أثارت ردود أفعال بعض الفنانين في مهرجان الجونة السينمائي بعد مشاهدتهم فيلم “ريش” (الفيلم الطويل الأول للمخرج المصري الشاب عمر الزهيري والحاصل على جائزة أسبوع النقاد بمهرجان كان) الكثير من الجدل وردود الأفعال.
فقد رأوا في تصوير المعاناة والفقر الشديدين في الفيلم ما يمكن أن يكون نوعا من الإساءة لصورة المجتمع المصري. وهو الشيء المثير لبعض الاستغراب. حيث إن الفيلم وبدون الدخول في تفاصيله يطرح رؤية أشمل من مجتمع بعينه، ويذهب لرؤية تخلط بين الشخصي والفلسفي العام تجاه الحياة الإنسانية أبعد من دائرة أي مجتمع بعينه.
وانتقل ذلك الجدل عبر مواقع التواصل الاجتماعي وحتى البرامج التليفزيونية ليشكل تيارا ناقما على الفيلم ومخرجه، دون حتى أن يشاهدوه.
من أكثر الأشياء الكاشفة في فيلم “ريش”. أنه أوضح أن جموع العاملين في السينما في مصر (خصوصا الممثلين) غير مهتمين بمشاهدة أو متابعة حركة السينما في العالم.
إلى جانب أن ما يعرفونه من أفلام “مهرجانات” مصرية، شارك الكثيرون منهم بالتمثيل فيها، كان مدى التجريب فيها ضيقا جدا، وهو في الأغلب في إطار بعض الجرأة في اختيار الموضوع، دون تجريب حقيقي على مستوى التقنيات السينمائية.
فأفلام مثل “سواق الأتوبيس” أو “المهاجر”، حتى وإن كانت أفلام “مهرجانات”، وليس هنا المجال لمناقشة أو تقييم تلك الأفلام، فإنها في زمنها وسياقها استمدت أهميتها من المواضيع المطروحة فيها أكثر من قالبها التقني، وهذا هو سقف توقع المشاهد سواء العادي أو المختص لفيلم المهرجانات.
وفي ظل ذلك السياق، أتفهم الصدمة الرهيبة في تلقي فيلم “ريش” من الممثلين المصريين في مهرجان الجونة.
بعيدا عن المعتاد مصريا لكن ليس عالميا..
لا أعتقد أن العزيز المخرج عمر الزهيري نفسه ينكر تأثره بأفلام “روي أندرسون”، وهو الأمر الواضح في اختيارات بصرية كثيرة في الفيلم، من حيث التكوينات داخل الكادر السينمائي، وهو ذات التأثير الذي ظهر في أفلامه القصيرة التي سبقت فيلمه الطويل الأول “ريش”.
إلى جانب تأثر آخر بالواقعية الجديدة في السينما الرومانية (التي كان أحد أهم تجلياتها فيلم “٤ أشهر و ٣ أسابيع ويومان” للمخرج الروماني كريستيان مونغيو، إنتاج عام ٢٠٠٧ والحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان)، من حيث “تغطية” الصورة بسحابة من الألوان الباهتة تعكس رؤية المخرج السوداوية لأماكن الأحداث. وهنا أؤكد أنه تأثُّر وليس تقليداً ساذجا.
المسألة الأوضح بالنسبة لي هي أن عمر كان لديه صورة واضحة للغاية في رأسه عن العالم الذي يريد خلقه ونقل ذلك العالم إلى الشاشة بشكل شديد الإتقان.
عالم كابوسي رمادي بارد، يكاد يخلو تماماً من المشاعر (بلا علامات مميزة لمكان أو زمان محدد)، البشر فيه “كائنات” في سيرك كبير، وقد عبر عن ذلك بصريًا بشكل مبكر في الفيلم حين صور العائلة بكاملها داخل سيارة قديمة يحيطها بهلاوانات وقردة، في تماهي واضح بين المجاز وواقع الفيلم.
عمر الزهيري يصور شخوصه (كائناته) بلا رغبة في إثارة أي تعاطف أو توحد من جانب المشاهد، بل على العكس، الأمر أقرب لمشاهدة تلك الكائنات في السيرك الرمادي بشكل منفصل عاطفيا تماما من وراء لوح زجاجي. وحتى الشخصية الرئيسية للفيلم، التي قد تكون معاناتها مرشحة لإثارة التعاطف في بداية الفيلم، تبتعد بِنَا تمامًا مع سير الأحداث عن أي ميل لذلك التعاطف، فهي جزء لا ينفصل عن عالمها، بلا إدعاء للبراءة أو المظلومية.
على مستوى آخر، كائنات “ريش” ليسوا فقط مجرد “كائنات” في سياق الفيلم، ولكن بدا أنهم كذلك “كائنات/أشياء” بالنسبة للمخرج، فالفيلم هو بامتياز فيلم المخرج لدرجة تقترب من أن يكون كذلك “فقط”. حيث الممثلين أقرب للدُمَى على الشاشة، بلا احتياج، أو للدقة بلا رغبة، من المخرج لأي “تمثيل” منهم. هم أدوات شبه صماء في لوحات من الكوميديا السوداء تنظر للعالم بالكثير من السخرية التي لا تخلو من الاحتقار.
لذلك أذهب لدرجة القول إنه لا يوجد تمثيل ولا ممثلين في الفيلم (بالمعنى التقليدي للكلمات)، وهذا هو الجانب الأكثر تجريبية.
لا يعنيني هنا الدخول في جدل حول التفسيرات والتأويلات الاجتماعية/السياسية، فهي أشياء تخضع تماما للفروقات الإدراكية للمتلقين. ولكن ما يعنيني بشكل أكبر كون الفيلم تجربة جديدة في سياق “موت السينما” أو “اللا سينما” على مستوى السردية البصرية المعتادة، وهو تيار صنعه الكثير من المخرجين وخصوصا الأوروبيون عبر سنوات مضت.
مفارقة أخرى ملحوظة من ردود أفعال الكثير من الجمهور المختص في عرض مهرجان الجونة، نتيجة عدم إدراك هذا النوع من السينما، هو انتقاد بنية سيناريو الفيلم، رغم أنها من أقل الجوانب تجريبا في العمل، بناء السيناريو في “ريش” كلاسيكي تماما (بداية ووسط ونهاية)، رغم القالب البصري المحير والمثير للدهشة للمشاهد المصري.
ختاما، وحتى لا ندخل دوائر جدل وهمية مصنوعة، الفيلم ليس فيلما لجمهور السينما العادي غير المختص، بل وليس لجمهور من المختصين الذين تعلقوا بتروس أكل العيش في صناعة لا ترحم ففاتهم الكثير مما يحدث خارج تلك الدائرة الجهنمية. وأعتقد أن المخرج على وعي تام بالجمهور المستهدف لفيلمه منذ اللحظة الأولى، وبنى كل اختياراته الفنية على ذلك الوعي.
فتحية لعمر الزهيري على الذكاء الشديد قبل التقنية المُحكمة.
شاهدوا أفلاما، فعلى ما يبدو فاتكم الكثير