العولمة في زمن الوباء

للنظام العالمي الاقتصادي السياسي وجهان كالقمر، وجه مظلم ووجه مضيء. وفي تاريخ البشر عموما كانت هناك دوما ضرورة لنظام يحكم العالم بأدوات وأساليب القوة في كل أشكالها المختلفة العنيفة والناعمة، وكان هذا النظام يتشكل ويتغير عدة مرات، عقب الحروب العالمية الكبرى التي امتلأت بالدم والعنف الوحشي، أو عبر الكوارث الكبرى الوبائية أو البيئية الشاملة. فقد حدثت تغييرات في القرن الماضي عقب الحرب العالمية الأولى والثانية، ثم تمت إعادة تشكيل هذا النظام مرة ثانية عقب سقوط حائط برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، كما تم تحديثه مع الهيمنة الأمريكية وأحداث سبتمبر، وبدء الحملة المضادة على الإرهاب وغزو أفغانستان والعراق.

وفي العقد الأخير كان العملاق الصيني يتضخم في ظلال الرأسمالية وقوانين السوق والتجارة العالمية الضخمة في إطار فريد، نظام سياسي شمولي يعتمد على سلطة حزب قوي وحيد، وتصاعد الصراع الصيني الأمريكي بصورة مكتومة حينما اندلعت شرارة وباء كوفيد-19 من الصين، وانتشر الفيروس في جميع أنحاء العالم، وتوفي من جراء الوباء حتى الآن ما لا يقل عن 5 ملايين إنسان، وتوالت الاتهامات بين أمريكا والصين حول الأسباب والنتائج وحول مسؤولية انتشار الفيروس.

اقرأ أيضا:

شركات الأدوية ولقاح كورونا.. الأرباح قبل الأرواح

وخلال أزمة الجائحة، من الملاحظ أن سلوك الشركات العملاقة التي تدير الاقتصاد العالمي، وخصوصا الشركات التي تنتج اللقاحات والدواء والمستلزمات الطبية، ذهب في اتجاه تفضيل الأرباح على حياة الملايين من البشر حول العالم، هدف هذه الشركات تحقيق المزيد من الأرباح وتركيز الثروة في أيدي الصفوة من تلك الشركات. باختصار فالنظام العالمي مصمم بحيث يخصص رأس المال للمشروعات الأكثر ربحية مثل مستلزمات وأدوية للتعامل مع وباء عالمي بهذا الحجم. وللأوبئة تاريخ طويل كحالة كارثية والتي قد تكون ردود أفعال طبيعية لنمط الحياة البشرية المشوه والفاسد، والتي يكرسها النظام العالمي.

وبعد قرابة حوالي عامين منذ بداية الجائحة كان الأكثر تضررا من الوباء حتى الآن هي الشعوب والدول الأضعف والأكثر هشاشة، وحتى داخل الدول الغنية كانت الشرائح الاجتماعية الأفقر هي الأكثر تضررا.

الشعوب الفقيرة الأكثر تصررا من فيروس كورونا

والواقع أننا ندرك أن تأثير الوباء مختلف بحسب موقعك، فإن كنت ثريا بما يكفي، وبعيدا بما يكفي عن الحاجة للاختلاط بالناس، أي لديك رفاهية التباعد الاجتماعي، فإن الوباء لن يكون تهديدا وجوديا لك في هذه الحالة، بل ربما فرصة قياسا لحال مواطن بسيط يعيش في عشوائية من عشوائيات الجنوب الأفقر في الأطراف من النظام العالمي المركزي.

في هذا السياق ننظر إلى وجهي القمر المظلم والمضيء

الوجه المظلم للوباء:

لقد كشف الوباء عن الخلل البنيوي العميق في النظام العالمي في الأزمة من حيث غياب التضامن الضروري، واستمرار فجوة اللامساواة والتمييز، بل ازدادت هذه الفجوة بسبب المصالح الضيقة للدول الكبرى، والتي انحازت للقومية ضيقة الأفق بغض النظر عن الاحتياجات العالمية للدول الأخرى، وهو ما كان على حساب التضامن والدعم المتبادل اللازم، وتم تهميش المؤسسات الدولية المنوط بها لعب دور في التضامن العالمي مثل منظمة الصحة العالمية، ولم تنجح المبادرات الدولية مثل “كوفاكس” في تحقيق وعودها في تغطية سكان كل دولة من التطعيم بلقاح كوفيد-19 بالنسب التي كانت منتظرة منها، أي حوالي 40% من سكان كل بلد بنهاية 2021.

وكمثال على النزعة القومية ضيقة الأفق والتي أثرت على مواجهة الوباء خصوصا في بدايته، عندما أطلق ترامب على الفيروس المسبب لكوفيد-19 اسم الفيروس الصيني، ولم يصل العالم لاتفاق لإجراءات إغلاق الحدود بشكل منظم وجماعي في الأشهر الأولى، وصولا لإعلان ترامب الانسحاب من الصحة العالمية وعدم تقديم المخصصات المالية لها، وأهدر العالم فرصة لاحتواء الوباء في الأشهر الأولى بسبب القومية ضيقة الأفق وبسبب هشاشة العولمة وهشاشة مفهوم التضامن، وترك كل بلد في حاله لمواجهة مصيره، ما ساهم في المزيد من انتشار الفيروس .

وقد كان من الممكن أن يؤدي إغلاق الحدود المنسق دوليا في الأشهر الأولى إلى احتواء الوباء وتحجيم انتشاره ويقلل من الخسائر الكبيرة ولكن ذلك لم يحدث.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعرضت المنطقة العربية لخسائر اقتصادية تصل إلى 42 مليار دولار في العام الأول من الوباء بحسب تقديرات الأمم المتحدة، وتعرضت المنطقة لخسائر ليست قليلة في الأرواح، بالإضافة إلى الركود الاقتصادي وتأثر الطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة سلبا.

فيروس كورونا غير وجه الحياة في مصر
فيروس كورونا غير وجه الحياة في مصر

كشف الوباء أيضا عن هشاشة النظم الصحية حتى في الدول المتقدمة، حيث هيمنت مفاهيم السوق الربحية على مفاهيم الرعاية الأولية والأساسية في العقود الأخيرة، وكشف الوباء أيضا عن هشاشة وضع العاملين بالقطاع الصحي والظروف الصعبة وغير العادلة التي يعملون بها والتي أظهرتها الجائحة بوضوح .

في سياق الوجه المضيء للوباء:

يعد اكتشاف اللقاحات في هذا الوقت القياسي وبسرعة في عدة دول كبرى هو الشيء الأكثر إيجابية منذ الوباء، من حيث تكثيف وتسريع التجارب السريرية على اللقاحات، ورغم ذلك لم يستفد جميع البشر من هذه الإمكانيات العلمية الهائلة بنفس الدرجة، فمثلا لم يستفد مواطنو دول الجنوب العالمي من سرعة ابتكار اللقاحات بنفس القدر مثل مواطني دول الشمال.

وكشف الوباء أيضا عن ضرورة أن تكون هناك أهداف واضحة وخطط جماعية بين الدول، وضرورة النأي عن الانعزالية والقومية، والتصدي للتحديات بروح التضامن والتعاون، كل ذلك من أهم الدروس للمستقبل. فستكون هناك أوبئة أخرى وحالات طوارئ صحية أخرى. ولا يمكن لأي دولة مهما كانت أن تتصدى لهذا التهديد بمفردها. ويسير العالم حاليا في محاولة للوصول لاتفاق جديد لإنشاء اتفاقية دولية للتعامل مع الأوبئة المحتملة مستقبلا، مع ضرورة أن تشمل هذه الاتفاقية على بنود ملزمة بخصوص تحسين تبادل البيانات وتوزيع اللقاحات ومعدات الحماية الشخصية بين جميع دول العالم بشكل عادل.

في الخلاصة، إن النموذج النيوليبرالي المنفلت من كل الضوابط لا يشكل ظلما للبشرية فقط، بل يشكل خطرا على الوجود البشري نفسه مستقبلا ما لم يتم إصلاحه.