من عطفة الليثي بدرب القشلاق بالعباسية، جاء صوته ينزف ألمًا. متراقصًا على أَنِين جروحه. باغتنا بعاصفة من الحزن لم نكن لنستطيع النجاة منها. لم نصدق أننا نحمل داخل أرواحنا كل هذا الشجن، حتى انفجر بفعل مطرقة حنجرته الباكية.

لم يكن الولد الأسمر يغني. هل شهد أحد “حسن” متلبسًا بالغناء يومًا. لقد كان يبكي، ولم نكن نسمع إلا نحيب بكائه.

عرش عدوية الذي يبحث عن وريث

ظهر حسن الأسمر في منتصف الثمانينيات، وسط فراغ كبير في ساحة “الأغنية الشعبية الحديثة” بعد اختفاء مؤسسها أحمد عدوية، إثر حادث تعرض له اختلف حوله الروايات، وإن كان خفت نجمه قليلًا حتى قبل الحادث.

“عدوية” هذا الذي عبر بأغنياته لنحو  عقدين، عن شرائح اجتماعية جديدة أفرزتها السياسات الاقتصادية “الساداتية” منذ سبعينيات القرن العشرين. فكان معبرا  بشدة عن نشوة صعود الشرائح الاجتماعية الجديدة، أكثر مما عبر عن قاعها، هؤلاء الذين عانوا نتيجة السياسات الاقتصادية، فانحدروا أكثر بعد رفع غطاء الدولة عنهم، أو لنكن أكثر دقة فنقول إن هذا الانحدار لم يكن قد تبلور بشكل كاف بعد.

تميزت أغاني عدوية برصدها لمفردات القاموس الجديد للشرائح الاجتماعية الصاعدة، وهي لم تكن مجرد مفردات طرأت على لغة حوار المصريين بقدر ما كانت معبرًة عن التغيرات الاجتماعية، وأحلام تلك الشرائح الناشئة في الترقي.

 نجد ذلك طاغيًا في أغنية “بلاش اللون ده معانا” كلمات رفيق دربه حسن أبو عتمان، وألحان حسن أبو السعود، تحتوي الأغنية على كم كبير من مفردات هذا القاموس بداية من مطلعها: “ما بلاش اللون ده معانا راح تتعب أوي ويانا.. ولا احنا عشان مش قدك.. تشتري وتبيع في هوانا.. حـ تلون ليه ويانا بطل حركاتك ديه.. امبارح كنت معانا.. سكر بحلاوة طحنية”. 

أحمد عدوية جسدت أغانيه الصغود الطبقي في السبعينيات

تستمر أغنيات عدوية في طرح المفردات الجديدة، لكن هذا الرصد ليس دون هدف، فتكشف أغنية “حبة فوق.. وحبة تحت”، عن فلسفة مشروع عدوية الغنائي وتطلعات الشرائح المعبر عنها: “الحلوة ساكنة فوق.. وانا اللي ساكن تحت.. بصيت لفوق بشوق.. مال قلبي وانجرح.. يا اهل الله يا اللي فوق.. ما تبصوا ع اللي تحت.. حبة فوق.. وحبة تحت”. 

هي نظرة إذن لـ”فوق” – للترقي إلى أعلى، لكنها ليست نظرة من شخص قابع “تحت” إنه صاعد لأعلى تدفعه الحوامل الاجتماعية الجديدة. فلننظر إلى كلمات أغنية “كله على كله”:  “كله على كله.. لما تشوفه قول له.. هو فاكرنا إيه مش ماليين عينيه.. بره.. واللي بره مين.. ده احنا.. ده احنا معلمين.. لو  الباب يخبط نعرف بره مين.. هو فاكرنا إيه.. مش ماليين عينيه”. نحن أبناء النباهة والفهلوة – “المعلمين” والصنايعية. التجار والمقاولون – الصاعدون بقوة إلى الأعلى، ولقد مهد لنا التحول الاقتصادي هذا الصعود.

 

بزوغ نجم جديد

كان أحمد عدوية معبرًا صادقًا عن تلك الشرائح وظروف صعودها، حمل صوته الرائع مظاهر بهجتهم، وحلمهم في الترقي في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، وبقايا شجنهم الذي ظنوا أنه توارى. 

أحدث اختفاء عدوية عن الساحة فراغًا كبيرًا رغم ظهور العديد من المطربين الشعبيين الجيدين، الذين أدوا نفس اللون. لكن عرش الغناء الشعبي كان على موعد مع ظهور نجم جديد هو ابن النتائج الأكثر عمقًا لهذه الأوضاع. أحد هؤلاء الذين يقبعون في القاع.

 جاء حسن الأسمر من “عطفة” صغيرة بدرب القشلاق في العباسية بالقاهرة، محملًا بضغوط حياة أهل حارته وشبيهاتها في كل أنحاء مصر.

غنى في الأفراح أغنيات لمحمد رشدي وشكوكو وعدوية، حتى اكتشفه صاحب شركة إنتاج وهو يغني في أحد الأفراح الشعبية، فسجل له أولى أغنياته “عليل أنا يا تمرجية” والتي حققت نجاحًا ملحوظًا، لتضع قدمه على أول الطريق.

 

عيون ست البنات

في عام 1983 ظهر ألبومه الأول “عيون ست البنات” والذي ضم 6 أغنيات، تقول أغنية “ست البنات” والتي كتب كلماتها محمد الهوا، ولحنها محمد إسماعيل: “أنا شوفت الدنيا طارحة.. في عيون ست البنات.. محبة وشوق وفرحة.. حدوتة وحكايات.. وسألت عنها قالوا.. ده جمالها مفيش مثاله.. فـ امبابة وفـ الكيت الكات.. دي عيون ست”. حقق الألبوم وأغنية “عيون ست البنات” بالأخص نجاح كبير. لكنه لم يكن قد تبلور بعد لون حسن الأسمر الغنائي، رغم صوته الشجي والمتفرد.

“توهان”.. الملامح الأولى لمشروعه الغنائي

في العام  التالي 1984، يُصدر حسن الأسمر، ألبومه الثاني “توهان” والذي ضم سبع أغنيات. يحدد الألبوم  الملامح الأولية لمشروع حسن الأسمر الغنائي – مشروع النوح واجترار الألم- هذا الحزن الذي لا ينتهي، لهؤلاء الذين يعانون على هامش الحياة، المغتربون عن واقعهم، الراقصون على أَنِين أحزانهم. 

نتحسس تلك الملامح في كلمات أغنية “توهان” والتي كتبها أيضًا محمد الهوا – رفيق “الأسمر” وأحد العناصر الهامة لمشروعه الغنائي في بداياته: “توهان.. توهان توهان توهان.. توهان.. عالم مليان دخان.. وقلوبنا يا خلق حزينة مـ القسوة تدوب دوبان.. تايهين والدنيا بتلعب.. بالخلق وكل الناس.. تايهين وقلوبنا بتتعب.. وزمانا ما هوش حساس.. بيخلي السكة بعيدة.. ويمشي قلوبنا وحيدة.. ننده على فرحة جديدة.. تروي القلب العطشان.. توهان”.

 

حسن الأسمر ووجع أبناء الهامش

شاعر آخر سوف يرتبط اسمه ارتباطًا قويًا بمشروع حسن الأسمر الغنائي، هو الشاعر يوسف طه. والذي كتب له أغنيات “سألوني أنا مين، وعد الجروح يا قلم، ويا عم يا صيدلي، وعمري، والله يسامحك يا زمن، والسنين”. كما كتب له مواله الأكثر شهرة وجماهيرية “كتاب حياتي يا عين”.

 لن نندهش إذا عرفنا أن “يوسف طه” هو ابن خالة حسن الأسمر، وابن بيئته، بل ربما سيعطينا هذا إشارة إلى أن مشروع “الأسمر” الغنائي/مشروع الألم والنوح،  كان معبرًا عن وجع جماعي لشريحة عريضة من أبناء الهامش، الذين أنتجتهم السياسات الاقتصادية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات.

يروي الشاعر يوسف طه، كيف كانت ترفض الرقابة أغنياته بحجة أنها تحمل طابعًا ونظرة سوداوية، بينما كان يراها هو معبرًا عن آلام ومآسي الحياة الإنسانية التي تعيشها طبقته.

 

جمهور حسن الذي يشبههم ويشبهونه

 

لن نرى شكلا مباشرا من الغناء عن المشكلات اليومية، ولا الأزمات العامة للشرائح الاجتماعية، التي أراد أن يعبر عنها ويمثلها “حسن” في مشروعه الغنائي. ولا إشارة إلى من هم هؤلاء الذين يغني لهم وعنهم الفتى الأسمر، ولا وضعهم الاجتماعي. فملامح حسن الأسمر، كلمات أغنياته ورتمها الموسيقي، الوجع الشديد الذي تحمله تركيباتها وصوت حسن الذي ينزف ألمًا، تدلنا على جمهوره الذي يشبههم ويشبهونه، كما استدل هو عليهم واستدلوا عليه.

هؤلاء الذين لم يعودوا يعرفون من هم، التائهون، الذين هدمهم الزمن وامتلأت أرواحهم بالجروح، المتراقصون على أنين أوجاعهم، في أغنية “سألوني أنا مين”.  الذين سُرقت أعمارهم، ولازمهم الحزن، وأكل الزمن “شقاهم” في موال “عمري”: “بنيت حياتي طوبة طوبة.. وشقيت بؤونة وفي طوبة.. هد الزمان اللي بنيته.. والطوبة جات في المعطوبة”.

 

ربما كان مشروع عدوية أكثر تحديدًا من حيث بروز معالم من يمثلهم وأهدافهم – طبقة صاعدة ترغب في الترقي. بشر مُنظروها أنها تسطيع بالنباهة والذكاء الفطري، وإن لزم الفهلوة، أن تصل إلى قمة الهرم الاجتماعي بعد أن مهدت لهم السياسات الاقتصادية الانفتاحية الطريق.

لكن مشروع حسن الأسمر الغنائي كان مشروع هؤلاء الذين دهستهم تلك السياسات وألقت بهم على هامش المجتمع، مشروع وجعهم، وأحلامهم المبتورة، جُرحهم الذي لا يزال يتسع أكثر فأكثر، بعد عشر سنوات من رحيل صوت آلامهم وممثلهم الأصدق، الفتى الأسمر الذي طالما نزف من أجلهم. بينما كنا نحسبه يغني.