على درجات باب العامود، الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى القرن الثاني الميلادي، اعتاد المقدسيون على التجمع في المناسبات الدينية والاجتماعية. كحيزهم الحيوي في البلدة القديمة بالقدس. ومنصتهم الاحتجاجية ضد سياسات الاحتلال الاستيطانية.
ذلك الحيز الاجتماعي لطالما أرق قوات الاحتلال. التي ترى فيه حيزا يعبّر عن الهوية العربية للقدس، وتحديا لنهجها التهويدي. لذا، وخلال الأعوام الأخيرة سعت لهندسة المكان أمنيا عن طريق أبراج المراقبة والكاميرات والحضور المكثف، فتكررت الاشتباكات مع المقدسيين.
ويوم الثلاثاء الماضي، اندلعت مواجهات هي الأعنف، منذ الهبة الفلسطينية الأخيرة في مايو الماضي، والتي كانت شرارة اشتعالها من باب العامود أيضا، بعد محاولات الاحتلال تفريق تجمعات الفلسطينيين خلال شهر رمضان.
مواجهات الأسبوع الماضي اندلعت عقب محاولة قوات الشرطة الإسرائيلية تفريق مئات الفلسطينيين أثناء احتفالهم بذكرى المولد النبوي على درجات العامود، وفيها استخدم الاحتلال القنابل الصوتية والرصاصات المطاطية والمياه العادمة (مياه ذات رائحة كريهة) بالإضافة إلى الهراوات والخيول ما أسفر عن إصابة 60 شخصا تقريبا، واعتقال 22.
نزع الصفة العربية وفرض السيادة
ويعي الاحتلال الأهمية الرمزية والاقتصادية لهذا الباب بالنسبة للفلسطينيين. لذا يتعمد أن يجعله مسارا للمستوطنين الذاهبين لحائط البراق (حائط المبكى عند اليهود)، رغم وجود طرق أخرى تؤدي إليه.
ويقول رمزي عباسي، وهو ناشط مقدسي من سكان حي سلوان، لـ”مصر 360″: “باب العامود حيز فلسطيني خالص، وقد ارتقى أكثر من 22 شهيد على درجاته. والاحتلال يحاول نزع الصفة العربية عن المكان وتهويده بشتى الوسائل من خلال اقتحامات المستوطنين ومسيراتهم المتكررة. وهو ما زاد في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ، ما تسبب في حدوث الاشتباكات”.
ويضيف “حكومة الاحتلال تعمل في الوقت الحالي، من خلال مؤسساتها الأمنية، على رعاية الاقتحامات بشكل أكبر، والتضييق على المقدسيين بكل الطرق، في إطار منهجيتها للانقلاب عما تحقق من مكاسب في الهبة الأخيرة”.
وتأتي تلك الخطوات على وقع تصعيد الحكومة الإسرائيلية من تصريحاتها المناوئة لعملية السلام، معلنة رفضها لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وسط ضغوط داخلية وخارجية لتشكيل حكومة وحدة فلسطينية قد تعد بديلا مؤقتا عن “حل الدولتين” عقب تأجيل بحثه.
وفي الثامن من الشهر الجاري قررت محكمة إسرائيلية، ولأول مرة، السماح للمستوطنين بأداء ما يسمى “صلوات صامتة” داخل المسجد الأقصى، في محاولة لخلق واقع جديد يقوم على التقسيم المكاني والزماني. وتسبب ذلك في اشتباكات داخل الحرم، ليصدر الاحتلال بعدها قرارا بإبعاد خطيب الأقصى عكرمة صبري، عن المسجد لمدة أسبوع.
الكاتب والسياسي الفلسطيني نهاد أبو غوش، وهو من مواليد القدس، يرى أن المسجد الأقصى كان وما يزال في قلب دائرة الاستهداف حيث لا تخفي الدوائر الإسرائيلية نياتها لاقتطاع جزء من مساحته وبناء كنيس يهودي في المكان وتنفيذ ما يسمى التقسيم الزماني والمكاني على غرار ما جرى في الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل منذ العام 1993 وحتى الآن.
ويشير إلى أن المواجهات في القدس لم تتوقف يوما واحدا “لسبب بسيط وهو وجود خطة إسرائيلية شاملة لتهويد القدس، وتغيير طابعها العربي الفلسطيني، الإسلامي-المسيحي التعددي، إلى مدينة إسرائيلية يهودية. وتتعاون على تنفيذ هذه الخطة مختلف الأطراف الإسرائيلية الرسمية وغير الرسمية مثل الحكومة ووزاراتها وأجهزتها ومؤسساتها الإدارية والأمنية، مع البلدية وجمعيات المستوطنين، والجماعات الدينية الحزبية المتطرفة”.
وفي حديثه مع “مصر 360” يوضح “كل طرف من هذه الأطراف ينفذ الشق الخاص به من مخطط تهويد القدس، ومن الأمثلة على ذلك الاعتقالات المستمرة والاستدعاءات والتهديدات، ومحاربة أي مظهر من مظاهر الوجود الرسمي الفلسطيني وهذا الشق تنفذه الشرطة والأجهزة الأمنية. بينما البلدية وأدواتها تطارد البنايات والمنشآت التي تدعي أنها بنيت دون ترخيص، فتصدر أوامر الهدم أو الغرامات بحق أصحابها”.
ويتابع: “أما وزارة المالية وأجهزة الضرائب فتنكيلها مستمر ضد التجار. حتى وزارة التعليم تعمل على أسرلة المناهج ومحاولة فرض منهاج تعليمي يزوّر الحقائق التاريخية بشأن القدس وفلسطين لصالح الرؤية الصهيونية. كما تعمل على محاربة المدارس التي ترفض تدريس هذه المناهج وحرمانها من المخصصات والموازنات الحكومية”.
الحلقة الأخطر
الحلقة الأخطر -بحسب أبو غوش- هي ما تقوم به الجمعيات الاستيطانية في استخدام كل أشكال التزوير والتدليس لتسريب العقارات الفلسطينية، فيما يساعدها الجهاز القضائي الإسرائيلي من خلال الانحياز المطلق لها وعبر تمكين حكومة الاحتلال من تخصيص أراضي حكومية لها لتوسيع المستوطنات. في المقابل يرفض هذا الجهاز الاعتراف بملكية الفلسطينيين لأكثر من 80% من أراضي الشطر الغربي لمدينة القدس وهي مملوكة لفلسطينيين يقيمون في الشطر الشرقي أو في محيط المدينة.
كما يتعسف هذا الجهاز في تطبيق القانون العنصري المعروف بقانون أملاك الغائبين، “فوجود أي واحد من الورثة خارج مدينة القدس لأي سبب من الأسباب -وغالبا ما تكون متصلة بالإجراءات الإسرائيلية- يعطي الدوائر ذريعة وحجة لمشاركة الورثة في إرثهم والتحكم في استخدامات العقار”، وفقا للكاتب الفلسطيني.
ويؤكد “هذا المخطط الإسرائيلي الذي يجري على قدم وساق يصطدم مع المصالح الحياتية المباشرة لكل فلسطيني مقدسي، ولذلك يهب الناس دفاعا عن وجودهم وعن حقوقهم الحياتية. الخشية الكبرى هي أن تسعى إسرائيل لاستغلال لحظة ضعف فلسطينية وعربية ودولية لتنفيذ مخططاتها الإجرامية ضد القدس حيث لا يعمل على مواجهتها الآن سوى المواطنين المقدسيين بصدورهم العارية وإمكانياتهم المحدودة، بينما العالم يتفرج او يساوي بين الضحية والجلاد من إخلال الاستمرار في إطلاق النداءات الداعية عن وقف العنف والامتناع عن التصعيد”.
توسع في التضييق
وضمن مساعيها لإضعاف الحراك الشعبي الفلسطيني مؤخرا، توسعت حكومة الاحتلال في إصدار لوائح اتهام تجاه الناشطين المقدسيين. وقد تلقى رمزي إخطارا باتهامه بالاعتداء على شرطي قبل عامين تقريبا، وهو ما يراه جزءا من سياسة الاحتلال تجاه النشطاء الذين ظهروا بشكل مكثف في الآونة الأخيرة وتعالت أصواتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
ويقول: “الاحتلال بعد فشله الأمني في الهبة الأخيرة يحاول الانتقام من النشطاء من خلال الضرب والسحل وإغلاق صفحاتهم وإخضاعهم للتحقيقات، ليظهر لشعبه أن هناك إنجازات أمنية، خاصة وأن الحكومة الحالية تحاول أن تظهر وكأنها تقلب الموازين”.
في اليوم التالي للاشتباكات العنيفة، وفي خطوة اعتبرها الفلسطينيون استفزازية، وصل عضوا الكنيست المتشددان إيتمار بن غفير وبتسلإيل سموتريش من حزب “الصهيونية الدينية” إلى باب العامود ومن هناك عبرا الحي الإسلامي إلى حائط البراق.
وقال سموتريش: “أتينا إلى هنا لأنه يتم الاعتداء على اليهود ومضايقتهم كل مساء في العاصمة. يفهم المشاغبون أن الحكومة محدودة في قدرتها على العمل ضدهم ويستغلون ذلك لإقرار الحقائق على الأرض. نحن هنا لنقول للمشاغبين العرب والإرهابيين إن هذا لن يحدث”.
فيما طالب بن غفير قوات الشرطة الإسرائيلية بأن تظهر أنها “صاحبة البيت” بالقدس الشرقية، وتطلق الرصاص الحي على المحتجين الفلسطينيين في باب العامود.
لكن لماذا الآن تحديدا يحدث هذا التصعيد ويحضر أشخاص مثل بن غفير وسموتريتش، وما دلالة التوقيت فيما يتعلق بانسداد أفق التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي؟
يجيب أبو غوش لـ”مصر 360″: “التصعيد تجارة رائجة في أوساط اليمين العنصري المتطرف، يبدو الأمر وكأن الإسرائيليين دائما في بازار انتخابي، والزعماء يتنافسون أيهم أكثر تشددا تجاه الفلسطينيين، سموتريتش وبن غفير هما من ممثلي تيار الصهيونية الدينية مع أن الأخير يتميز بأنه من اتباع الحاخام العنصري الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل مائير كهانا (قتل على يدي المصري سيد نصير في نيويورك عام 1990)، وهو نفس التيار الديني-الصهيوني الذي جاء برئيس الوزراء نفتالي بينيت للكنيست ومنه للحكم”.
ويشير القيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين “هذا التصعيد وهذا التطرف يؤكدان أن الجمهور الإسرائيلي برمته يجنح للتطرف والتشدد وهذه ظاهرة لها اسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة ومتداخلة من أبرزها ارتفاع حجم المستوطنين ونسبتهم إلى إجمالي التعداد السكاني الإسرائيلي ليصلوا إلى حوالي 12% من إجمالي السكان اليهود، كما أن اسرائيل لا تدفع كلفة باهظة لاحتلالها، ولا تجد في الحلبة الدولية من يردعها عن مواصلة الانتهاكات والجرائم اليومية بما في ذلك سياسات سرقة الأراضي وبناء المستوطنات والسيطرة على مياه الفلسطينيين ومواردهم”.
إلى جانب ذلك يمكن القول إن سموتريتش وبن غفير يمثلان الوجه الفجّ والاستفزازي والصلف للسياسة الإسرائيلية، بتعبير أبو غوش، بينما ثمة سياسيين ينفذون نفس السياسات “ولكن مع قفازات حريرية وابتسامات وأحاديث معسولة عن السلام والتعاون والازدهار كما فعل نتنياهو على امتداد سنوات حكمه وكما يفعل ممثلو الحكومة الحالية”.
ويوم الجمعة، وقع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس على أمر بتصنيف 6 مؤسسات حقوقية كمنظمات “إرهابية”، والمؤسسات هي: مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، والحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فلسطين، ومؤسسة الحق، واتحاد لجان العمل الزراعي، واتحاد لجان المرأة العربية، ومركز بيسان للبحوث والإنماء.
وقال بيان صادر عن مكتب جانتس إن المؤسسات جزء “من شبكة تعمل تحت غطاء في الساحة الدولية نيابة عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من أجل دعم أنشطتها وتعزيز أهدافها”. وأوضح البيان أن المؤسسات تعمل تحت غطاء منظمات المجتمع المدني لكنها عمليا تنتمي وتشكل “ذراعا لقيادة المنظمة، التي تهدف إلى تدمير إسرائيل من خلال القيام بأعمال إرهابية”.
واعتبر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية أن القرار يعد “مسا خطيرا بالقانون الدولي” باعتبار أن المؤسسات المستهدفة تعمل وفق القانون الفلسطيني وأنها ترتبط بشراكات مع مؤسسات دولية ما يستدعي تدخلا من تلك المؤسسات لإدانة الإجراء الإسرائيلي والعمل على منع تنفيذه.
وقد عبّر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عن قلقه إزاء تصنيف إسرائيل للمنظمات الست، على أنها “منظمات إرهابية”، بينما قالت واشنطن إنها ستتواصل مع تل أبيب للحصول على مزيد من المعلومات بهذا الشأن.
وقال المكتب الأممي -في بيان- إن قرارات التصنيف التي نشرها المكتب الوطني لمكافحة تمويل الإرهاب في إسرائيل، تدرج أسبابا شديدة الغموض وغير ذات صلة، بما فيها أنشطة سلمية ومشروعة.
على جانب آخر، أثارت الحفريات الإسرائيلية بالقرب من مقبرتين في القدس، اليوسفية وباب الرحمة، غضب الفلسطينيين. واتهم ناشطون السلطات الإسرائيلية بإلحاق الضرر بمقابر الفلسطينيين، لكن محكمة إسرائيلية رفضت لاحقا هذه الاتهامات، مشيرة إلى أن الأرض المعنية أُعلنت “أرضًا عامة مفتوحة” ولا تقع ضمن حدود المقابر المحددة. بالإضافة إلى ذلك، كان أمر قضائي سابق قد طالب المنظمات الإسلامية المحلية بالتوقف عن معاملة المنطقة كمقبرة.
وبحسب أبو غوش فإنه “في الجوهر الجميع متفق على سياسات الضم والتوسع والاستيطان ومنع قيام دولة فلسطينية، ولكن في الظاهر ثمة تباينات طفيفة في طريقة التعبير عن هذه المواقف”.
أما عن آفاق التفاوض مع السلطة الفلسطينية لتقليل التوتر في القدس، فيعتقد السياسي الفلسطيني أن آفاق الاتصالات واللقاءات مفتوحة وتحظى بدعم وتشجيع أميركي وأوروبي وإقليمي، لكن آفاق الوصول إلى حل تبقى محدودة بسبب ضعف الحكومة الإسرائيلية الحالية وانعدام قدرتها على تقديم “تنازلات”، والانقسام الفلسطيني الذي يبقي الحالة الفلسطينية ضعيفة ومحدودة التأثير في معادلة الصراع.