في مؤلفه الشرعية الدستورية وحقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية، وصف الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور المحاكمة العادلة على أنها أحد الحقوق الأساسية للإنسان. وهي تقوم على توافر مجموعة من الإجراءات التي تتم بها الخصومة الجنائية في إطار حماية الحريات الشخصية وغيرها من حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة، فالمحاكمة العادلة تقوم أساسا على توافر مجموعة إجراءات تلازم كل مراحل المساءلة الجنائية، من شأنها أن تحفظ للمتهم كرامته وشخصيته القانونية.

وقد استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا أن “مدلول المحاكمة العادلة ينصرف إلى مجموعة الضمانات الأساسية التي تكفل بتكاملها مفهوما للعدالة، يتفق بوجه عام مع المقاييس المعاصرة، وما يصون كرامة الإنسان ويراعي حريته الشخصية، بما يوجب ذلك من إحالته أمام محكمة مشكلة طبقا للقانون ويتبع أمامها إجراءات”.

ويشكل استقلال السلطة القضائية أحد أهم عوامل دعم السياسات الديمقراطية، وذلك بحسب القضاء هو الحارس على حريات وحقوق المواطنين من أي شطط أو تغول للسلطة التنفيذية على تلك الحقوق والحريات، فليست النصوص القانونية بذاتها كافية، في حالة كونها تتمتع أو تمتاز بالديمقراطية، وتسعى نحو تطوير مفاهيم الحقوق والحريات بما يتناسب مع التطورات العصرية التي تصاحب مفهوم الحق والحرية ذاته، حيث قد استحوذت مسألة استقلال السلطة القضائية على اهتمام المشتغلين بالقانون والسياسة والفكر على مر التاريخ ومختلف الثقافات والأعراف والحضارات، ذلك لأن وجود تلك السلطة المستقلة الناجزة يشكل واحدا من أهم الضمانات الرئيسية لاستقرار الدول والمجتمعات ومنع انزلاقها إلى حالات الفوضى.

وأهم ما يرتبط بمبدأ استقلال القضاء، هو المحاكمة أمام القاضي الطبيعي، والقضاء الطبيعي يمثل الضمانة الحقيقية لحسن تحقيق العدالة، سواء فيما يتعلق بالأفراد فيما بينهم، أو ما يتعلق بتحقيق سلطة العدالة واحترام مبدأ سيادة القانون واحترام الدولة للقانون، هذا وقد أقر الدستور المصري من الناحية النظرية هذا المبدأ في العديد من نصوصه، وذلك بالتوازي مع ما أقرته اتفاقيات حقوق الإنسان من حرص شديد على ذلك.

ولكن من الناحية الواقعية، فقد تلاحظ أن هناك إحالات متعددة لقضاء الطوارئ في قضايا متعلقة بحقوق وحريات، أو مرتبطة بممارسات ذات طابع عام من أفراد ينتسبون على قطاع المجتمع المدني وحقوق الإنسان، فقد تمت إحالة باتريك جورج إلى محكمة جنح أمن الدولة طوارئ، كما لحق به خلال هذا الأسبوع كل من علاء عبد الفتاح ومحمد الباقر ومحمد أكسجين، الذين تم إحالتهم إلى محكمة أمن الدولة طوارئ بالتجمع الخامس.

هذا ما يدفعنا إلى التساؤل لماذا تلجأ الدولة إلى المحاكمات الاستثنائية مع قضايا ذات طابع حقوقي أو ذات ارتباط بالشأن العام أو الممارسات المتعلقة بحقوق الإنسان، وهو الأمر ذاته الذي سبق أن فعلته مع الباحث والصحفي إسماعيل الإسكندراني، الذي تمت إحالته إلى القضاء العسكري، قبل صدور حكم الـ10سنوات لاتهامه بنشر أخبار كاذبة.  فهل تفضل السلطة القضاء الاستثنائي ونحن على مشارف عام المجتمع المدني كما ذكر رئيس الجمهورية بأن عام 2022 سيكون عام المجتمع المدني؟

الباحث إسماعيل الإسكندراني يقضى عقوبة 10 سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة

الأمر به غضاضة تعلق بحالة الحقوق والحريات بشكل يكاد أن يقصف بممارسيها، إذ إن اللجوء لمحاكم الطوارئ بشكل أساسي لا يكون إلا في الأحوال التي تجيزها حالات الطوارئ الفعلية، وليست الحالات الاسمية، إذ إنه ليس من المنطقي أو الطبيعي أن نظل في كنف تلك الحالة الاستثنائية بشكل يرفع عنها ستر الاستثناء. ويدفع بها إلى منطقة الطبيعي، وينعكس الأمر ويصير الاستثناء هو الأصل، على الرغم من أن الأمور تقدر بقدرها، ولابد وأن نذكر على أن نص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية على ألا تكون التدابير المتخذة متعارضة مع التزامات الدولة المعنية بموجب القانون الدولي، كما حذَّر من أن تأخذ إجراءات الطوارئ نزعة تميزية قائمة على العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين.

كما أن ذلك العهد يؤكد أن حالة الطوارئ يجب أن تُعلن في ضوءِ تقدير دقيق وموضوعي للأحداث بحيث تُناسب التدابير المتخذة الوضعية القائمة دون مبالغة. وللتذكرة فإن مصر قد انضمت إلى ذلك العهد وصادقت عليه ونشرته بالجريدة الرسمية، كما أن الدستور المصري قد أقر على أن القيمة القانونية للاتفاقيات الدولية بذات قدر القوانين الداخلية.

قضاء الطوارئ

ومن الناحية الواقعية، فإن قضاء الطوارئ لا يسمح بنظام استئناف الأحكام القضائية الصادرة منه، ويبقى الحكم رهن إرادة السلطة متمثلة فيما يبيحه قانون الطوارئ ذاته من أن الأحكام تخضع لسلطة الحاكم العسكري فله أن يجيزها أو يعيد المحاكمة أو يعدل الحكم، وهذه أمور جميعها يجب أن تكون خاضعة لسلطة القضاء ذاته. إذ كيف تكون الأحكام القضائية خاضعة لمشيئة سلطة غير قضائية، كما أن حرمان الأفراد من حق الطعن على الأحكام الصادرة بحقهم، يعني أن محاكماتهم قد تمت على درجة واحدة، وهو ما يمنع من مراجعة تلك الأحكام أمام هيئة أعلى، ذلك إضافة إلى أنه من الناحية النظرية فنصوص قانون الطوارئ تسمح بأن يتضمن تشكيل المحكمة ضباط، وإن كان ذلك لم يحدث من حيث الواقع إلا أنه جائز الحدوث.

ومن ناحية القضايا التي يختص بها قضاء الطوارئ فإن الأمر في غالبه يخضع لمشيئة السلطة التنفيذية، إذ عادة ما يحيل رئيس الجمهورية على رئيس مجلس الوزراء اختصاصاته المنصوص عليها بقانون الطوارئ _ كلها أو بعضها – فيأتي قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 187 لسنة 2021 متضمناً اختصاصات محاكم أمن الدولة طوارئ، وفي الغالب تكون معظم القضايا المتعلقة بالشأن العام ضمن تلك الاختصاصات، فقد جاء قرار رئيس الوزراء الأخير بإحالة القضايا المتعلقة بالاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت والمتعلقة بتنظيم الحق في الاجتماع والمظاهرات السلمية و التجمهر وجرائم الإرهاب.

هذا بالإضافة إلى غيرها من الجرائم، وهذا الأمر يعني أن أمر تحديد ما تختص به محاكم أمن الدولة طوارئ من جرائم في يد السلطة التنفيذية، وإن كان المفهوم العلمي لحالة الطوارئ والذي يتسق ويتوافق مع معنى وحقيقة سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون، أن يكون التجريم سابقاً عن تحديد الحالة، ولا يكون الأمر خاضع لسيطرة السلطة التنفيذية في كل مرة كيفما يتراءى لها.

وفي المجمل ووفق الاتفاق الفقهي والقضائي أن الضرورات تقدر بقدرها، وأنه لا يجب التوسع في فرض حالة الطوارئ كما هو عليه الحال، إذ إننا منذ 2017 حتى الآن قد تم إعلان وتمديد حالة الطوارئ 17 مرة، وهو الأمر الذي يتعارض مع استقلال السلطة القضائية وسيادة أحكام القانون وخضوع الدولة للقانون، وذلك فيما يخص استخدام محاكم أمن الدولة طوارئ.

وكما ذكر ابن خلدون في مقدمته بأن “الظلم مؤذن بالخراب… وعلى قدر الاعتداء يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب”، فنتوجه للمعنيين بأمر العدالة في مصر توخي الحذر في استخدام تلك القوانين الاستثنائية والمحاكم الاستثنائية قدر المستطاع، حيث يقاس قدر الدولة بمدى صونها وحمايتها للحقوق والحريات، وضمانها لاستقلال القضاء.

اقرا أيضا:

7 توصيات لإجراء “التقاضي عن بعد” دون الإخلال بحقوق الإنسان.. ورقة جديدة لـ”دفاع” و”دام”