(1)
أرسل لي صديق مثقف أغنية مهرجانات بعنوان: “مع السلامة للي عايز يمشي” يغنيها فريق من الأولاد الصغار (أوشا الصغير وعمر حفظي وسعد حريقة) وللأغنية عنوان آخر متداول عند محبي هذا النوع هو “غَرّقوا السفينة”، والكلمات مأخوذة من لغة الشارع وعتاب الأصحاب اللاذع في “دنيا شمال” حسب أغنية محمود العمدة أو في “عالم فاسد” حسب أغنية حمو بيكا، وهو ما يسميه المثقفون حالة اختلال منظومة القيم، واختلاط الحابل بالنابل حتى تحولت المجتمعات إلى “سويقة” تفتقد الأصول وحق الصداقة والأمانة والعشم، وتحول الأصدقاء إلى “اصحاب أونطة” و”مفيش صاحب بيتصاحب” كما يقول فلاسفة المهرجانات…
كتب صديقي مع اللينك المرفق للأغنية يسألني: الحقيقة بفكر ليه الناس ما بتحبش النوع ده من الأغاني، مع إنه بيعبر عن ناس كتير؟، وإذا كانوا شايفين إنه نوع هابط، طيب فين اللي مش هابط؟.. ما كل حاجة بقت هابطة
قلت له: أنا مشغول بالموضوع ده من سنوات وكتبت مقالات متفرقة كان بعضها لتحية ظواهر جيدة في الإبداع الشعبي، لكنني لم أقتحم القضية بالجدية والتوسع الذي يناسب خطورتها وانتشارها وارتباطها بذوق وثقافة واحتياحات الناس، وربما أكتب قريبا عنها كمحاولة للنظر إلى مشاكلنا من نافذة بعيدة عن السياسة التقليدية وعناوينها الضيقة
(2)
كنت قد خططت لكتابة سلسلة سقوط المثقفين والإعلاميين في خطيئة الوشاية العلنية والبلاغات الأمنية والتحريض ضد الآخرين، لم أكن مهتما بالتراشق مع اسم بعينه، لأنهم كتير بكل أسف وقرف، كنت مهتم أكثر بالتحليل السياسي والثقافي للأسباب والظروف التي أدت لصعود أمثال هؤلاء المخبرين إلى منصات قيادة الرأي العام من غير مواجهة مضادة من بقية المثقفين أو العقلاء الحريصين على العقل والاتزان في مؤسسات الدولة نفسها، كما حدث في أمريكا مثلا بعد سقوط عدد من مثقفيها في فخ الوشاية الأمنية بزملائهم استجابة لحملة نائب جمهوري (جوزيف مكارثي) دعا عبى طريقة النائب الجمهوري الجديد مصطفى بكري إلى مطاردة مثقفي اليسار والإخوان الشيوعيين واعتبارهم خونة لأمريكا، وأعلن بدون دليل عن قائمة بسماء في وزارة الخارجية وفي استوديوهات صناعة السينما في هوليوود، وكذلك ما حدث من انتفاضة ثقافية وإعلامية في بريطانيا ضد توني بلير وداعميه، لكن شعرت إن سلسلة المقالات دي ثقيلة في التلقي وأن الجمهور يعرف في العموم أن فلان أمنجي وفلان مش أمنجي ولا يهم التحليل، لأننا تعودنا على نوع من التلقي يهتم بالخبر وليس بالتحليل، عادة نفضل طريقة “هات م الآخر”
وبناء عليه استدرجتني رسالة الصديق إلى فكرة الكتابة عن الغناء وظاهرة المهرجانات، وبالفعل بحثت عن ملاحظات قديمة دونتها لتفسير ظواهر غنائية مثل جوني كاش وريتشارد راي واريتا فرانكلين وجيمي ديورانت ونماذج أخرى لمغنين أمريكيين، انفجروا كقنابل غنائية جماهيرية، لكن المؤسسات هناك سرعان ما استفادت من هذه الظواهر في مأسسة الأنواع الغنائية الناجحة خاصة الأغاني الريفية مثل البلوز والكنتري التي تم دمجها في تشريعات ومسارات اقتصادية وإعلامية ناجحة، على عكس ما يحدث عندنا في دولة هاني شاكر..
قلت مشجعا نفسي: والله موضوع لطيف وإن كان يلزمه أيضا تحليل تاريخي وثقافي لنعرف من أين تأتي هذه الظواهر؟، وإلى أين تتجه؟، وهل نشجعها وندعمها أم نحاربها ونلعنها؟
فجأة يصلني خبر موت الدكتور حسن حنفي، وكنت قد أشرت في المقال السابق إلى مقدمته الثاقبة في ترجمة كتاب سبينوزا عن السياسة واللاهوت، والتي ركز فيها على تعريف الدولة ودورها في رعاية جميع الفئات واحترام وتفعيل الدستور، وأصابني حزن كبير عكّر حالتي المزاجية وعطل الحالة الغنائية التي كنت فيها، فعلاقتي الثقافية والإنسانية بالدكتور حنفي تمتد لأكثر من 30 سنة تخللتها حوارات ونقاش، خاصة عن مشروعه الشامل للتحديث وعلاقة التراث بمنجزات العصر، وموقفه الانعكاسي من الغرب (يعني هما عملوا استشراق.. يبقى احنا نعمل استغراب، وزي ما درسونا ندرسهم)..
بعد يومين من المعاناة مع شبح الاكتئاب تمسكت بفكرة الكتابة عن المهرجانات، وإن ظل الدكتور حنفي ومشروعه في خلفية دماغي، لأن كلامه عن التحديث والتغريب وضرورة تجديد التراث ليس ببعيد عن ظاهرة الغناء “الجديد” في مصر، ليس من حيث التوسع في استخدام الآلات الغربية وموسيقى التكنو، ولا من حيث الكلمات الجريئة والمبتذلة في كثير من الأحيان، ولا من حيث الشعبية الطاغية لهذا النوع، لكن أيضا من حيث علاقة مطربي المهرجانات مع الدولة ومؤسساتها التقليدية، وكذلك مع المؤسسات النقابية التي وضعت الدولة سيطرتها عليها فتحولت من حماية العاملين بالموسيقى إلى ذراع أمني للدولة، خاصة وأن مصادر التمويل الرقمية المرتبطة بالغرب ومؤسساته قلصت من قدرة المؤسسات الداخلية على حصار الظاهرة والتحكم فيها بالوسائل التقليدية القديمة…
سيبونا من الكلام العميق دلوقتي ونخش في المقال.. دقي يا مزيكا
(3)
من أجل عين بتكرم ألف عين / وتزيد كرم ع الراس
وفي ناس كتير / من أجل عيشها وملحها / تكرم لو حتى كانوا رخاص
طب بحر مسا يابا عاللي صانوا / ميلزمناش واحد من اللي خانوا
هكذا تندلع المهرجانات عادة، موسيقى صاخبة وإيقاع ساخن وكلمات عتاب وتوبيخ للزمن المعاكس والأصحاب الأندال والحبيبة التي هجرت، لكن البارز في كلام المهرجانات هذه الأيام ليس العتاب، فهو معروف من زمان في مووايل الحزن المصري الأصيل، الجديد هو إعلاء الذات، وسهولة الاستغناء، ليس عن “اللي خانوا” فقط، لكن عن “كل اللي عايز يمشي”، وكله عادي عادي عادي:
أي حد معانا عارف تمامه / كل اللي راح قادرين نجيب مكانه
دخلنا البحر / غرقوا السفينة / بنأدف مهما الموج يعلا علينا
على أي حد احنا كعبنا عالي / ولاد أصول أوي وسعرنا غالي
مع السلامه للي عايز يمشي / والمركب اللي تودي ماترجعشي
مدام جدعنتي معاكوا مبتنفعشي / في داهيه أي حد مايقدرشي
وعادي وعادي وعادي / كل اللي راح عادي / كل اللي ضاع عادي / كل اللي جاي عادي
هذه الروح يسميها فيلسوف السيولة زيجمونت باومان “العلاقات الهشة”، وهي ظاهرة اجتماعية متفشية كالوباء في مجتمعات العصر وهي المتسببة مثلا في ارتفاع نسب الطلاق، وزيادة معدلات جرائم الأسرة، وخيانة الأصدقاء، وحالة التفكك التي تجعل العلاقات في عمومها سطحية، حتى إن المغني الذي يعاتب الندل ويحدثه عن العشرة والعيش والملح، هو نفسه الذي يقول له بسهولة: في داهية، واللي راح نجيب مكانه!
هذا الاستبدال السهل للأصحاب نتيجة لسيطرة فكرة البيع والشراء وتسليع كل شيء: اللي اتكسر نرميه ونجيب غيره…
(4)
أوشا وحريقة وبيكا وتيتو وشاكوش وبنجق وويجز وفيفتي وأوكا وحاحا وأورتيجا وشواحة وصاصا ووزة وكوستا وشطة وكزبرة… إلخ
لما رفعت عيني وبصيت على السطر اللي فوق حسيت للحظة إن الكيبورد باظ وكتب حروفا عشوائية، لكن طبعا واضح أنها أسماء مشهورة لمطربي المهرجانات، وطبعا مش ممكن تكون صدفة، إذن هناك سر أو سبب لاختيار نجوم الغناء الشعبي الجدد أسماء غرائبية بهذا الشكل؟!
الاسم الفني عادة يخضع لمعايير إعلامية وتجارية من بينها أن يكون ملفتا وجذابا، وفي عصر سابق كان يتم تبديل الأسماء في اتجاه طبقي أرستقراطي مضاد للأسماء الشعبية، فتتحول غنيمة خليل إلى “مديحة يسري” وبدوية محمد إلى “تحية كاريوكا” وبهيحة عبد السلام الحو إلى “هدى سلطان”، أو كان يتم التبديل للتخفيف في النطق والابتعاد عن أي حساسيات دينية أو أجنبية فتتحول ليليان إلى كاميليا وإلى “ليلى مراد” أيضا، وتختار بولا شفيق اسم “نادية لطفي”، وتتغير شيرويت مصطفى إلى “ليلى طاهر”، ونينوشكا كوبليان إلى “لبلبة”… إلخ
لكن أسماء وألقاب مطربي المهرجانات سارت في اتجاه معاكس لمحاولات الترقي الطبقي أو “تنعيم الأسامي”، واتخذت نهج أهل الحرف باستخدام كنايات وألقاب غريبة طغت على الأسماء الأصلية، وهذه الأسماء لا يصح التعامل معها كأسماء فنية، لأن معظمها موجود ومستعمل قبل العمل في الفن، وهذا يعني أنها ظاهرة اجتماعية أكثر منها فنية أو إعلامية.
وأذكر أنني التقيت في السجن بعشرات السجناء من محافظة واحدة، ولاحظت أنهم جميعا يستخدمون أسماء غريبة مثل سنجة وبكاكا وحوت وعلاولة وشجرة، حتى إن ضابط الترحيلات عندما كان يسمعهم يتنادون بغير كشف الأسماء الذي يمسكه بيده يضرب كفا بكف ويقول: نفسي ألاقي واحد منكم اسمه هو اسمه اللي معايا!
هذا الانفصام بين الاسم الرسمي الذي يحمله الضابط والاسم المستخدم في الحياة، يشير إلى الانفصام بين حياة هؤلاء الشباب وبين كل الرسميات التي تتعامل بها الدولة معهم، فقد أصبحت لهم حياة أخرى خارج الأوراق، لهم لغة وغناء وطبيعة عمل وعلاقات لا علاقة لها بالدولة ومؤسساتها إلا في لحظات القمع والقبض والسجن وتحصيل الضرائب والغرامات والفواتير.. إلخ
كانت جولييت تطلب من روميو تغيير اسمه، لأنه يحمل اسم العائلة التي تعادي عائلته، فتعاملت كأن الاسم صار مانعا للوصال والحب والزواج، لأنه يشير إلى هوية مرفوضة.
عندما فشلت مشاريع التصنيع والحداثة في إسعاد العالم، توجس الناس من العلم القطعي ومن الشعارات التي تبشر بالرخاء والرفاهية واليوتوبيا، لأنهم اصطدموا بالزيف والفقر وتلويث الهواء والماء وحرق الغابات، ففقدوا اليقين في كل النظريات والتعريفات السابقة، وظهرت مرحلة جديدة ترفض الحداثة التي حصد ثمارها قلة من أباطرة الرأسمالية الجشعة، فلما سئلوا عن المرحلة الجديدة التي ينادون بها بعد مرحلة الحداثة، لم يقدموا لها اسما ولا تعريفا، وقالوا إنها مرحلة رفض للقديم دون معرفة الجديد، ولذلك قال أحد الفلاسفة في تعريف “ما بعد الحداثة” أنها المرحلة التي نسي فيها آدم الأسماء، حيث حلت الهيولة وانتشرت الضبابية وسيطر الشك وغاب الانتماء وانتعشت الفردية، بمعنى أن الناس صارت تعرف أنها موجوعة، ومع ذلك لا تثق في قدرة الأطباء الموجودين على تقديم العلاج السليم (إنهم يلهفون الفيزيتا وخلاص)، وفوق هذا لا يعرف الرافضون طريقة جديدة للعلاج، وفي مثل هذه الظروف يفتش الناس عن الخرافة ويلجأون إلى الطب الشعبي والوصفات القديمة، وتعلو الآهات، وتنتشر الشكوى، ويحمل الناس “مطارق نيتشة” ويجوبون الطرقات لتدمير كل ما يقابلهم، هكذا يسخر الناس من كل الأبهة الرسمية الكاذبة ويتنصلون منها باتخاذ هيئة وسلوك معاير.
أتذكر بهذه المناسبة رؤية المفكر الفرنسي جيل كيبل الذي درس ظاهرة الأصولية في مصر لسنوات طويلة، فقد رأى أن جمهور الإسلام السياسي زاد بقوة بعد نكسة 1967 واستخدم نمط ملابس مغاير للعصر وأسماء مستمدة من التراث القديم، وهذا السلوك في جوهره يعبر عن رغبة قوية في التنصل من المرحلة التي يعيشها، كأنه يسعى للتمايز عن الفريق المهزوم ويرفع شعار “أنا مش معاهم”.. “أنا لوحدي”.. “أنا مختلف”
وكلما كانت لدى الشخص رغبة أكبر في التنصل والاختلاف عن السائد المرفوض كلما زادت المسافة بينه وبين الدولة ومنتجاتها، وهذا يعني أن محاولة التوفيق بين هاني شاكر وحمو بيكا بدون فهم عميق، لن تنجب إلا مسخا يشبه محمد رمضان.
(5)
لن أطيل أكثر من هذا، لأنني سأعود بالتفصيل في مقالات لاحقة إلى كثير من النقاط التي تم طرحها هنا كإشارة سريعة، ومنها قضية التجديد أو التحديث، خاصة وأن موضوع الغناء يصلح برغم بساطته لتفسير قضية التحديث في عمومها، لكنني اليوم أتوقف معكم عند كلمة “مهرجان”.
ما سر اختيار هذه الكلمة لهذا النوع من الغناء؟
ومن الذي اختارها؟
وهل لها معنى فني سليم أو دلالة مقصودة إلى شيء ثقافي أو اجتماعي؟
لن أجيب إجابة كاملة، لأن الموضوع يحتاج إلى مقال منفصل يجرنا إلى قضايا كبيرة ومتشابكة، لذلك أكتفي اليوم بالإشارة لمقولة قديمة كان لينين يقدم فيها الثورات الشعبية باعتبارها مهرجانات للفقراء والمقهورين والموجوعين من السلطة ومؤسساتها الرسمية
واعتقد أن تعريف لينين يتضمن “إشارة إدانة” للقسمة الفصامية التي باتت تهدد حالة التجانس المجتمعي في مصر… مصر العشة ومصر القصر.
وهذا هو موضوعنا في المقال التالي.