في لعبة السياسة كل شيء وارد، أقصى اليمن يمكن أن يصبح في أبعد نقطة على يساره، وفي الملفات المركَّبة كالوضع في ليبيا يبدو ذلك متوقعًا ومقبولاً؛ وهو ما حدث بالفعل في علاقة غرب ليبيا مع دول الخليج العربية، بعد سنوات من القطيعة، يظهر الخليج في واجهة المسرح السياسي والاقتصادي الذي دشنته حكومة الوحدة الوطنية وممثلوها المحسوبون على غرب البلاد.
في أبريل الماضي، وبعد أقل من شهر على توليه منصبه، توجه رئيس الحكومة الليبية المؤقتة في زيارة خارجية إلى دول الخليج؛ ليقطع بذلك حالة الجفاء بين الدول النفطية والغرب الليبي الذي تمنَّت الأولى إزاحته عن الحكم، ثم تتابعت مواقف الدعم والتقارب بين الطرفين، إلى أن قصدت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش دول الخليج، دولة دولة، تدعوهم للمشاركة في مؤتمر طرابلس للاستقرار في ليبيا؛ وبعدها يكون الصف الأول من الحضور لأصحاب الجلباب الخليجي؛ حتى إن مؤتمر الإعلان عن البيان الصحفي في نهاية الفعالية كان مشتركًا بين المنقوش ووزير خارجية الكويت.
بعد ساعات من انتهاء المؤتمر بالحضور الخليجي النادر، طار رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي وفي صحبته محافظ مصرف ليبيا المركزي إلى السعودية في زيارة، زيارة في ظاهرها المشاركة في مؤتمر دولي عن المناخ، بينما في التفاصيل تكمن الكثير من الأهداف.
مفارقة نادرة.. الدبيبة يدشن مهمته من الخليج
على خلاف سابقيه، وبعد أقل من أسبوعين فقط من تأدية اليمين الدستورية رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، في 16 مارس الماضي، حطّت طائرة عبدالحميد الدبيبة في مطارات الخليج كأول زيارة خارجية بعد منحه الثقة من مجلس النواب، والثانية بعد اختياره رئيسًا للوزراء، بعد زيارة القاهرة، ولقائه الرئيس عبدالفتاح السيسي.
اختيار الخليج لتكون المحطة الأولى لزياراته الخارجية، بعد قطيعة طويلة المدى بين غرب ليبيا والخليج، أشارت وقتها إلى أنَّ بوصلة العلاقات في تغيّر نادر ومهم على الساحة الليبية، بعدما كانت تلك الدول مهتمة بدعم الأجسام السياسية والعسكرية في شرق ليبيا، ما طرح تساؤلات حول مغزى التحول في الموقف نحو الغرب الليبي، وسحب البساط من الشرق، الذي فشلت قواته قبل أشهر (آنذاك) في استعادة العاصمة ومدن الغرب من المجموعات المسلحة الموالية للجماعات الإسلامية.
الملفات الاقتصادية في الصدارة
بدأ الدبيبة وقتها جولته من الكويت، حيث أجرى محادثات مع أمير البلاد الشيخ نواف الأحمد الصباح، بحث خلالها “توحيد الموقف الخليجي في ما يتعلق بالملف الليبي، وتعزيز العلاقة مع دول الخليج كافة، على أساس الاحترام المتبادل والتأسيس لمرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، يعززان فيها التعاون المشترك في كل المجالات”، وفق بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الحكومة الليبية.
اقرأ أيضًا| 100 مليار دولار تنتظر مصر من استقرار ليبيا
في المحطة الخليجية الثانية انتقل الدبيبة إلى أبوظبي، حيث التقى ولي عهدها، الحاكم الفعلي للإمارات، محمد بن زايد، وهناك كانت الملفات الاقتصادية طاغية على المباحثات، لاسيما فيما يتعلق بجلب الاستثمارات الإماراتية إلى السوق الليبية. جاءت البيانات الرسمية مشفوعة بتعليقات من قبيل “تعزيز العلاقات بين البلدين وإقامة شراكات في مختلف المجالات التنموية والاستثمارية والاقتصادية والأمنية”. ثم انتقل الدبيبة إلى السعودية، وهناك أعاد الحديث عن الحاجة لتوحيد الموقف الخليجي تجاه الملف الليبي، ومن بينها تعزيز العلاقات مع الدول الخليجية كافة، على المستويات السياسية والاقتصادية.
وقتها كان الأوروبيون يسارعون الخطى إلى العاصمة الليبية لتأمين مصالحهم مع الوافد الجديد على الحكم، حيث كان رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي أول رئيس حكومة أوروبي يزور طرابلس بعد تشكيل الحكومة الجديدة، والتقى الدبيبة، بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، انتهى الدبيبة من اللقاءين وغادر إلى الخليج.
الكويت أول الذاهبين إلى طرابلس.. الاستثمار كلمة السر
بعد أقل من شهر، انتقل وزير الخارجية الكويتي أحمد الجابر الصباح، إلى العاصمة الليبية طرابلس، حيث أجرى مباحثات مع رئيس الحكومة الليبية، عبد الحميد الدبيبة، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، وسلم الأخير رسالة خطية من أمير الكويت.
وكانت تلك أول زيارة خليجية للعاصمة الليبية طرابلس، بعد منح الثقة للدبيبة، وقالت وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيرها الكويتي، إن بلادها ترغب في الاستفادة من تجربة الكويت ودعم حكومة الوحدة الوطنية في التنمية والبناء والتطوير الاقتصادي.
وخاضت المنقوش في مغزى الانفتاح الخليجي على الغرب الليبي، الذي صار أمرًا واقعًا، بقولها إنها اتفقت مع نظيرها الكويتي على تفعيل اللجنة المشتركة بين البلدين المتوقفة منذ 2010، بالإضافة إلى عودة السفارة الكويتية وعودة الخطوط الجوية الكويتية إلى ليبيا.
المنفي في أبو ظبي.. بن زايد يتحدث عن “عهد جديد”
مضى شهر آخر، وتحديدًا في 6 يونيو، زار رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي العاصمة الإماراتية أبو ظبي، والتقى ولي عهدها محمد بن زايد، الذي قال إن الإمارات تقف إلى جانب ليبيا “خلال مرحلة بناء عهد جديد يحقق الاستقرار والتنمية”، ووصف المباحثات بـ”البنّاءة”.
المنفي اصطحب معه نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية، وحسين العائب رئيس جهاز الاستخبارات العامة، الذي تولى المهمة قبل الزيارة بأيام، وهو رجل المخابرات الموصوف بـ”الداهية” المخضرم، بينما كان التحليلات تشير إلى أن مرحلة جديدة قد دشنتها أبو ظبي مع غرب ليبيا، وهي تتسق مع جملة محمد بن زايد آنفة الذكر “عهد جديد”.
مهمة المنقوش
خلال الأشهر التالية لم تنقطع البيانات الرسمية الخليجية الداعمة لحكومة الوحدة الوطنية، حتى اقترب موعد مؤتمر دعم استقرار ليبيا في العاصمة طرابلس، وقتها طافت وزير الخارجية الليبية نجلاء المنقوش دول الخليج لحشد دعم وحضور بالفاعلية، حيث زارت الرياض في 30 سبتمبر الماضي، والتقت نظيرها السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود.
وفي 3 أكتوبر الجاري، زارت المنقوش الكويت وبحثت مع نظيرها الشيخ أحمد ناصر الصباح العلاقات وتفعيل اللجنة المشتركة بين البلدين، وبعد يوم زارت المنقوش العاصمة البحرينية المنامة، وأجرت مشاورات مع نظيرها البحريني عبد اللطيف الزياني، وأشارت إلى دعم المنامة لمبادرة استقرار ليبيا. وفي اليوم التالي (5 أكتوبر) وصلت المنقوش إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي، والتقت منصور بن زايد وزير شؤون الرئاسة الإماراتية، الذي أكد دعم الإمارات لمبادرة استقرار ليبيا.
الخليج في طرابلس.. الكويت رقم بارز
جاء موعد مؤتمر “دعم الاستقرار في ليبيا”، الذي جرى تنظيمه يوم 21 أكتوبر الجاري، في العاصمة الليبية طرابلس لأول مرة منذ عشرة سنوات. كانت المنصة الرئيسية للمؤتمر تحتوي على 4 مقاعد، الأول لـ وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، وبجوارها نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية الليبية، ثم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة وبجواره وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح، هكذا كان طرفي المنصفة (الأمم المتحدة والكويت).
https://www.youtube.com/watch?v=0ioYiDWtpPk
وعندما عقدت وزيرة الخارجية الليبية مؤتمرًا صحفيًا بختام المؤتمر لاستعراض ما دار من نقاشات والتوصيات، كان بجوارها وزير الخارجية الكويتي أيضًا. هنا يمكن معرفة لماذا كانت أول زيارة خليجية لطرابلس من نصيب الكويت، مزيد من التفتيش عن الاستثمارات.
كان الحضور الخليجي في المؤتمر بارز، بمشاركة السعودية وقطر والإمارات والكويت، بالإضافة إلى الدول التي كانت تمتلك موقفًا داعمًا لشرق ليبيا، على غرار مصر وفرنسا، وهو ما بدا تحوّلاً جوهريًا في خريطة التحالفات الجديدة في الملعب الليبي، باتجاه الاستقرار والمشاركة في إعادة الإعمار والتنمية، مع طيّ صفحة الحرب.
المنفي والصديق الكبير في الرياض.. مهمة أبعد من قمة مناخية
بعد أيام معدودة من انتهاء المؤتمر، انتقل رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي برفقة محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير إلى العاصمة السعودية الرياض، للمشاركة في مبادرة قمة “الشرق الأوسط الأخضر”. بيد أن للزيارة التي يتواجد فيها المسؤول المصرفي الأول في ليبيا ذات دلالات أبعد من قمة مناخية.
الزيارة الأولى للمنفي إلى المملكة العربية السعودية، ترافقت مع مؤشرات على انخراط سعودي أوسع في الملف الليبي، خاصة مع الانفتاح على غرب البلاد، حيث التقى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وعدد من المسؤولين السعوديين، وناقش ملفات سياسية واستثمارية.
والسعودية التي كانت ضمن الدول الخليجية المشاركة في مؤتمر طرابلس، جددت على لسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان دعمها للاستقرار في ليبيا. وأبلغت الرياض المنفي خلال الزيارة موقفها الرافض لأي تدخلات بالشؤون الداخلية الليبية وضمان عقد الانتخابات في موعدها، ودعم جهود اللجنة العسكرية المشتركة لوقف إطلاق النار.
اقرأ أيضًا| موسم احتضان الخصوم.. بن سلمان يصنع كرسيه لحكم السعوديين
دلالات التحوّل في المواقف
هذا التحول الذي أبدته دول الخليج في اتجاه دعم الاستقرار والتنمية، فضلاً عن الانفتاح على الغرب الليبي يحمل العديد من الدلالات، منها:
– تدرك دول الخليج العربية أنّ الوضع في ليبيا آخذ على الاستقرار بدفع من المجتمع الدولي، وأن العودة لمرحلة الحرب أمرًا مستبعدًا، وبالتالي فإن الرهان على أطراف عسكرية على الأرض يبدو خاسرًا، لذلك تبقى الجهة التنفيذية ممثلة في الحكومة، بغض النظر عن خلفيتها، هي الأضمن في إطار البحث عن نفوذ.
– المنافسة على الاستثمارات ومشروعات إعادة الإعمار، باتت سمة غالبة على جميع الفاعلين الدوليين والإقليميين في الحالة الليبية، وبالتالي فإن دول الخليج جزء من هذا التنافس.
– فشل الأجسام السياسية والعسكرية في شرق ليبيا في تأمين موقف دولي داعم، أو تحقيق نجاحات ميدانية وسياسية، جعلها ورقة شبه محروقة.
– تدرك دول الخليج حجم المنافسة التركية في الغرب الليبي، وبالتالي فإن مواجهة أنقرة لن يكون في مكان آخر خارج ملعبها، وهو ما اتضح من تخصيص صحيفة الخليج الإماراتية افتتاحية عشية مؤتمر طرابلس، تحدثت بوضوح عن الحاجة المساحة لمغادرة القوات الأجنبية، وهي إشارة لتركيا، التي وصفتها الافتتاحية بـ”من يصّر على البقاء، ويعتبر وجوده شرعياً، ويتحدث عن حقوق تاريخية”.
– كما فهمت تركيا هي الأخرى الهدف الخليجي، فعرضت بناء عدد من المرافق العامة بالمجان، وهي محاولة للفوز لاحقًا بنصيب كبير من كعكة إعادة الإعمار.
– هذا التوجه الخليجي يتقاطع مع رغبة ليبية في جذب الاستثمارات الخليجية، خاصة في مشروعات الطاقة والمشروعات المستدامة.
– التغيير في الموقف الخليجي تجاه غرب ليبيا ليس بعيدًا عن تطورات المشهد الإقليمي بشكل عام، من خلال التوجه لـ تصفير الأزمات الإقليمية.
– ثمة مشتركات بين دول الخليج وليبيا، لعل أهمها المشاركة معاً في منظمة “أوبك” للدول المنتجة للنفط، في ظل تنافسية الدول المشاركة بالتحالف.
– ترى دول الخليج في ليبيا منطلقًا استراتيجيًا لمد قدمها إلى أفريقيا، في الوقت الذي يمكن أن تستفاد ليبيا من الدعم الأمني والعسكري الخليجي لتأمين حدودها المستباحة في الجنوب أمام العصابات والمتمردين الأفارقة.