حين شرعت في التفكير والتحضير لمقالي، كان أمامي ثلاثة أفكار، أولها حديث عن موضوع الساعة الذي تفجر في أعقاب انسحاب بعض الفنانين من العرض الخاص لفيلم «ريش»، وأثار انسحابهم زوبعة من النقاشات حول «فزاعة» طالما استخدمت في مواجهة أعمال أدبية أو فنية، حيث اعتدنا أن يعلق الرفض السياسي (أو الأمني) لأي عمل إبداعي على شماعة سموها «تشويه سمعة مصر»، وبرز أمامي عنوان أولي للمقال: (سُمعة مصر «مش زي عود الكبريت»)، ولكن بعد متابعة الكثير من المساهمات التي نُشرت حول الموضوع، (وخاصة تلك التي نشرت هنا على موقع مصر 360)، رأيت أنها كفت وأوفت في توصيل الكثير مما كنت أنوي الكتابة فيه وحوله، فقررت أن تكون لي عودة إلى جوهر الموضوع في قادم الأيام.
وكان ثاني تلك الأفكار يتعلق بالحديث عن رحيل العالم الكبير أستاذنا الفيلسوف والمفكر الإسلامي الدكتور حسن حنفي، ولي معه ذكريات منذ أول لقاء في منزله، ونحن ما نزال طلابا في الكلية التي هو أستاذ فيها، واسم لامع في الحياة الثقافية العامة، حتى آخر لقاء رمضاني جمعنا (في بيته أيضا) في حضرة الراحل الكبير الأستاذ محمد عودة، وما زالت مناقشاتهما الثرية حول العدد الوحيد الذي صدر من «مجلة اليسار الاسلامي» تملأ كل تفكيري وذاكرتي.
ولكني خشيت أن تتحول المقالة -وسط أحزان الرحيل- إلى ما يشبه المرثية، فآثرت أن أُرجئ الحديث إلى موعد قادم، إن أعطانا الله العمر والصحة للوفاء بهذا الدين الذي في رقبتنا نحو أستاذنا الدكتور حسن حنفي، وهو يحتاج بالتأكيد إلى كتابة مفصلة، ودراسة موضوعية، تأصيلية ونقدية للمشروع الفكري الذي خلَّفه وراءه أستاذنا الراحل الكبير.
أما ثالث الأفكار فكان هو موضوع مقالي هذا وتدور حول دلالات ذلك الحادث الذي جرت وقائعه الأسبوع الماضي في قلب «ميدان التحرير»، فيما يمكن تسميته بواقعة «الكبش»، وللأسف أنه مرَّ مرورا عابرا، كأنه منفصل عن سياقاته، منبتُ الصلة عما يجري من حولنا.
**
بين موقعة «الجمل»، وواقعة «الكبش» رابطٌ كبير غير المكان الذي جمع بينهما، أهم ما يربطهما -في نظري- أنهما ينبتان من نفس الطينة، وينبعان من ذات الخلفية، تحكمهم أزمة ثلاثية الأبعاد تعاني منها المجتمعات المتخلفة التي تأسس تخلفُها على ثلاثية «تحطيم العقل»، و«تسييد الخرافة»، و”تحكيم التسلط”.
مثل هذه الحوادث المتكررة تدل في العمق على أننا ما زلنا نعيش ما سماه بعض المفكرين «هجمة ارتدادية» على الفكر المستنير والعقلانية، شهدتها الساحة الثقافية العربية منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي الموجة التي استهدفت -وما تزال تستهدف- «تحطيم العقل، وازدراء التفكير العقلاني»، الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام التيه والضياع وفقدان الهوية.
**
في موقعة «الجمال»، شهد «ميدان التحرير» انتصار العصرنة على التخلف، حيث كشفت جوهر الصراع الذي جرى على مدار 18 يوما بين نظام يتهاوى، وبين آمال تتعاظم لدى الشباب الثائر، وفي واقعة «الكباش» بعد أحد عشر سنة عاد «الميدان» ليشهد من جديد واقعة فردية تحمل نفس سمات التخلف في التفكير.
الدخول المفاجئ للجمال والبغال والخيول إلى «التحرير» ظُهر يوم 2 فبراير سنة 2011 في محاولة يائسة لإخلاء الميدان من المعتصمين فيه، اكتسب رمزية تعج بالمعاني والدلالات العميقة، وبدا المشهد كأنه مقتطع من معارك العصور الوسطى، كأن الماضي يحاول جهده أن يعرقل ولادة المستقبل، أو كأن يد التخلف أرادت أن تحجب قرص الشمس التي أشرقت أنوراها في قلب الميادين.
ثم هذا الصعود المفاجئ لرجلٍ يحمل في قبضته مطرقة صغيرة أراد أن يحطم بها التماثيل المصرية القديمة الملتفة حول مسلة «ميدان التحرير» والشهيرة بتماثيل «الكباش»، وكان يهتف بأعلى صوت يقدر عليه: «الله أكبر»، تشعر معه أننا أمام مشهد قادم من جوف التاريخ، وهو استلهام خاطئ وجهول لبعض وقائع هذا التاريخ.
**
ليست المرة الأولى أيضا التي يجري فيها هذا الاستدعاء الجهول للتاريخ، ولا هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا المشهد العبثي في كثير من بلدان المسلمين، الظاهرة متكررة، وهي لصيقة بتخلف المجتمعات التي يسود فيها الفساد والتسلط وتغييب الوعي وتسطيح العقول.
ولا شك في أن بعضنا ما زال يذكر أن «إسلاميين متطرفين» حاولوا في بداية التسعينيات، تحطيم التماثيل العارية بحجة أنها تخدش الحياء، فيما طالب آخرون بتغطيتها حتى تكون أكثر حشمة، وهناك «داعية كويتي» مازالت المواقع المتشددة تذكر رأيه القائل بأن إزالة الأصنام والأوثان ضرورة شرعية، وكذلك الآثار التاريخية بما فيها «الأهرامات» و«أبي الهول”.
وهناك «داعية مصري» ذهب إلى أن التماثيل الفرعونية تشبه الأصنام، ولا بد من تغطية وجوهها بالشمع، وهناك برامج فضائية ظلت تصدع أدمغتنا لمدة طويلة بعد ثورة يناير 2011 بدعاة وأشباه دعاة يُفتون في كل شيء، وتذهب آراؤهم كلها إلى كل غريب ينكره العقل، ولا يقره صحيح الدين.
ولا شك أن كثيرين منا يذكرون ما جرى في «الإسكندرية» في أحد المؤتمرات الانتخابية التي أقامتها بعض الأحزاب الدينية حين اعتبر منظمو المؤتمر أن التمثال الإغريقي «حوريات البحر» الذي يصور الإله زيوس، في هيئة 4 حوريات بحر، يجلسن على منصة رخامية، عملا خارجا، فقاموا بتغطيته بالقماش والحبال، وحجبوه تماما عن الحاضرين، وعلقوا عليه لافتة بعنوان «المرأة المصرية هي التي تستقطع من وقتها لزوجها، ولا تنسى بناء وطنها”.
**
رمزية مثل هذه المشاهد المتكررة تفضح هذا الاستلهام الجاهل لمشهد تاريخي غابر يظهر فيه إبراهيم عليه السلام حاملا فأسه محطما لأصنام قومه وأوثانهم التي يعبدونها من دون الله.
كانت عبادة التماثيل من دون الله هي المسألة، ولم تكن التماثيل هي المشكلة، ولقد سار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا النهج القويم، أزالوا التماثيل المعبودة وحطموها في جزيرة العرب، ثم تركوا التماثيل في البلاد التي فتحوها عندما لم تكن معبودة من دون الله.
فتح عمرو بن العاص مصر، وكان في جيشه الفاتح كوكبة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، تركوا التماثيل في مصر، لأنها لم تكن معبودة، ولم يكن المسيحيون في مصر يعبدونها، ولم تكن خطرا على عقيدة الجيش المسلم الفاتح لمصر، ونفس الشيء حدث عندما فتح المسلمون بلاد المشرق وذهبوا إلى أفغانستان، رأوا فيها هذه «التماثيل البوذية» التي كانت موجودة قبل ذلك التاريخ، وتركوها، وبقيت حتى عصرنا الراهن.
**
هذا الذي جرى في قلب «ميدان التحرير» الأسبوع الماضي ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، هو جزء من سياق واحد، رغم اختلاف الحوادث وتعددها، وتنوع أطرافها، وهي ظاهرة ممتدة على مساحة البلدان العربية والإسلامية.
تكرار هذه المشاهد تظهرنا على أننا أمة ضاع منها رشدها، أو هي سُلبته بفعل فاعل، أمة لا تحسن وضع أولياتها، وتتعامل مع أزماتها بالقطعة، وتنتفض في مواجهة الصغائر، وتترك كبائر الأمور، ولا تتحرك إلا في مواجهة العرض، وتتغافل عن الأمراض التي تنهش في قدرتها على النهوض من جديد، وهي مع الأسف الشديد مبتلاه بتغييب العقل على أيدي من يتصورون أنفسهم رعاة لما يسمونها بالصحوة الإسلامية، هؤلاء الذين تلهيهم المعارك الصغيرة، ويُعرضون عن معارك الأمة الحقيقية، لا يثورون في وجه السلطان الجائر، بل يثورون في وجه التمثال الحجري.
**
في ذاكرة السينما المصرية ثلاثة أفلام، يتناول كل منها واحدا من أضلاع هذا الثالوث غير المقدس، ففي «قنديل أم هاشم» عالج الفيلم قضية تغييب العقل، وفي «البيضة والحجر» فضح صناع الفيلم فكرة تسييد الخرافة، أما فيلم «البداية» فتناول قضايا التسلط والسلطوية وتسطيح الوعي.
«قنديل أمّ هاشم» أشهر روائع كاتبنا الراحل الكبير «يحيى حقي»، استطاع فيها أن يجسد أمامنا قضية الصراع بين العلم والخرافة، بين الدّينى والطبي، بين العلم الحديث والمعتقدات المتوارثة، بين العلمىّ والروحاني، وانتهى إلى أن المجتمع المصري مثقل بعاداته وتقاليده والخرافات التي تتحكم في طريقة تفكيره، ومع ذلك يمكن له أن يتقبل الحداثة الوافدة إذا قدمت إليه في إطار من احترام تراثه وقدرتها على الاندماج في قالبه الخاص.
انحاز يحيى حقي في «قنديله» إلى أن «مشكلتنا الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا هويتنا أو نفلت منها».
**
في «البيضة والحجر» فضح صناع الفيلم تلك اللعبة المزدوجة بين الدجال والمجتمع الذي تشيع فيه الخرافة والشعوذة، حيث تتناغم الشعوذة والدجل مع التخلف وسيادة الخرافة، وعندما يفقد مدرس فلسفة وظيفته بسبب نشاطه السياسي، يلجأ إلى تلك المعادلة، مستغلا ذكاءه وجهل المجتمع لتحقيق الثراء والشهرة وقوة التأثير فيمن حوله.
الفيلم الذي كان يحمل أولا اسم «الهجايص»، بعد رفض الرقابة تم تسميته «البيضة والحجر»، يكشف فيه مدرس الفلسفة المثقف، كيفية استغلال الجهل في إيهام الناس بحل مشكلاتهم وعلاجهم روحيا، لذلك كان يردد: «ويلٌ للعالم إذا انحرف المتعلمون وتَبَهْيَظَ المثقفون».
**
فكرة فيلم «البداية» تدور حول التسلط وحب السيطرة وأنها غريزة بشرية في أي زمان ومكان، والفيلم يبدو في مجمله عملية إسقاط يكاد يكون مباشرا على أدواء المجتمع من خلال حاكم فاسد مستبد، وصحافة فاسدة تلعب على كل الأطراف، وحراس الحاكم الذين يجري اختيارهم من هؤلاء الذين يسهل ترويضهم، أو شراء ذممهم وولائهم، ويسلط الفيلم بذكاء الضوء على تلك الفجوة الكبيرة بين «المثقفين» وبين عامة الشعب، وكيف يعمل الحاكم على توسيع تلك الفجوة، إضافة إلى تهميش السلطة والمجتمع كله للعلماء، والكثير من الاسقاطات السياسية والاجتماعية الأخرى.
من أبرز مقاطع فيلم «البداية» مشهد: «ده راجل ديمقراطي»، وهي العبارة التي أراد بها الحاكم تشويه المثقف المعارض، فقام بعملية تشويه متعمدة لفكرة «الديمقراطية» ذاتها، حتى يفقد المواطن الثقة في واحدة من أهم متطلبات تقدمه وخروجه من حالة التخلف المفروضة عليه، وحالة الإفقار التي تفقده إنسانيته.
**
«تحديث العقل العربي» صار قضية ملحة، وضرورة للتقدم على طريق تحديث المجتمع والدولة، لم تعد قشور التحديث تجدي نفعا معنا، لأنها لا تنتج مجتمعا حديثا، ولا تقيم دولة حديثة، ببساطة لأنها تغفل فكرة «تحديث العقل».
ليس أمامنا طريق مفتوح إلى الحداثة بغير أن نعي جيدا أن الحداثة الحقيقة بتنمية الوعي، وتفكيك التسلط، وفتح المجال العام لأوسع مشاركة مجتمعية، بدون ذلك لا يمكن أن نقيم «حداثة» حقيقية.
«تحديث العقل» يحتاج الى تنمية مجتمعية شاملة، ويتطلب إعادة الاعتبار لقضية التعليم في مصر لتأخذ وضعها اللائق بها على رأس الأولويات العاجلة والملحة التي لا فكاك من التعامل معها بجدية إن أردنا دولة حديثة، يُؤسسُ بنيانُها على الاستثمار في البشر قبل الحجر، وهو استثمار طويل الأجل، لكنه مضمون النتائج ومأمون العواقب.
من هذه الزاوية في الرؤية أنظر إلى واقعة «الكباش» التي لا يجوز أن تمر مرورا عابرا، لأن مثل هذه «البثور» التي تظهر بين حين وآخر على وجه المجتمع، تنبئنا أن في جوفه أمراضا قاتلة، إن لم نتمكن من تشخيصها التشخيص الصحيح، وإن لم نعالجها العلاج المناسب.
ما زلت أعتقد أن «محضر التحقيق» في قضية «تحطيم العقل» لم يغلق بعد، وأنه لابد لنا -إن أردنا النجاة- أن يظل التحقيق مفتوحا حتى يبلغ منتهاه.