السودان واحد من أكثر بلدان العالم اختبارا لتجربة الانقلابات العسكرية، وقد نجح ثلاثة من تلك الانقلابات على الأقل في تغيير نظام الحكم والاستحواذ على السلطة والبقاء في الحكم لسنوات طوال وصل مع البشير لثلاثين عام ( 1989-2019). ومع سابقه جعفر النميري لأكثر من خمسة عشر عاما من ( 25 مايو 1969 إلى 6 أبريل 1985)، وإبراهيم عبود لست سنوات من (1958- 1964)، وقد تخلل فترات الحكم الثلاث العديد من المحاولات الانقلابية.
ربما كان أشهرها انقلاب هشام العطا 1971 على نظام حكم جعفر النميري والمايويين، والذي برز فيه لأول مرة اسم الضابط عبدالرحمن سوار الذهب قائد حامية الأبيض الذي رفض تسليمها للانقلابيين، وكان أحد عوامل فشل الانقلاب.
حراك شعبي يقود التغيير
يكاد يكون وجه الشبة الأبرز بين الانقلابات الثلاث يتمثل في الحراك الشعبي الثوري الذي ينجح في إسقاط نظام الحكم وتسليم السلطة لسلطة مدنية أو مجلس انتقالي يجمع في تمثيله بين المدنيين والأوصياء من العسكريين على الفترة الانتقالية تمهيدا لتسليمها لسلطة مدنية منتخبة. لكن ما يحدث في كل مرة هو انتزاع السلطة بقوة السلاح من أحلام المدنيين إلى ثكنات ضباط الجيش.
ففي عام 1964 نجح حراك شعبي راح ضحيته مئات المتظاهرين في إسقاط حكم الفريق إبراهيم عبود وإجباره على التنحي وتسليم السلطة لحكومة مدنية، كان يوم 21 أكتوبر الذي انطلقت فيه المظاهرات ضد حكم البشير هو اليوم نفسه الذي انطلقت فيه مظاهرات ضد حكم عبود انتهت بإقصائه عن السلطة.
لكن الأمور آلت إلى غير ما يرجو الشعب السوداني حين انقلب جعفر النميري على السلطة المدنية ليدخل السودان مرحلة حكم المايويين التي استمرت خمسة عشر عام قبل أن يطيح بها حراكا جماهيري آخر انطلق من الأحياء الفقيرة والضواحي المعتمة ابتداءا بما عٌرف بانتفاضة السكر المر وانتهاءا بإعلان سوار الذهب الانحياز لمطالب الشعب وتنحية جعفر النميري1985 وتسليم السلطة للمدنيين بعد فترة انتقالية لعام واحد قبل أن ينقلب عمر البشير ونظام الإنقاذ من جديد على السلطة المدنية المنتخبة والاستئثار بالسلطة لسنوات طوال مزقت السودان وانتزعته من محيطه العربي إلى أوهام التنظيم الدولي للجماعة الراعية ( جماعة الاخوان المسلمين).
صراع محموم بين الجيش والمدنيين
كانت سنوات الحكم منذ استقلال السودان عن مصر (1956) سنوات مراوحة ونزاع بين طموح وأحلام المدنيين المشروعة في السلطة من ناحية، ومنطق القوة المهيمنة والسيطرة العسكرية من ناحية أخرى، ربما كان الصراع بين المدني والعسكري في السودان أكثر وضوحا عن غيرها من البلدان العربية التي مرت بتجارب مشابهة ففي السودان شعب مؤمن وحريص على أحقيته في إدارة شؤن البلاد بنفسه دون وصاية من إحدى مؤسسات الدولة ممثلة في الجيش، فالانقلاب في كل واحدة من المرات الثلاث كان انقلابا على سلطة مدنية منتخبة ولم يكن انقلابا على حكم عسكري سابق.
وإذا كان هذا أبرز ما يجمع الانقلابات الثلاث، فإن ثمة فارق جوهري يميز انقلاب البرهان عن سابقيه، ذلك أن الانقلابات السابقة غالبا ما كانت مدعومة بظهير شعبي حزبي نجح في اختراق صفوف الجيش بأيديولوجيته ثم قرر الخروج إلى الشارع على ظهر الدبابات.
انقلاب بلا ظهير
فقد كان انقلاب جعفر النميري مدعوم من الحزب الشيوعي السوداني الذي اعتبر أكبر تنظيم شيوعي في العالم العربي بعد نظيره العراقي وهو ما وفر للانقلاب عوامل النجاح الجماهيري في الأوساط المدنية، كما كان انقلاب عمر البشير مدعوما من الإسلاميين السودانيين لاسيما حركة الإخوان المسلمين ( الكيزان) الذي يعتبر منظرها الأبرز حسن الترابي مهندس الانقلاب وواضع خطته قبل أن يقوم البشير بالانقلاب عليه، فهل يملك البرهان ظهيرا شعبيا مماثلا؟
بعد انقلاب البرهان سارعت جٌل الأحزاب السياسية السودانية إلى إعلان تبرؤها التام من الانقلاب ورفضها محاولة الانقضاض على مكتسبات الثورة السودانية التي أطاحت بالبشير، كما طالب الجميع الجماهير بالخروج إلى الشارع للحفاظ على مكتسبات الثورة، هكذا جاءت بيانات حزب الأمة، والحزب الشيوعي السوداني، وتجمع المهنيين وغيرها العديد من تيارات ومكونات المجتمع المدني الذي كانت خبرة الماضي، ونجاح ثورته في الإطاحة بحكم البشير كفيلتان بتوحيد صفوفه والانتباه لمخاطر الثورة المضادة بمحاولة شق صفه
صحيح أن سياسة البرهان وحميدتي نجحت في إضعاف ثقة المواطنين في حكومة عبدالله حمدوك رئيس الوزراء من خلال اختلاق أو غض الطرف عن العديد من الأزمات الاقتصادية والأمنية، حيث تشهد البلاد حالة من انهيار العملة، وشح في الأدوية ونٌدرة في المواد الغذائية.
ويشهد شرق السودان حالة من الفوضى العارمة بعد قيام نظارة البجا بقيادة (محمد الأمين ترك) المحسوب على نظام البشير (الكيزان) بقطع طرق الشرق، وإغلاق ميناء بورتسودان واغلاق المطار، ووقف أنابيب نقل نفط الجنوب وغيرها من الأزمات، إلا أن هذه الأمور قد تخلق ناقمين على حكومة حمدوك لكنها لا تصنع بالضرورة حلفاء حقيقيين للمكون العسكري في المجلس السيادي، فالتعويل على بقايا النظام السابق في مواجهة الموج الثوري (المدني) الهادر له عواقبه.
مسلحون في مواجهة الانقلاب
فضلا عن أن وجود عدد من الفصائل المسلحة التي قد يؤدي انحياز بعضها للحكم المدني ومطالب الثورة إلى جر السودان إلى حالة من الاقتتال والحرب الأهلية يشكل خطر كبير على دولة تعيش أزمات اقتصادية وسياسية ودعوات انفصالية ونعرات إثنية وعرقية.
إذ على الرغم من محاولة سودان ما بعد الثورة دمج عدد من الحركات الانفصالية المسلحة في اتفاقية للسلام وقعت في جوبا أكتوبر 2020، حين وقعت الجبهة الثورية التي تضم 9 فصائل مسلحة على اتفاق للسلام، فقد امتنعت عن التوقيع “الحركة الشعبية-شمال” بقيادة عبد العزيز الحلو وحركة “تحرير السودان” برئاسة عبد الواحد محمد نور توقيع اتفاق السلام وقد أعلنت الأخيرة في بيان لها أمس 25 أكتوبر رفضها القاطع لانقلاب البرهان وانحيازها الكامل للمسار الديمقراطي ومطالب الشعب، ففقدان انقلاب البرهاني للظهير الشعبي والسياسي ووقوف عدد من الحركات المسلحة ضد محاولة الانقلاب، وموجه من الرفض و الانتقادات المحلية والدولية تجعل من عمر انقلاب البرهان قصير، بل وقصير جدا.