مجال الطاقة”، وشدد على “أهمية توقيع مذكرة التفاهم بشأن الربط الكهربائي الثلاثي الأطراف”.

وقال رئيس الوزراء اليوناني “لسوء الحظ، لا تفهم أنقرة رسائل العصر، ومن الواضح أن تطلعاتها على حساب جيرانها تشكل تهديداً للسلام في المنطقة”.

اعتراضي تركي

غير أن وزارة الخارجية التركي. اعتبرت أن البيان المشترك الصادر عن الدول الثلاث يعد بمثابة “مثالاً جديداً على السياسات العدائية التي ينتهجها الثنائي اليوناني الرومي ضد تركيا وقبرص التركية”.

وقالت الخارجية التركية إن “انضمام مصر لهذا البيان، مؤشر على أن الإدارة المصرية لم تدرك بعد العنوان الحقيقي الذي يمكنها أن تتعاون معه في شرقي المتوسط”.

وأضافت: “لقد أظهرنا للصديق والعدو أنه لا يمكن أن يكتب النجاح لأي مبادرة في شرقي المتوسط لا تشارك فيها تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية”.

وعليه، قامت تركيا بمواصلة استفزازاتها لليونان، وقامت بالاستعراض العسكري بواسطة طائرتين حربيتين، ظهرت، بشكل مباغت، فوق ثلاث جزر يونانية، الأربعاء الماضي، وذلك بعد ساعات قليلة من القمة الثلاثية في أثينا.

ووفقاً للتلفزيون اليوناني فإن “المقاتلتين حلقتا فوق جزر فارماكونيسي وليبسوي وأوينوسيس، وتابع: “مقاتلات يونانية ردت على ذلك بالقيام بمناورات الاعتراض”. 

“القاهرة باعتبارها مركزاً إقليمياً للطاقة”

وفي حديثه لـ”مصر 360″، يشير الباحث المصري، الدكتور سامح إسماعيل، إلى أن القاهرة تحركت مصر بشكل سريع في مواجهة الأطماع التركية في شرق المتوسط، بداية من الوقوف الصارم في مواجهة اتفاقية ترسيم الحدود مع حكومة فايز السراج في ليبيا. وكذا مواجهة كل الأنشطة التركية الرامية إلى التنقيب عن الغاز، في شرق المتوسط.

ويلفت إسماعيل إلى أن القاهرة مؤهلة بأن تضحى “مركزاً إقليمياً للطاقة. بعد الاكتشافات العملاقة لاحتياطي الغاز في شرق البحر المتوسط، للتصدير إلى أوروبا. كما يعد الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لمصر”.

وبحسب الباحث المصري، فقد كان تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، مطلع عام ٢٠١٩، خطوة مركزية باتجاه تكوين تحالف إقليمي. استبعدت منه أنقرة، وتمركز في القاهرة. ثم جاءت الضربة الأخيرة بإجهاض خطط الرئيس التركي الرامية إلى أن تضحى بلاده “قنطرة لتصدير الغاز إلى أوروبا من حقل ليفثيان.

ووقعت مصر، والكلام مازال لإسماعيل، صفقة تقدر بنحو ١٥ مليار دولار للهيمنة على غاز ليفثيان، وإعادة تصديره مسالاً إلى أوروبا، لتصبح القاهرة مركزاً رئيسياً لتصدير الغاز في حوض المتوسط.

خريطة الحدود البحرية

ويرى الباحث في العلوم السياسية، الدكتور مصطفى صلاح، أن هناك جملة من التأثيرات التي أفرزتها القمة الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص. بعضها يتعلق بالملفات المشتركة في داخل كل دولة. والبعض الآخر يتعلق بالملفات الإقليمية والدولية.

 

الأزمة الليبية حاضرة

ويضيف صلاح لـ”مصر 360″: “من المؤكد أن تنعكس هذه التفاهمات بينهم على حجم التنسيق المشترك والتحرك تجاه هذه القضايا. مثل غاز شرق المتوسط، ومواجهة التحركات غير المشروعة لتركيا في انتهاك الجرف القاري والمياه الإقليمية لكل من قبرص واليونان. وإلى جانب ذلك مناقشة الدور الذي تلعبه الدول الثلاث في تسوية الأزمة الليبية، خاصة مع اقتراب الانتخابات التشريعية”.

ويضاف إلى ذلك “تنسيق الجهود لمواجهة الأزمات في منطقة الشرق الأوسط، مثل سوريا واليمن وأفغانستان، وكذا أزمة سد النهضة، وانتشار الجماعات المتطرفة، وقضايا الهجرة واللجوء”. يقول صلاح.

ويلفت الباحث في العلوم السياسية إلى أن الزخم الذي يرافق هذه القمة باعتبارها تتسم بالاستمرارية، منذ عام ٢٠١٤. يأتى من القضايا النوعية التي تم تشكيل التحالف الثلاثي استناداً عليها.

ويردف: “قضية الصراع في شرق المتوسط تمثل الركن الأساسي في تحديد توجهات هذه الدول. خاصة أن مصر أكدت على مجموعة من الأسس الحاكمة لهذا التحالف. بالرغم من المباحثات الاستكشافية مع الجانب التركي. وهو ما يعني أن القاهرة تتحرك بصورة تحافظ على تحقيق الأمن الإقليمي في هذه المنطقة وفق اعتبارات القانون الدولي”.

ومن ثم، ستنعكس هذه التفاهمات على خريطة الفاعلين في المنطقة. وكذا طبيعة العلاقات بين هذه الدول والدول الكبرى. وفقاً للمصدر ذاته، وتحديداً الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والتي ستقوم كل منهما بتقديم كافة سبل الدعم لهذا التحالف والاعتماد عليه، في الوصول إلى تسويات سياسية وقانونية للمشكلات العالقة.