حين كتبت هنا منذ بعض الوقت عن الديالكتيك المصري في واشنطن، وكان ذلك بمناسبة افتتاحية حادة اللهجة لصحيفة واشنطن بوست حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر وموقف إدارة الرئيس جوزيف بايدن منها، فقد كان المغزى هو عدم الإفراط في التفاؤل لدي المعارضين، وعدم الإفراط في التوجس من جانب المؤيدين، وذلك استنادا إلى أن صنع السياسة في واشنطن داخلية كانت أم خارجية هو محصلة صراع وتسويات بين عدد كبير من اللاعبين، وأن مصر الرسمية لديها حلفاء وأصدقاء مؤثرون هناك، مثلما أنها تواجه خصوما ومعارضين. وأن القاعدة العامة هي أنه إذا بلغ الصراع نقطة التأزم فإن أصدقاء مصر الرسمية وحلفاءها بقيادة المؤسسة الأمنية الأمريكية واللوبي الخليجي واللوبي اليهودي إما أنهم يحسمون الأمر فيرفعون كافة الضغوط عن مصر، وإما أنهم يخففون هذه الضغوط إلى حدودها الدنيا.

وبما أن الديالكتيك (أي جدلية الصراع والتسوية ) يتألف من جولات تفضي الواحدة إلى التالية، فقد يحرز هذا الطرف أو ذاك بعض النقاط على حساب الأطراف الأخرى في جولة بذاتها، في وقت محدد، ولأسباب بعينها، والواضح الآن، ومنذ قررت اللجنة المختصة في الكونجرس تعليق جزء من المعونة الأمريكية السنوية لمصر أن العلاقات بين القاهرة وواشنطن تجتاز جولة حرجة (وليست حاسمة) في ذلك الديالكتيك، أو تلك الجدلية، ولكن دون أن ينقطع الحوار بين القاهرة وواشنطن لا على المستوى الرسمي، ولا علي المستوى المجتمعي، إذ إننا نعرف من الأنباء المنشورة أن وفدا مصريا رسميا رفيع المستوي زار العاصمة الأمريكية في أواخر الصيف المنقضي، وأن اتصالات هذا الوفد تركزت على ملف حقوق الإنسان، كما نعرف أن وفدين يمثلان المجتمع المدني  سافرا إلى واشنطن للغرض نفسه بالتنسيق مع الجهات الرسمية، وكان أحدهما برئاسة السياسي النشط في ملف المحبوسين احتياطيا محمد أنور السادات، وهو الرجل الذي يحظى بثقة الأجهزة بل بموافقتها في هذا الملف تحديدا، كما يحظى بثقة أطراف مجتمعية عديدة.

من متابعة نتائج هذه الزيارات، ومن متابعة تصريحات المسئولين الأمريكيين، نفهم أن إدارة بايدن، خاصة وزارة الخارجية تحتاج أو تطلب من القاهرة إبداء مرونة أكبر في مسألة حقوق الإنسان، سيما حالات الحبس الاحتياطي طويلة الأمد، وذلك كي تتمكن الخارجية الأمريكية من إخطار الكونجرس رسميا باستجابة السلطات المصرية للشروط الموضوعة من جانب الكونجرس نفسه لرفع التعليق عن المبلغ الموقوف من المعونة.

وإذا استرشدنا بالسوابق المماثلة للحالة الراهنة في العلاقات المصرية الأمريكية، وبالذات بين الرئيسين حسني مبارك وجورج بوش الابن في سنوات بوش الأخيرة، وليس فقط بتوقعات الزوار المصريين لواشنطن، يمكن القول إن الطرفين بينهما تفاهم ضمني أو صامت على طريقة إدارة مثل هذه الأزمات الصغيرة، وهي الاستجابات المحدودة مقابل الترحيب المتفائل بأن هذه الاستجابات خطوة ستتلوها خطوات، حتى وإن لم يكن مؤكدا أن تلك الخطوات التالية سوف تجيء. ذلك أن العلاقات الأمريكية مع مصر هي في نهاية المطاف ركيزة من ركائز السياسة الخارجية الأمريكية، وأن ضغوط أصدقاء وحلفاء مصر الرسمية -بوزنهم النسبي الأرجح –  تجيء في هذه اللحظة فتفرض القبول بمثل هذه التسوية الجزئية.

غير أن الاسترشاد بالسوابق بين مبارك وبوش الابن تنبئنا أيضا بأنه حدثت قطيعة بين الرئيسين لعدة سنوات فيما كانت التسويات الجزئية تعقد، وفيما كانت قنوات التعاون والاتصال على بقية المستويات مفتوحة على مصراعيها، وكما نعرف فإن تلك القطيعة كانت غضبة  من مبارك شخصيا من الانتقادات المباشرة له شخصيا أكثر من مرة علي لسان بوش شخصيا، وهذا مالم يحدث في الظرف الراهن من الرئيس بايدن بعد دخوله البيت الأبيض، ولا من أي من أركان إدارته، ومن ناحية أخرى فربما كانت الأوضاع الإقليمية قبل الربيع العربي تحتمل مثل تلك القطيعة على المستوى الرئاسي بين القاهرة وبين واشنطن، ولكن استمرار الأوضاع القلقة في الإقليم ككل بعد الربيع العربي، وخاصة القابلية الدائمة للانفجار في لبنان والسودان والعراق وفلسطين،  وكذلك الطموحات الروسية والصينية، والدور الإيراني بكل مشتملاته.. كل ذلك يجعل من قطيعة رئاسية جديدة بين البلدين وضعا غير طبيعي، وهنا أيضا قد يحتاج بايدن من القاهرة إلى ما يسوق به استئناف لقاءات القمة الأمريكية المصرية للرأي العام في الولايات المتحدة، وكذلك للصحف ومراكز الأبحاث، والأهم تسويقها للكونجرس.

وقد  جاءت أزمة ارتفاع أسعار البترول العالمية مؤخرا، مع دخول فصل الشتاء،  ومع آثارها السلبية على الاقتصاد الأمريكي، لتطرح ملف اللقاء المباشر بين الرئيس الأمريكي والزعماء المهمين في الشرق الأوسط بقوة على المكتب البيضاوي، ومن يتأمل تصريح بايدن يوم الجمعة الماضي يشتم منه رائحة اعتذارية ممزوجة بتمهيد للتراجع عن موقفه الرافض للقاء ولي العهد السعودي (للأسباب  التي لا يجهلها أحد) وهو الرجل الذي بيده وحده خفض أسعار البترول، فقد قال الرئيس الأمريكي إن زعماء كثيرين من الشرق الأوسط يودون لقاءه لبحث أزمة أسعار البترول، ولكنه ليس واثقا من إمكانية لقائهم، ومن هنا قد تكون قمة أمريكية مصرية بداية معقولة، خاصة وأن أسباب الجفوة الرئاسية هنا لا تقاس بالأسباب في حالة ولي العهد السعوي، لذا يتوقع المراقبون -وأنا معهم- انفراجة في ملف المحبوسين احتياطيا في مصر وفي العلاقات  المصرية الأمريكية قبل مؤتمر القمة العالمي للمناخ في جلاسجو والذي يبدأ في نهاية الشهر الحالي ليتمكن الرئيسان من اللقاء على هامشه، فإن لم تحدث الانفراجة قبل هذا الموعد القريب فالمتوقع أيضا أن لا تتأخر إلى ما بعد نهاية العام الحالي.