في واحدة من اللحظات التي قد لا يقابلها الكاتب كثيرًا، كنت أجلس مع المخرج علي العربي استمع إلى قصص معاناة صناعة الفيلم التسجيلي الأول. “كباتن الزعتري” عندما صمت قليلًأ ليخبرنا سرًا لم يحكيه قبل ذلك، قال: على مدار معايشتنا مع أبطال القصة لحوالي ثماني سنوات. كان يشاركهم الصناعة مدير تصوير يتحدث بلغة الإشارة، مع تطور العمل اضطر الجميع أو تعلم كيف يمكنه التواصل مع الآخرين باللغة ذاتها. مما ساعدهم على التواصل مع بعضهم الآخر دون حديث يقطع ساعات مراقبة وتصوير أبطال الفيلم. التي وصلت لحوالي 700 ساعة تصوير في داخلها أسرار ومفاجئات كانت تخفى على الأبطال ذاتهم.

عندما أعلنت لجنة التحكيم في مهرجان الجونة السينمائي في حفل الختام بالأمس عن فوز فيلم كباتن الزعتري. بجائزة “النجمة الذهبية” كأفضل فيلم تسجيلي في المهرجان لم يُفاجيء كثيرون من ذلك بالرغم من الحفاوة الكبيرة التي قوبل بها الخبر. إذ لم يكن هناك ما هو أفضل من هذا الفيلم التسجيلي عربيًا في المسابقة. يحمل في حبكته قصة شخصية تمامًا ربما تمثّل أغلب العرب من مشرق الأرض ومغربها.

يضع الفيلم قبس من قصص اللاجئيين داخل خريطة السينما العربية هذا العام. بالطبع لم تكن الأولى وربما ليست الأخيرة طالما يعيش عدد غير قليل أبناء العرب كلاجئين في شتى بقاع الأرض. اللاجئون الذي أهداهم المخرج جائزته على المسرح.

حفاوة غير مسبوقة

في عام 2018 ظهرت حفاوة تكاد تكون غير مسبوقة عربيًا عندما ترشّح فيلمان يحكيان فصولًا من معاناة اللاجئين العرب. إلى واحدة من أرفع الجوائز العالمية التي يمكن أن يُرشح إليها فيلم: جائزة الأوسكار. كحدثٍ استثنائي، كانا فيلم “لا شيء أصرح عنه” وفيلم “كفر ناحوم”. هذا التقدير إلى جانب فوز الأخير بجائزة التحكيم الخاصة في مهرجان “كان” السينمائي في دورته الـ71.

بالرغم من كل ذلك لم تكن تلك الجوائز مدعاة للفخر قدر ما كانت جرس إنذار مرعب حول كثرة وقسوة القصص. التي يعانيها اللاجئون العرب في مختلف دول العالم العربية وغير العربية. ظهرت على السطح الكثير من تلك القصص الحية التي تسرد مآساة الإنسان العربي في عالم تضيع فيه حقوقه فقط لكونه لاجئًا. مما خلق مساحات للاستثمار ماديًا ومعنويًا في هذا المكان.

سينما تتحدث عن اللاجئين

في واحدة من أفضل استثمارات مهرجان الجونة السينمائي هذا العام استضافت المنصة السينمائية داخله العرض العالمي الأول. للدورة الخامسة من برنامج “أصوات اللاجئين في السينما”. بمشاركة الرابطة الدولية للمواهب السينمائية الناشئة (إيفتا)، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. من القرن الأفريقي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا واليابان. تضمّنت العروض سبعة أفلام قصيرة مختلفة تحاكي أوجاع وآلام اللاجئين في مختلف دول العالم. الأفلام كلها تنقل قصص حقيقية يجسّد معظمها أبطالها الحقيقيون. إلى جانب الأفلام عُقدت ندوات لسينما اللاجئين تحت رعاية مفوضية الأمم المتحدة للاجئين كما مُنحت جوائز “سينما من أجل الإنسانية”.

ربما كانت السينما مجرّد غطاء للمآساة وتخفيفًا لحدة وبشاعة الآلام التي قد لا يحتملها الكثيرون؛ مآسي العوز والفقر.

بعد عرضه الأول، شارك “كباتن الرعتري” في أكثر من 80 مهرجان حول العالم كان بداياتهم مهرجان صاندانس السينمائي. داخل أمريكا حص خلاله المركز الثاني في قائمة أفضل أفلام المهرجان. بعد فوزه الأول بعدة جوائز أثناء مرحلة ما بعد الإنتاج. وظل يترشح للجوائز في كل مرة يُعرض فيها في مكان ما. حتى أنه بعد عرض الفيلم في مهرجان صندانس رحّب الجمهور الأميريكي بالقصة كثيرًا إلى درجة محاولات عرضه في السينمات التجارية.

يحكي المخرج علي العربي في حواره مع مصر 360 عن بداياته كصانع أفلام تسجيلية عن الحروب بين العراق وسوريا وليبيا، يقول: عشت لسنوات أوثّق مآثي البشرية من الحروب في مختلف الأماكن. معاناة الإنسان في الحرب شيء لا يمكن وصفه، كنت أشعر بالغضب والحزن والظلم مع كل حدث، بعد ذلك قررت العمل على صناعة أفلامي الخاصة.

اختار العربي صناعة قصة حول اللاجئين من خلال “محمود وفوزي” اللاجئان اللذان يريدان احتراف كرة القدم بالرغم من انعدام الفرص حولهم والفقر المدقع الذي يعيشانه.

يقول: عشت معاهم 7 سنين، والجونة قدمت لينا مساعدة كبيرة وفتحت شباك العالم كله كان بيبص علينا. وعايز يبقى معانا بعد ما شاركنا في 2018 في الجونة، قررت عمل أفلامي الخاصة لأن القنوات التي كنت أعمل معها تتعامل مع اللاجئين في كل الدول على اعتبار أنهم أرقام وإحصاءات.

مقامرة مغرية

كباتن الزعتري وليد قصة حقيقية لمعاناة أبناء مخيم الزعتري في الأردن، بدأت منذ عام 2013. يتتبع الفيلم قصتهما دون معرفة واضحة لمصيرهما، كانت مقامرة مغرية تلك التي سار وراءها المخرج ربما تضيع هباءً في داخل مخيم يضم أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين في المملكة الأدرنية.

محمود داغر ابن 23 ربيعًا، وصديقه فوزي رضوان اللذان يحلمان باللعب للمنتخب السوري، في قصة في داخلها الكثير من الدراما والحياة والحلم الذي لا يملك غيره هؤلاء اللاجئين. يبدأ الفيلم في خط درامي بطيء نوعًا ما، يتابع حياتهما شديدة الملل باستثناء الأوقات القليلة التي يذهبان فيها إلى الملعب والمراهنة على فوز أحدهما على الآخر.

الملاحظة الأكثر تأثيرا بالنسبة لي على المعالجة الدرامية للفيلم كانت في عدم اقتناعي تمامًا أن الفيلم تسجيلي، راودتني أفكار ومشاعر أحيانًا من شدة التأثر والتكامل الدرامي في الفيلم أنه هناك بعض المشاهد التمثيلية المتفق عليها قبل التصوير. إذ كان من المستحيل الاقتناع بأن اعترافات وأسرار الصديقين يمكن سردهما أثناء الغروب الذي يعطي دفئًا أكثر للمشهد ليكون كل ذلك على سبيل الصدفة.

مآسي اللاجئين

يقول العربي لـ”مصر 360″ إنه لا يوجد ما يمنعه أن يعلن ذلك على اعتباره أنه كمخرج يحق له أن يضع مشاهد تصويرية داخل الفيلم. لكنه بالفعل لم يفعل ذلك، المغامرة كانت بالنسبة له إلى آخرها، أحيانًا كانت يصوّر بعدسات شديدة البُعد عن أبطاله. يضعها لساعات حتى أنه بعض الأوقات لم يتذكرا أنهما في تصوير من الأساس.

إلى جانب مدير تصوير مذهل استطاع اقتناص لحظات شديدة الحميمة بذكاء شديد كانت هناك مادة فيلمية قبل المونتاج تكفي لعمل ثلاثة أو أربع أفلام أخرى.

ربما قدمت تلك الوفرة إلى الفيلم الاختيار الحر للمخرج في صناعة فيلم تسجيلي بروح روائية سينمائية مؤثرة، سينتمنتالية. في قلبها عصارة المشاعر البشرية من شوق وغضب ورغبة وتوق إلى الحياة، بالرغم من كل شيء لا يوحي بذلك.

كل ما يمكن قوله عن تلل القصة المذهلة يمكن أن يمتد إلى قصص مشابهة أخرى تسرد مآسي اللاجئين في العالم.

وربما لا نعلم تمامًا هل علينا أن نكون سعداء بالروح والمشاعر التي تفرزها تلك القصص أم الحزن على سببها الرئيسي الذي يعاني بسببه ملايين تزداد يومًا بعد الآخر. لم يقدّم الفيلم مثل غيره، وربما لا يستطع حلولًا لأزماتهم وأحلامهم البسيطة، لكنه استطاع وضع مشاعرهم أمامنا. للتأثر والتعاطف والمساندة، وربما في ذلك غاية الفن الكبرى.

عندما سألته عن سبب الاهتمام بتلك القصة تحديدًا عن غيرها يقول: إنه هو كذلك ابن قرية من المنصورة لم يكن يملك فرصة كبيرة. ولم يحقق حلمه سوى بإيمانه بحلمه الصغير، كذلك كان أبطاله محمود وفوزي، جميعهم لم يكن يملك سوى خياله. وهو تحديدًا ما جعلهم يملكون كل شيء إلى جانبه.