اﻷزمة اﻷخيرة، التي بدأت بانسحاب بعض الفنانين من العرض الخاص لفيلم “ريش” بمهرجان الجونة السينمائي، أثارت العديد من النقاشات حول أحد تلك العبارات التي اعتاد الناس تداولها واستخدامها بشكل مستمر، دون التساؤل عن معناها الحقيقي، وهي عبارة “تشويه سمعة مصر“. لم يكن فيلم “ريش” بالطبع هو أول عمل سينمائي، أو فني بصفة عامة، تُوجه إليه تهمة “تشويه سمعة مصر”. التهمة في الواقع شديدة الرواج في بلادنا منذ زمن بعيد، وقد استخدمت دائما، عبر عهود سياسية مختلفة في تاريخنا المعاصر، لاستهداف أعمال تكشف عن الواقع المصري ما لا يحب النظام الحاكم له أن يكون موضوعا مفتوحا للنقاش العام بالداخل، أو بعبارة أخرى، تعرضت هذه اﻷعمال عادة للمسكوت عنه رغم أنه حقيقة معروفة للجميع. والمثير للاهتمام أن هذا المسكوت عنه، ليس معروفا للكافة بالداخل فقط، بل إنه عادة معروف أيضا بالخارج. وبالتالي فالضرر الظاهري المفترض في هذه التهمة هو دائما تحصيل حاصل، في حين أن الضرر الحقيقي الذي تشير إليه، قد يصيب النظام وحده، ويتعلق بصورته الداخلية أو بما يحب ولا يحب أن يثار في النقاش العام.

مشهد من فيلم ريش
مشهد من فيلم ريش

تاريخ التهمة والعبارة إذن جعلهما لصيقين إما بالنفاق الموجه لمؤسسات الدولة، أو بسعي هذه المؤسسات في كثير من اﻷحيان ﻹخراس اﻷصوات التي تزعجها، أو قمع النقاش في أمور تفضل أن تبقى مسكوتا عنها، ولذا أصبحت العبارة هي نفسها سيئة السمعة، وامتد ذلك حتى إلى مجرد اﻹشارة إلى “سمعة مصر” دون الحديث عن “تشويه” هذه السمعة. ومن ثم فلم يعد ثمة مجال لنقاش جاد حول ما إذا كان لمصر الكيان أي البلد والدولة سمعة حقا، وما إذا كانت هذه السمعة تعنينا، بمعنى إن كان لها أثر ملموس بالسلب وباﻹيجاب بحيث ينبغي علينا أن نهتم بالتخلص من الجوانب السلبية لها وبدفع الجوانب اﻹيجابية. تغيب هذه اﻷسئلة عن اﻷذهان طالما ظللنا محاصرون بالاستخدام النفاقي أو القمعي للعبارة، وطالما اضطررنا إلى اتخاذ مواقع دفاعية معنية فقط بنفي التهمة الزائفة عمن تٌوجه إليه، وربما إلى حد نفي وجود السمعة من الأساس، ونفي إمكانية تشويهها، أو أن يكون لذلك في الواقع العملي آثار حقيقية ينبغي أن تعنينا.

ما أسعى إلى محاولة فعله في السطور التالية هو استعادة مفهوم “سمعة مصر” إلى مكانه الطبيعي كما أتصوره، من خلال طرح اﻷسئلة الصحيحة حول تعريف هذا المفهوم، ومدى أهميته في الواقع العملي، وإلى أي حد كان الاستخدام الشائع له مفيدا، أو في الحقيقة ضارا به، وبالتالي ربما أيضا ضارا بمصر كبلد، وبنا كمواطنين في النهاية.

مفهوم السمعة: من اﻷفراد إلى الكيانات

السمعة بالنسبة للأفراد هي تلك الصورة الشائعة عنهم بين من يعرفونهم أو من (يسمعون) بهم. ولا شك أنها مفهوم له أهميته في الحياة اليومية لدى أغلبنا، فشئنا أم أبينا تظل صورتنا في أعين المحيطين بنا أمرا يعنينا ويؤثر فينا ربما أكثر مما نريد وأكثر مما نعلن، وفي الحقيقة، أكثر حتى مما نظن، فالطريقة التي ينبني بها ما يمكن أن نسميه جهازنا النفسي، تجعل تصوراتنا اللاواعية عن أنفسنا هي انعكاس بشكل أو بآخر للطريقة التي نتخيل أن اﻵخرين يروننا بها. ولكن السمعة، أو صورتنا في أعين اﻵخرين لها أهمية عملية أبعد من مجرد أثرها النفسي علينا، ففي الواقع العملي تتشكل سلوكيات اﻵخرين تجاهنا في أحيان كثيرة على أساس صورتنا في أعينهم، وهذا يعني، أن سمعتنا، أو صورتنا في أعين الناس يمكن دائما أن يكون لها آثار إما نافعة لنا أو ضارة بنا وبمصالحنا. اﻷمثل اﻷوضح تتعلق بالسمعة المهنية لمن يعتمد دخلهم بشكل مباشر على إقبال الناس على طلب ما يقدمونه من خدمات أو ما يصنعونه أو يبيعونه من سلع. الأطباء والمهندسون والمحامون، وكذلك الحرفيون وأصحاب الأعمال التجارية أو الخدمية الصغيرة. كل هؤلاء وكثيرون غيرهم تمثل سمعتهم جزءا رئيسيا من رأس مالهم المهني والعملي الضروري لاستمرارهم في ممارسة أعمالهم ونجاحهم فيها.

فيلم ريش أثار الجدل في مهرجان الجونة
فيلم ريش أثار الجدل في مهرجان الجونة

السمعة المهنية أو العملية هي بالطبع جزء فقط من مفهوم السمعة في حالة اﻷفراد. في كثير من اﻷحيان تكون السمعة الشخصية المنفصلة عن وظائفهم أو أعمالهم أكثر أهمية للبعض، ولكن مفهوم السمعة العملية، المتعلق بمصالح واضحة ومادية في أكثر اﻷحيان، هو ما يعنينا هنا، إذا ما أردنا الانتقال من مفهوم السمعة في حياة اﻷفراد إلى مفهومه في حياة الكيانات وصولا إلى الدول. وفي المنطقة الوسطى يمكننا بالتأكيد أن نلمس أهمية مفهوم السمعة بالنسبة لكيانات مثل الشركات التجارية والصناعية، وكذلك أهميته بالنسبة للمؤسسات بأنواعها المختلفة. في المجمل ثمة دائما آثار تتفاوت في الحجم واﻷهمية لسمعة أي كيان على مصالحه المختلفة، وتنعكس هذه اﻵثار أيضا طرق وأحجام مختلفة على الأفراد الذين ترتبط حياتهم بهذه الكيانات. ينبغي مع ذلك، عندما نتعامل مع سمعة الكيانات، ألا نغفل الجانب الشبيه بالسمعة الشخصية عند اﻷفراد في هذه السمعة. فالكيانات المختلفة لها أيضا سمعة أخلاقية، تتعلق بأحكام الناس على ممارساتها المختلفة من حيث كونها مقبولة أو مرفوضة أخلاقيا. استخدام شركات ﻷساليب غير أخلاقية في عملها ينعكس على سمعتها وفي بعض اﻷحيان على اﻷقل ينعكس على نجاح أعمالها. لذلك تهتم كثير من الشركات العالمية الكبرى بصفة خاصة بالحفاظ على سمعتها، إما بإخفاء بعض تعاملاتها المشبوهة أو بالحرص فعلا على عدم التورط في مثل هذه التعاملات. فضائح اعتماد شركات كبرى على الاستغلال الجائر للعمالة، دفع كثير منها إلى تغيير سياساتها في التعامل مع شركاء خارجيين ووضع شروط بخصوص تعاملهم مع عمالهم، سواء بحظر عمالة اﻷطفال، أو اشتراط حد أدنى للأجر أو حد أعلى لساعات العمل.

هل لمصر سمعة؟

للدول أيضا سمعة. هذا مجرد استنتاج بسيط مما سبق. فالدول لها مصالحها الداخلية والخارجية، والتي يمكن أن نتصور تأثرها بصورتها في أعين الناس. لنرى مثالا مباشرا وواضحا لذلك دعني أستعيد واقعة حدثت قبل شهور. في ذلك الحين ثار على وسائل التواصل الاجتماعي نقاش ساخن حول منشور على موقع “ريديت Reddit”، بدأ بطرح سؤال بسيط حول أسوأ تجارب السفر. لم يكن السؤال اﻷصلي يذكر مصر بأي شكل، ولكن إجابات السؤال المتوالية كانت حول مصر بغالبية كبيرة ولافتة للنظر. كتب العشرات من جنسيات مختلفة حول تجاربهم السيئة عند سفرهم إلى مصر بغرض السياحة، ونصحوا اﻵخرين بعدم السفر إليها. هذا نموذج واضح للطريقة التي تتشكل بها صورة بلد، أو جانب من جوانب هذه الصورة، والطريقة التي يتم بها تناقل هذه الصورة بين اﻷفراد لتتحول إلى صورة شائعة عنها، أي تصبح جزء من سمعتها. نتائج مثل هذه السمعة يمكن استنتاجها ببساطة ودون الحاجة إلى إيضاحات من أي نوع. أهمية صناعة السياحة كأحد المصادر الرئيسية للدخل القومي المصري لا يمكن التهوين منها. ولكن ذلك هو المنظور الواسع فقط، ولا أحد يخفى عليه أن حياة مئات اﻵلاف من المصريين تعتمد بشكل مباشر على مدى ازدهار أو انتكاس السياحة الخارجية، إضافة إلى ملايين لا يمكن حصرهم بشكل دقيق تصل إليهم آثار هذا الازدهار والانتكاس بطرق غير مباشرة ربما لا يدركونها هم أنفسهم.

اﻷمثلة المشابهة لا حصر لها، فسمعة البيروقراطية المصرية، وسمعة السوق المصري بجوانبها المختلفة، والعمالة المصرية، مثلا، لا شك تؤثر كثيرا في قدر تدفق الاستثمارات اﻷجنبية، وكذلك في معدل هروب رؤوس اﻷموال المصرية نفسها إلى الخارج. هذا بالطبع ينعكس بشكل واضح على نمو الاقتصاد، ومعدلات خلق الوظائف، ومن ثم على حياتنا جميعا بصور مباشرة وغير مباشرة لا يمكن حصرها. هذا المثال والمثال السابق حول السياحة أيضا، يمكن من خلالهما تبين واحدة من الطبائع الهامة للسمعة، وهو أن من السهل خلقها، ومن الصعب كثيرا تغييرها.

اﻷهم من ذلك أن السمعة لا تتعلق بشكل تلقائي بالواقع وما قد يطرأ عليه. فربما تتحسن الخدمة في المنشآت السياحية على سبيل المثال، ولكن هذا لن يغير بشكل تلقائي من سمعة انخفاض مستوى الخدمة السياحية في مصر. كذلك يمكن أن تعمل الحكومة على تبسيط اﻹجراءات البيروقراطية التي تزعج المستثمرين، ويمكن أن تسعى في تحسين إمكانية المنافسة في السوق بسبل مختلفة، ولكن هذا مرة أخرى لن يغير سمعة مصر المتعلقة بهذه الأمور بشكل تلقائي. تغيير السمعة يستغرق وقتا طويلا، أو يحتاج إلى بذل جهد مباشر لتغييرها، يبدأ بتغيير الواقع المنشئ لها، ولكنه لا ينتهي بذلك، بل يتطلب العمل على نشر سمعة مختلفة اعتمادا على هذا التغيير.

لمصر، كغيرها من الدول، أيضا سمعة داخلية، أي صورتها في أعين مواطنيها أنفسهم. جانب من ذلك كان واضحا في مثالي السياحة والاستثمار، فالسياحة الداخلية لا تقل أهمية عن السياحة الخارجية حتى وإن لم تجلب عملة صعبة ولكنها تسهم في ازدهار صناعة السياحة ونموها، والاستثمار الداخلي يخلق وظائف ويحتفظ باﻷرباح الناتجة عنه بالداخل ويعيد تدويرها في استثمارات جديدة. ولكن ثمة أيضا أثر السمعة الداخلية على اﻷفراد. الظاهرة اﻷوضح هي ما يمكنك ملاحظته من خلال الطوابير أمام سفارات وقنصليات الدول التي يقصدها المصريون أكثر من غيرها بغرض الهجرة. على جانب أكثر بؤسا يمكن ملاحظة اﻷثر نفسه بصورة مختلفة من خلال طوابير زوارق الهجرة غير الشرعية التي يقامر اﻵلاف كل عام بحياتهم حرفيا عليها للخروج من مصر إلى حيث يتصورون إمكانية أن يجدوا مستقبلا فقدوا اﻷمل في أن يجدوه في بلادهم.

قد يظن البعض أن الرغبة في الهجرة الاقتصادية تحديدا هو ناتج مباشر لعوامل واقعية مباشرة. ارتفاع نسبة البطالة، تدني اﻷجور، ارتفاع تكاليف المعيشة. هذه بالطبع أسباب حقيقية ومباشرة. ولكن استمرارية هذه العوامل أدى إلى أن يكون حلم الهجرة من أجل حياة أفضل، يراود الكثيرين، من كل الطبقات. فقدان المصريين للأمل في الحصول على حياة مرضية في بلدهم، هو بصفة عامة انعكاس لصورة مصر في أعينهم، وهي صورة تتخطى تجاربهم اليومية وتتعلق بما أصبح معروفا بالضرورة، ولا يجادل فيه أحد. وهذا بالتحديد هو مفهوم السمعة.

من يشوه سمعة مصر؟

 

هل يمكن لعمل فني أن يشوه سمعة مصر؟ التشويه هو خلق صورة منفرة على خلاف الواقع. الفقر بالتأكيد صورة منفرة، ولكن بخلاف أن الفقر كما صوره فيلم “ريش” لا يخالف الواقع، الذي نعرف بوجوده جميعا، فهو أيضا على عكس اﻷمثلة التي ذكرتها سابقا لا ينعكس بشكل سلبي على مصالح مصر. السائح والمستثمر على سبيل المثال لا يعنيهم قدر القسوة التي قد يصل إليها فقر البعض في مصر. في المقابل، أن يحصل عمل سينمائي مصري على جوائز هامة في مهرجانات عالمية لها وزنها، هو أمر يعيد بقدر ولو ضئيل بعضا من سمعة مصر كموطن رئيسي للإبداع الفني في المنطقة. هذه السمعة لها وزنها وأثرها، الذي يحب كثيرون الحديث عنه مستخدمين المصطلح السمج “القوة الناعمة”. هذه القوة كانت يوما ذات أثر هام، ولكنها تآكلت بشدة طوال العقود اﻷخيرة.

لا تشوه اﻷعمال الفنية الصادقة سمعة البلد المنتج لها حتى وإن قدمت صورا منفرة لعناصر من واقع الحياة اليومية في هذا البلد، ولكن نجاحها بالتأكيد يدعم سمعة البلد كمصدر للإبداع الفني. في المقابل لا يمكن إخفاء الواقع المتدهور في أي جانب من جوانبه حتى وإن التزم الجميع بالصمت عنه أو اجتهدوا في محاولة تجميله أو اصطناع واقع بديل لا وجود له. الواقع له دائما الكلمة اﻷخيرة في صنع سمعة أي شخص أو كيان، وفي صنع سمعة البلد أيضا. من يشوه سمعة مصر هو من يخلق العوامل المؤدية إلى تدهور واقع الحياة فيها، ومن يهمل في محاولة تغيير هذا الواقع للأفضل، وبالتأكيد أيضا، من لا يكتفي في نفاقه بتصوير الواقع على خلاف حقيقته بل يتهم من ينقل هذا الواقع بصدق بتشويه صورة مصر. ولا شيء أكثر تنفيرا من النفاق، إلا النفاق الوقح.